الصعيد ومحمد علي
في كتاب إمبراطوريات متخيّلة لزينب أبو المجد، والذي يتحدث عن تاريخ الثورة في صعيد مصر، والصادر عن المركز القومي للترجمة، تُناقش الباحثة في الفصل الثالث علاقة الصعيد بمحمد علي باشا. كما أن هناك حدثًا في غاية الأهميّة في تلك الفترة لدلالته، وهو ثورة إبريل 1824، والتي تعدُّ أكبر تمرُّدٍ حدث على محمد علي من المصريِّين.
الصعيد كمستعمرة أولى:
تقوم الكاتبة بافتراض أساسيّ، وهو أن السيطرة على الصعيد من جانب محمد علي، وضمِّه تحت لواء الدولة المركزية، ساهم بشكل رئيسي في مساعدته في مشاريعه وتوسُعاتِه الحربيّة، عن طريق موارد الصعيد المختلفة البشرية والمادية. وتنتقد الباحثة الروايات القومية المهيمنة على دراسة تلك الفترة، وإهمالها لنظرية الاستعمار الداخلي في التفسير. وتضرِب أمثلة مثل تجربة بريطانيا وأيرلندا، وإسبانيا في كاتالونيا.
ويُوضِح مايكل هيتشر في كتابه (الاستعمار الداخلي) (أن التوسُّع السياسي والاقتصادي للإمبراطورية البريطانية أعقبَ مرحلة استعمار واستغلال الأيرلنديين والإسكتلنديين وسكان ويلز في مبتدأ الأمر. حولت الإمبراطورية تلك الثقافات المهمشة إلى ممثلين للمصالح القومية البريطانية، ثم وظفتهم في توسيع نفوذها الخارجي.
ومن قبل محمد علي، تمتَّع إقليم الصعيد بالحكم الذاتي لفترة طويلة للغاية، فكان يسوده نظامٌ محلي مستقل، قادته القبائل، وخصوصا قبيلة الهوارة، والتي كان منها شيخ العرب همام، الذي أسس دولته في الصعيد، وتحدثت الباحثة باستفاضة في الفصول الأولى من الكتاب عن تلك الدولة. كما تمتع الصعيد بانتعاش اقتصادي كبير، وذلك نتيجة توافر الحبوب وقصب السكر، وصناعات مثل السكر والمنسوجات. وأيضًا لموقعه المركزي في النظام الاقتصادي العالمي السائد آنذاك، وخصوصًا تجارة المحيط الهندي، فشكلت موانئ النيل، وموانئ البحر الأحمر حلقات ربط أساسية للأسواق الإقليمية.
وتتحدث الكاتبة أن أسلوب إدارة محمد علي لتلك المستعمرة الداخلية، اختلف مع اختلاف الظروف، حيث تميز بالقمع في بداية الأمر بشكل مباشر، وبعد القضاء على الاحتجاجات الضخمة التي حدثت في أوائل القرن التاسع عشر، والتي سنتحدث عنها بالتفصيل، لجأ الباشا لأسلوب الإدارة الناعمة، حيث أرسل موظفيه الأتراك للاستيطان في الصعيد، وأنشأ المصانع، والإقطاعيات الزراعية الكبرى، وحاول فرض مؤسساته البيروقراطية على تلك المناطق.
مطاردة المماليك:
تتحدث الكاتبة أنه بحلول عام 1811، كان إبراهيم باشا بن محمد علي قد انتهى من السيطرة العسكرية على مناطق الصعيد بالكامل، حيث كان يطارد باقي المماليك الفارّين من مذبحة القلعة، وعين محمد علي ابنه حاكمًا على تلك المناطق. واتخذ إبراهيم باشا من قنا مقرًاً له. وتقتبس الكاتبة من الجبرتي عن بعض ما فعله إبراهيم باشا في الصعيد.
)فعل بهم فعل التتار عندما آلوا بالأقطار، وأذل أعزة أهله، وأساء أسوأ السوء معهم في فعله). كما سلب (نعمهم وأموالهم وأخذ أبقارهم وأغنامهم، ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه، أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه، ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة، ويُلزمهم بتحصيلها وإغلاقها وتعجيلها فتعجز أيديهم عن الإتمام(
كان إبراهيم باشا صغيرًا في السن، وصفه الجبرتي بالجاهل، الذي لا يعرف شريعة ولا مؤمرات ولا منهيات، فأبوه لا يعلمه إلا القتال وجمع الضرائب. وتَذكُر الكاتبة أن في ظل احتكار محمد علي لكافة السلع وللتجارة بشكل عام، مثلت غلال الصعيد من القمح مصدر ربحٍ هائل، حيث صدّرها إلى أوروبا أثناء الحرب النابوليونية بأسعار مضاعفة. فصدَر مرسوم من الباشا سنة 1812 بمنع أي تاجر محليّ من المشاركة في تلك التجارة، وإرسال كل تلك الحبوب في مراكب نيلية إلى الإسكندرية حيث سيتم بيعها إلى القوى الأوروبية.
موارد الصعيد:
ومثل قمح الصعيد أيضًا، المورِد الرئيسي لحروب الباشا، خاصة حرب الحجاز التي كان يقودها ابنه إبراهيم باشا، فكانت تلك الحبوب أساسية لاستمرار الجيش في القتال. ولم يُمثِّل القمح فقط مورِدًا رئيسيًّا للجيش، بل كافة إيرادات الوجه القبليّ بأكمله كانت مخصصة للجهادية.
حيث يَذكُر محمد مبروك محمد في كتابه (الإدارة المالية في عهد محمد علي) أنه: ((قد خصص محمد علي جميع إيرادات الوجه القبلي للإنفاق على الجهادية، وصدرت الأوامر على مأموري الوجه القبلي بهذا الشأن)). حيث كان يتم توريد المبالغ المطلوبة من الوجه القبلي إلى خزينة الهادية مباشرة. وتذكُر الكاتبة أشكالًا أخرى كثيرة لاحتكار محمد علي الكثير من المحاصيل، كقصب السكر، والصناعات كصناعة السكر، كما أنه أصدر مرسومًا في 1820 بمنع تشغيل أي مغزل أو محلج خاص في مصر، وذلك لأنّ الباشا سوف يحتكر الإنتاج لمصانعه الخاصة، وضرَّ ذلك بشدة بكثير من المنتجين والنساجين اليدويين.
ثورة الصعيد:
تذكر الكاتبة ثلاث ثورات اندلعت في الصعيد بين سنوات 1820 و1824. وتوسعت هذه الثورات في أرجاء الجنوب المصري بكامله، وحدثت هذه الاحتجاجات بعد عودة إبراهيم باشا للقاهرة.
تقول الباحثة .. ((استحوذت حركات التمرد الكبرى الخارجة من قنا على اهتمام العديد من المؤرخين المعاصرين الذين سعوا إلى تبيان أسبابها وتحليل التركيبة الاجتماعية للثوار المشاركين فيها. من ناحية، افترض بعض هؤلاء المؤرخين، بالأخص جابريل باير، أن تلك التمردات هي موجات عصيان ريفيّ تقليدية للاحتجاج على الضرائب الباهظة وأعمال السخرة والتجنيد الإجباري التي فرضها الباشا. فيما جادل آخرون، وتحديدًا فري لاسون، بأنها حركات عماليّة متقدمة الطابع، اندلعت عندما فقد النساجون والتجار في قنا أسواقهم التقليدية لمصلحة مصانع الباشا الرأسمالية الحديثة.((
في الثورة الأولى، وهي الأضخم، حشَد الشيخ أحمد، نحو 40 ألفًا من الفلاحين الغاضبين لإسقاط حكومة محمد علي، وكان هذا الشيخ واحدًا من التجار الذين مسهم الضر، بسبب احتكار محمد علي لخطوط التجارة بالكامل لنفسه. ادّعى الشيخ أنه المهدي المنتظر، ونشر دعوته بين الفلاحين، وانضم وجهاء العائلات العربية له.
نصّب الشيخ نفسه حاكمًا على قنا وقوص، واستولى على الأموال والغِلال الميري، وأنشأ ديوانًا للحكم، عيَّن فيه رجاًلا خاصين به، وتحت تلك اللغة الدينية، وتلك الدعوات الأيديولوجيّة، تقول الكاتبة أن الفلاحين انضموا للشيخ، ليس تصديقًا لخطابه الديني، على قدر ما أثقلهم ظلم الباشا وكثرة ضرائبه. وتذكر الكاتبة كيف كان ذلك الشيخ ذكيًّا، ومُحنَّكًا في اتخاذ قرارته، فهو كان على دراية جيدة بكافة العلاقات وتوازنات القوى.
مواجهة الثورة:
تمثل تلك الثورة نقطةً لها دلالة بالغة في فترة حكم محمد علي وتعامله معها، حيث أرسل محمد علي جيشه النظاميّ المكون من الفلاحين بالأساس، للقضاء على تلك الثورة، والتي كانت في قُراهم الأصليّة في الصعيد الذي أتوا منه !. فماذا فعل هذا الجيش عندما وجد نفسه في ذلك الموقف؟
يقول خالد فهمي في كتابه كل رجال الباشا: (وفي البداية لقيت القوات مقاومة شرسة من القرويين وهُوجِم الضباط وقُتِلوا، بل وانتشرت شائعات بأنّ التمرد قد امتد إلى الجيش ذاته، وأن حوالي 700 جنديّ قد انضمّوا إلى المتمردين، فأمر الباشا بإجراء تحقيق فوريّ مُنذِرًا بإعدام من يثبت عليه الاتهام وفي النهاية تم إعدام 45 ضابطًا رميًا بالرصاص أمام جنودهم).
ذهب الجيش بقيادة أحمد عمثان بيك لقمع التمرد، حيث أسفر ذلك في النهاية عن مقتل 4000 شخص، سحق الجيش النظامي كل ما في طريقه، وأعجب ذلك الباشا بشدة، حين علم أن الجنود لم يترددوا في قتال المتمردين الذين كانوا أحيانًا من جيرانهم أو أقربائِهم، بل يَذكُر فهمي في كتابه واقعة، أن جاويشا أثناء الهجوم على قرية متمردة وجد أباه من بين المتمردين، وحين فشل في إقناعه بالتسليم قتله. وحين علم محمد علي بهذا الحادث كتب إلى محمد بيك لاظ أوغلي، ناظر الجهادية، يمدح الجندي ويرقيه إلى رتبة ملازم!.
وفي النهاية فرَّ الشيخ أحمد والكثير من المتمردين إلى جبال الصحراء، وأعلن أحمد عثمان بيك، بمكافأة سخيّة عن كل رأس لشخص من المتمردين، وبالفعل جاب العُربان الجِبال بحثًا عن هؤلاء، وعادوا للبيك بالرؤوس المقطوعة وتسلّموا مكافآتهم. أمّا الشيخ أحمد قائد المتمردين فقد هرب إلى الحجاز، وانقطعت أخباره، ولم يُسمع منه بعد ذلك.
سيطرة بيروقراطية:
بعد الانتهاء من القضاء على تلك التمردات، استخدم محمد علي مؤسساته البيروقراطية للسيطرة، فأرسل محمد علي موظفيه الأتراك، كما أمر مشايخ القرى، بإنشاء المزارع التجارية الضخمة، وطبَّق سياسات التخطيط المركزي، حيث تسيطر الدولة على كل شيء. تُشبِّه تلك الباحثة الأتراك القادميين إلى الصعيد (بالمستوطنين) وتُشبِّه ما فعله محمد علي، بما فعله المستوطنين في أمريكا الشمالية.
غير هؤلاء الأتراك من التركيبة الاجتماعية في الصعيد، فبوجودهم على قمة الهرم البيروقراطي، حازوا الألقاب التي ميزتهم عن غيرهم من المصريين، كما اشتروا النتاول الكبيرة لتأويهم هم وأسرهم. وعندما قسَّم محمد علي الأراضي لأشكال جديدة، حصل هؤلاء الموطفين على الأبعديات الضخمة، والتي أعطتهم مزيدًا من الثروات والقوة والسلطة. استخدم هؤلاء الأتراك الفلاحين المصريين في زرع أراضيهم الضخمة، ونتيجة للظلم، انتشرت ظاهرة الهروب أو (التسحب)، لكن بمساعدة القبضة البيروقراطية القوية، كان يتم إعادة هؤلاء الأشخاص بالقوة، ليتلقوا عقوباتهم، ثم يكملوا العمل. ساعد النخبة التركية، مشايخ القرى الذين كانوا يحوزون مكانة هامة في المجتمع الريفي، فوفروا لهؤلاء النخبة القوة البشرية اللازمة، كما راقبوا الفلاحين، وجمعوا منهم الضرائب، وساعدوا البيروقراطية في السيطرة على ظاهرة التسحب، كما تعاونوا أيضًا مع النخبة المحلية في إنشاء الشركات التجارية المختلفة.
استعانت هذه النخبة البيروقراطية، بكافة الأدوات للسيطرة، وتنفيذ قوانين الباشا، حيث أدارت تلك النخبة استثمارات الدولة الصناعية، في النسيج والبارود والسكر، كما عاونهم المهندسون من القاهرة، في إنشاء السواقي، وقنوات الري المختلفة، والسدود، والصيانة.
تهميش الصعيد:
تقول الباحثة أن الباشا استحدث ثلاث مؤسسات منفصلة عن بعضها بالدولة، وهي المجلس التشريعيّ، وجهاز بيروقراطيّ حديث، ومحاكمَ شرعيَّة، حصل الوجه البحري والقاهرة على تمثيل مناسب في هذه الهيئات، بينما تم إهمال فلاحوا الصعيد بشكل مُمنَهج، فلم يحصلوا على التمثيل المناسب في مؤسسات الدولة، رغمَ أنهم كان يتم استنزافهم بكل الأشكال.
أسس محمد علي مجلس المشورة عام 1824 كهيئة تشريعيّة تشبه البرلمان، وكان قوامه بالأساس من الأتراك، وفي عام 1829 وسّع هيئته الباشا ليضم إليه شيوخ القرى بالتعيين، ثم فتح الباب أمام الأهالي من المصريين لينالوا حق التمثيل. تقول الباحثة أن جميع مديريّات الدلتا حصلت على تمثيل لائق، بينما لم يمنح الباشا مقعدًا واحدًا لشيوخ قرى الصعيد فيه. كان هذا المجلس يتدخل في كثير من الجوانب الإدارية والاقتصادية، ونظرًا لغياب نواب يتحدثون باسم الصعيد، انخفضت المشروعات العمومية في الوجه القبلي انخفاضًا ملحوظًا.
وعندما أدخل الباشا إصلاحات جديدة ومحدودة بعض الشيء لدمج المصريين في البيروقراطية التي كان يسيطر عليها الأتراك، عيَّن بعضًا من شيوخ القرى في الوجه البحري، حيث تولوا مناصبَ مرتفعة، بينما لم يُعيُّن واحدًا من شيوخ القرى في الصعيد والوجه القبلي. وهنا يظهر هذا الإهمال والتهميش الذي عاناه الصعيد في ذلك العهد.