الشعب غير مؤهل للديمقراطية!
قال عمر سليمان: “كلنا يؤمن بالديمقراطية، لكن متى تُطبق؟ عندما تسود ثقافة الديمقراطية”!
ويقول البعض: “الديمقراطية حق، لكن لا حرية لجاهل، فممارسة الديمقراطية يجب أن تتأخر حتى ينضج الشعب أولاً”!
كما ترى لا يجرؤ أحد على تشجيع الاستبداد صراحة، لكن الثغرة التي يدخل منها كل مستبد: جهل الشعب واستنارة الحاكم. ويطالب بتأجيل الديمقراطية حتى يتعلم الشعب!
أولًا: مَنْ يحاكم الشعب؟
إن كان الشعب غير مؤهل للديمقراطية، فمتى تُطبق الديمقراطية؟
سيقولون: عندما يتعلم الشعب!
لكن متى نقول أنه تعلم؟! ما معايير تقييم وعي المجتمع؟! من يحدد أهلية المجتمع ليتحكم في مصيره وبلده؟! من تقول عليهم متخلفين، إذا وصفوك بالتخلف، لماذا نترك تقييمهم ونتبع تقييمك؟!
بالقياس هل يجوز تزويج امرأة دون إرادتها بحجة أنها لا تعلم مصلحتها؟! هل يجوز الحجْر على مال أحد بحجة أننا نراه لا يحسن التصرف فيه؟!
الوجه القبيح لهذه الحجة أن كل من يحكم أو يحمل السلاح يعتقد أن كل المخالفين متخلفون، ولن يطبق الديمقراطية إلا إن أصبح الشعب مثله واختار اختياراته! ويظل الوضع كذلك حتى يحكم الآخر بالسلاح، فيلغي الديمقراطية هو الآخر حتى يصبح الشعب مؤهلاً، أي مثله! وبذلك لا صوت يعلو فوق صوت السلاح!
ثانيًا: الاستبداد هو الحل = الاحتلال هو الحل!
عانت هذه الأمة العربية لمدة قرون من احتلال أجنبي، نكَّس أعلامنا، واستعبد أهلنا، وكتم أفواهنا، وداس حضارتنا، وحرمنا حريتنا. وكان الأساس الذي يستند عليه وينطلق منه: “هذه الشعوب غير مؤهلة للديمقراطية”، وبالتالي هذه الشعوب لا تُحكم إلا بالسلاح، ومن هنا سمَّى المحتل نفسه: المستعمر؛ أي جاء ليعمِّر بلادًا خرَّبها أهلها، وهي نفس المقولة التي يستند عليها الاستبداد!
إذن فالاحتلال والاستبداد وجهان لعملة واحدة، فإن كانت شعوبنا حقًا غير مؤهلة، ولا تستحق حريتها، ولا حل إلا بحكم السلاح، فيلزم عن ذلك السماح بالاحتلال الأجنبي، ليحسم كل خلاف، ويقطع كل نقاش، ويُسكِت كل معارضة، ويحقق الأمان!
يقول د. إمام عبد الفتاح إمام: “في ظني أن المستعمر لن يجد حجة لاحتلال الشعوب المتخلفة أقوى من حجة: هذه الشعوب غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها، وهي (قاصرة) لا تعرف مصلحتها الخاصة، وسوف نقوم نحن بهذا الدور”([1])!
ثالثًا: ما البديل عن الديمقراطية؟
إن كنتَ تخشى إساءة الشعب الجاهل للديمقراطية، ألا تخشى أن تضع البلد كلها في يد حاكم واحد ويصبح جاهلًا أو خائنًا أو مستبدًا؟!
ألا تخاف أن تخاطر بمصير الملايين من الشعب وتضعه في يد رجل واحد، بلا سؤال ولا حساب ولا مراجعة ولا رقابة؟!
حتى لو أخطأت الديمقراطية، وأخطأ عموم الشعب لجهله، فيظل احتمال حدوث ذلك أقل من خطأ رجل واحد مستبد، فتظل الديمقراطية – وإن أخطأت – أفضل الحلول المتاحة.
اعطني اسمًا لبلد مزقته الديمقراطية والحرية والانفتاح؟
أما أنا فأعطيك ألف وطن سُرقت حدوده، وأُنتهكت أعراضه، وسُرقت أمواله، وشُرد شعبه، وعُذب علماؤه بسبب حكام مستبدين.
انظر مثلًا لهذا البديل: يقول أحمد المسلماني في مقاله (جريمة رائعة) متحدثًا عن مذبحة القلعة: “إنسانيًا لا يمكن أن يقبل أحد وقائع قتل وغدر مفجعة تزاحمت فيها الجثث فوق الخيول وتحت الأقدام، غير أنني أقف تمامًا على النقيض من ذلك الحسّ الإنساني البدائي، لأكون واحدًا من الذين يحترمون هذه المذبحة الرائعة. إنني واحد ممن يرون أن بعض رؤى الإصلاح والتقدم لا تحتمل ترف الحوار والجدل والإقناع”([2])!
هذه المذابح والمجازر للمعارضة هي البديل المنتظر!
وأمامنا نموذج ألمانيا حين ساقها ديكتاتور مجنون: أدولف هتلر، وكانت النهاية إذلال ألمانيا في نكبة هي الأشد في تاريخها.
يقول محمد الغزالي: “قد ظهر في الغرب زعماء مستبدون، كانوا على جانب كبير من العبقرية والإقدام، وكانوا يحترقون إخلاصًا لأوطانهم، وحمية لإعلاء شأنهم، ولكن هذه الميزات العظيمة ذهبت سُدَى، وراحت بددًا، ضحية الاعتداء الأخرق بالرأي، وفَهِمَ الزعيم أنه هدية القدر للشعب، فيجب أن يصير كل شيء إلى تقديره، وأن تزدري الخطط كلها إلا خطته.
فكانت نتيجة هذا الاستبداد أن سقطت ألمانيا وإيطاليا، وأن قُتل (هتلر) و(موسوليني)، وهما من أقدر الرجال الذين ظهروا في العصر الحديث.
والحكام الذين يستبدون بالأمور في الشرق يعتبرون أطفالًا عابثين إذا قيسوا إلى أقدار هؤلاء الزعماء المهزومين، فإذا كان الاستبداد قد قتل الذكاء ونكب شعوبًا مثقفة بارعة، فكيف الحال مع (الزعماء الصور) في أمم واهنة متهالكة؟”([3])
ويقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “ما يقال عن أن الشعوب المتخلفة لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها حكمًا ديمقراطيًا صحيحًا، مردود عليه بسؤال واحد: وما البديل؟ والجواب هو: البديل هو حكم الطاغية، أو المستبد، أو الدكتاتور، أو سَمِّه ما شئت من الأسماء. وإذا كانت الديمقراطية ممارسة، فإننا بعد أن يحكمنا الطاغية عشرات السنين سوف نبدأ من البداية، من الصفر!
الديمقراطية الناقصة أو العرجاء خير ألف مرة من حكم الطغيان”([4]).
رابعًا: ماذا لو أخطأت الديمقراطية؟
لم تَعِد الديمقراطية بأنها نظام معصوم. وفي الحقيقة لا يوجد أصلًا نظام معصوم يعد بعدم وقوع أخطاء!
الديمقراطية تَعِد بأنها أفضل طريقة ممكنة تمنع الفوضى، وتمنع الحروب الأهلية، وتمنع الاستبداد، وتمنع اضطهاد المعارضين، وتمنع التسرع في إصدار قوانين ضارة دون تشاور، وتعد أن يتمكن المواطنون من إدارة وطنهم، ورقابة المسئولين، وتساوي الفرص بين المواطنين. وهذه الطريقة هي أفضل المتاح، والأسلم، والأقرب للمصلحة العامة، والأعدل.
وحتى لو نتج عن الديمقراطية قرارًا خاطئًا، مثل اختيار حاكم فاسد، أو نائب فاسد، أو رأي مضر، فآليات الديمقراطية نفسها قادرة على تصحيح خطأها؛ فحين ينتخب الشعب حاكمًا ويَثْبُت فساده، فيمكن فضح الفاسد بإعلام حر، وانتقاده بمفكرين مستقلين، وعزله بمجلس نواب منتخب، ومحاكمته بقضاء مستقل.
وهذا هو الدرس المستفاد من توقيت نزول قوله تعالى: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾([5])؛ إذ نزلت بعد أن استشار النبي الصحابة في غزوة أحد: هل نقاتل العدو خارج المدينة أم نحتمي بالمدينة؟ فاتفقت الغالبية على الخروج من المدينة، وثبت خطأ هذا الرأي، وانهزم المسلمون، ثم نزلت هذه الآية في هذا التوقيت الحرج، كأن رسالتها الأساسية ليست فقط الأمر بالشورى، بل رسالتها الأساسية: الالتزام بالشورى، حتى لو نتج عنها خطأ، فلا يدفعكم هذا الخطأ أن تتخلوا عن الشورى وتحيدوا عنها.
أما الاستبداد فهو وضع الوطن بكاملة تحت مقامرة ورهان رجل واحد، إن أخطأ، فلا رجوع، ولا ضمانة، ولا حساب، ولا تصحيح للخطأ، فهو طريق بلا رجعة!
يقول خالد محمد خالد: “حين ترى سلطة تشريعية تمثل الشعب تمثيلًا ديمقراطيًا سليمًا عدم الاقتناع بوجهة نظرنا، فإننا – باسم الديمقراطية – ننحني لها، ونذعن لمشيئتها، مقدِّرين في نفس الوقت أن الديمقراطية حين تخطيء فإنها تحمل في طوايا خطتها بذور الصواب، وأن لها من طبيعتها عصمة تقيها شر الإمعان في الخطأ”([6]).
ويقول عادل مصطفى: “إن طريق التسلط طريقٌ ينغلق وراء سالكيه، طريق لا رجعة فيه، بينما تمتاز الديمقراطية الليبرالية بأنها تسمح بالمراجعة وإعادة النظر، فاختيار نظام تسلطي هو بمثابة الرهان بكل شيء في رمية نرد واحدة، فإذا كان الرهان خاسرًا فلا مخرج إلا من خلال العنف، وهو اتجاه لا يُرجى منه خير كثير، أما اختيار الطريق الليبرالي، وإن كان لا يقدم ضمانًا ضد الأخطاء، فهو يقدم ضمانًا ضد الخطأ القاتل الذي لا يقبل أي تراجع مأمون أو تصحيح سلمي”([7]).
خامسًا: شهادة التاريخ
الخلاف حول أهلية الشعب للديمقراطية ليس خلافًا حديثًا، بل هو خلاف قديم متجدد في كل عصر، والواقع يشهد أن الديكتاتورية قد فرضت نظريتها على أرض الواقع.
حين ثار عرابي وطالب بمجلس نواب، أجابه رياض باشا بقوله: “ليس في البلاد من هو أهل لمجلس النواب”!([8])
وبعد عقود ثار خلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر حول تسليم السلطة لمدنيين منتخبين، فاعترض عبد الناصر بحجة: الشعب غير مؤهل للديمقراطية، وسيطر عبد الناصر بالفعل!
وبعد عقود، ثار المصريون في ثورة 25 يناير، فقال عمر سليمان: “الشعب غير مؤهل للديمقراطية”!
إذن فنظرية: (الشعب غير مؤهل) قد طُبِّقت على أرض الواقع بالفعل عبر عقود ممتدة، هل أصبح الشعب مؤهلًا؟ هل انتهت الأفكار المتخلفة والرجعية؟ هل تحققت النهضة؟
فإن كانت الديكتاتورية هي الحل المفروض خلال كل هذه العقود، وباءت بالفشل، فلا أقل من أن نجرِّب الديمقراطية، لعلها تنجح في تأهيل الشعب فعليًا، وتحقق نظامًا سياسيًا آمنًا ومسالمًا ومستقرًا.
سادسًا: كيف يتعلم الشعب الديمقراطية؟
هل التأهيل أن يدرس الشعب الجاهل نظريًا كيف يعيش الأوروبيون الراشدون حتى يتعلم؟!
الدول العربية يحكمها الاستبداد منذ قرون، ورغم ذلك لا ينتهِ الجهل والتخلف والتعصب، بل على العكس تمامًا، فقد تفشَّى الجهل والتعصب أكثر، فالمقترَح القائل بأن نحكم بالديكتاتورية حتى يتأهل الشعب قد طبقناه بالفعل عبر مئات السنين، ولم يُجدِي نفعًا ألبتة!
والحقيقة أن الديمقراطية كالسباحة يتعلمها الناس بالممارسة، وخير دليل عملي هو كم المعرفة والنضج السياسي الذي اجتاح الشعب المصري بعد ثورة 25 يناير، فلا ننكر أننا رأينا أميين يتحدثون عن مواد الدستور، وأيدلولجيات الأحزاب، وتصريحات المسئولين. بهذا تنضج الشعوب، بالممارسة والخطأ تتعلم الأمم.
ولم يولد الأوربيون راشدون، وإنما الديمقراطية الحالية التي استقرت في ثقافتهم وباتت مسلمة هي نتاج سلسلة طويلة من الممارسات السياسية، والتجارب الفاشلة.
فقد كان الوعي الشعبي في البداية أكثر جهالة وسذاجة وفسادًا من وضعنا الآن، يقول (موريس ديفرجية): “احتلت الرشوة مكانًا بارزًا في نشأة الكتل البرلمانية البريطانية. فظل الوزراء يشترون أصوات النواب، وتم الأمر بصورة رسمية؛ فقد كان يوجد في مجلس العموم شباك يقبض منه البرلمانيون مقابل أصواتهم”([9])!
وفي فرنسا قبل الثورة الفرنسية كان الملك يعين المناصب القيادية بالمال، فيشتري النبلاء المناصب العامة بأموالهم ويورثونها لأبنائهم، دون أي التفات إلى الكفاءة، ولم يكن ذلك يمثل غش أو يتم في الخفاء، بل كانت هذه هي القاعدة المعلنة، ووصل عدد المناصب العامة المبيعة 70 ألف منصب، منهم 1250 قاضٍ([10])!
وقال (ستالين) عن شعبه: “الشعب الروسي لا يمكن أن يُحكم إلا بالخوف والمعاناة”([11])!
يقول أ.د. إمام عبد الفتاح إمام: “لابد أن نكون على يقين من أن الديمقراطية ممارسة، وأنها تجربة إنسانية تصحح نفسها، وبالتالي لابد أن نتوقع ظهور كثير من الأخطاء في بداية المسيرة، لكن ذلك لا يصح أن يقلقنا، وليكن شعارنا: إن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية”([12]).
ويقول خالد محمد خالد: “إذا كانت شعوبنا مريضة – وهو زعم كاذب – فليس العلاج أن نحرمها العلاج!
وعلاج الأمية السياسية هي التربية السياسية، والتربية السياسية ليس شيئًا يُقرأ في الكتب، أو يُتلى فوق المنابر. إنما هو تدريبات حية لإمكاناتنا السياسية جميعًا. ولا شيء يسلك بنا هذا السبيل المجدي سوى الحياة الدستورية القويمة.
لو كانت شعوبنا هذه قد مارست الاقتراع ممارسة طويلة وسليمة، ولو كانت زاملت برلمانات شعبية التكوين زمالة طويلة ثم لم تتقدم، ولم تشحذ ملكاتها السياسية، لكان من المحتمل أن تُؤخذ وتراقب، ولكان من المحتمل أيضًا أن نصغي لأولئك الذين يريدون أن نيأس من مستقبل الديمقراطية فيها.
لكن الذي حدث هو العكس؛ فإنا في مصر لنرسل أبصارنا إلى تاريخنا المسجَّى بمظالم القرون وآلامها، فلا يسعنا إلا أن نعجب للمعجزة الباهرة المتمثلة في صلابتنا.
ونتساءل: ألا يزال هذا الشعب كائنًا يحيا؟! له طموح وآمال، وله يد تبطش، وقدم تسعى، وهامة ترتفع؟!”([13])
[1]. (الديمقراطية والوعي السياسي) ص78
[2]. (مصر الكبرى) ص169
[3]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص67
[4]. (الطاغية) ص291
[5]. آل عمران: 159
[6]. (الديمقراطية أبدًا) ص210
[7]. (فقه الديمقراطية) ص28
[8]. (مذكرات عرابي) ص47
[9]. (الأحزاب السياسية) ص9
[10]. (مقدمة قصيرة عن الثورة الفرنسية) ص44
[11]. (الاقتصاد السياسي للديكتاتورية) ص60
[12]. (الطاغية) ص291
[13]. (الديمقراطية أبدًا) ص110