الشر من الخارج (مترجم)

يعتبر مارتن جنكينز كاتب هذا المقال، أنّ هناك تفسيراتٍ بديلةً لمعاناة الإنسان؛ قد توجد في مكانٍ ما بين التوحيد التقليدي والإلحاد الجديد.


الثيوديسيا” أو العدالة الإلهيّة؛ هو الاسم الذي يطلقه اللاهوتيّون على محاولات الإجابة عن السؤال التالي: لماذا يسمح الإله القويّ والمحبّ بوجود الشر والمعاناة؟

لطالما كانت الإجابة على هذا السؤال مشكلةً في اللاهوت والفلسفة؛ كما أنّ هذا السؤال هو إحدى الحجج التي استخدمها الملحدون «الأصوليّون- fundamentalist» لإنكار وجود كيانٍ أعلى؛ لأنّ الإله المحبّ لا يمكن أن يسمح بالمعاناة؛ ولابدّ لي من التمييز هنا مابين الملحدين الأصوليين؛ الذين يؤكّدون ويجادلون في عدم وجود الله، عن أولئك الملحدين الأكثر “لينًا”؛ مثل عالم الفلك الفرنسيّ لابلاس، الذي كان موقفه تجاه الله ببساطة: “ليس لديّ حاجة لهذه الفرضية”.

بتقديم الملحدين لحججهم تلك بعدم وجود إله؛ فإنهم بذلك يمنحون المؤمنين اعترافًا وذلك بتأكيدهم وجوب فكرة أن يكون الإله محبًّا.

لطالما كانت هناك آراءٌ بديلةٌ عن الإله؛ على سبيل المثال، هل يمكن أن يكون الإله مجرّد مجنونٍ أم سيّء؟ قام الكاتب لافكرافت المتخصّص في أدب الخيال والرعب بالتحدّث عن “تلك الآفة الأخيرة غير محدودة المعالم لأقصى أنواع الارتباك؛ حيث التجديف والأوهام في شخصيّة الشيطان الطائش السلطان “أزاثوث” في رواية «رحلة الحلم لكاداث المجهول – The Dream-Quest of Unknown Kadath» عام 1943، وعلى نحو مماثل، تساءل تشارلز فورت: “إذا كان هناك عقلٌ يتحكّم في العالم، فهل عليه أن يكون عاقلاً؟” كما استخدم الشاعر والباحث الإنجليزيّ هاوسمان عبارة “أيًّا كان الشرير ذو الوحشيّة المفرطة الذي خلق العالم”. «القصائد الأخيرة، التاسعة – Last Poems IX».

إعلان

يقدّم جيمس برانش كابيل تنوّعًا في “عدم الكفاءة والأهليّة” حول هذا الموضوع في روايته الخيالية «يورغن – Jurgen» عام 1919؛ حيث يجد بطل الرواية نفسه في نهاية الكتاب، بصحبة الكائن الأعلى -كوشي الخالد- ويدرك أنّه على الرغم من قدرته المطلقة، إلّا أنّ كوشي ليس ذكيًّا بشكلٍ كافٍ؛ كوشي نفسه يعترف بقصوره قائلاً:

“وأنا أدير الأمور بأفضل ما أستطيع يا يورغن، لكنّهم يقعون في حالة ارتباكٍ مخيفةٍ في بعض الأحيان. أيّها السادة، ليس لديّ مساعدون أكفّاء؛ يجب أن أعتني بكلّ شيء، كلّ شيءٍ على الإطلاق! وبطبيعة الحال، على الرغم من أنني معصومٌ من الخطأ إلى حدٍّ ما، إلّا أنّ الأخطاء ستحدث بين الحين والآخر أثناء التطبيق الفعليّ للخطط التي هي في الواقع صحيحةٌ بشكل كبير”.

جادل بيتر ماكو أيضًا في مقالٍ له في مجلّة Fortean Times # 376 في الآونة الأخيرة، حول احتمالية وجود ما يمكن أن يُطلَق عليه “ماكرٌ كونّي” وراء كلّ شيء، ويضمن هذا الماكر حدوث أشياءٍ غريبةٍ لا يمكن التحقّق منها جيّدًا؛ وهذا ما اقترحه المؤمنون كذلك، بالنسبة لوجود أرواحٍ ماكرة، مثل الإله الاسكندنافي لوكي، أو الشيطان كما يُرى في سفر ايوب.

مما يقودنا إلى مشكلةٍ أخرى مع الملحدين الأصوليين؛ فهم ملتزمون بإنكار التوحيد، كما أنّهم لا يعالجون أبدًا احتمال وجود آلهةٍ متعددةٍ كما اعتقد بعض المشركين، أمثال هوميروس في الالياذة، حين اقترح نهجًا آخر للعدالة الإلهية بقوله: “قد يكون هناك العديد من الآلهة الذين لا يستطيعون الاتفاق فيما بينهم”. ووفقًا لهوميروس، وما إذا كان أحد اليونانيون أو الطروادوين على صوابٍ فإنّ الآلهة تنحاز تبعًا لذلك، لتنتج من خلافاتهم المعاناة الإنسانية”.

 

الشيطان الطائش- السلطان أزاثوث، دومينيك سينيوريت المشاع الإبداعي

 

يتجاوز الملحدون الأصوليون أيضًا حجة الثنائيين، مثل الزرادشتيين، الذين يؤمنون بأنّ هناك كيانين علويين: أحدهما شريرٌ بينما الآخر خيِّر، والتعريف الغنوصي لهذه الآلهة هي بأنّ الإله الشرير هو الذي يصنع العالم المادي، بينما يظلّ الإله الصالح روحيًا بحتًا، وهذا ما يجعل من العالم المادّي في الأساس شريرًا وبالتالي هو شيءٌ يجب الهرب منه، ولا يكمن الخلاص إلّا من خلال تعلّم الحكمة أو اكتساب المعرفة؛ فيصبح المرء روحيًا بما يكفي ليتّحد مع الإله الصالح، وهذه فرضية قد يتفق الموحّدون هنا مع الملحدين في صعوبة تقبّلها.

نجد هنا أنّ العديد من المفاهيم قد فشل الملحدون الأصوليون في معالجتها؛ فهم يصدّقون ادعاء الموحّد التقليديّ الضمنيّ بأنّ الإله الذي ينكرونه ليس فقط محبًّا، إنّما هو أيضًا عاقلٌ وفعّال.

كما أنّهم لم يعالجوا الاحتمالات الأخرى التي ذكرتها في البداية؛ كفرضيّة الحصن للوفكرافت والتي تقول بأنّ هناك إلهًا، لكنّه إلهٌ غاضبٌ جدًا.

أو فرضية كابيل والتي تقول بوجود إلهٍ محبّ، لكنّه يفتقر إلى الكفاءة؛ وكذلك فرضية ماكو التي تقول بأن هناك إلهًا، لكنّه ماكر خبيث؛ وفرضية هوميروس التي يذكر فيها أنّ هناك العديد من الآلهة ذات الآراء المتباينة.، وأخيرًا  الفرضية الزرادشتية التي تعتقد بوجود كائناتٍ طيّبةٍ وشرّيرةٍ متساوية القوّة.

يمكن لأيٍّ من هذه الفرضيّات أن تقدّم تفسيرًا لكيف للكون أن يكون منظّمًا أو فوضويًّا، والذي يمكن تبريره من خلال الملاحظة التجريبية لعالمٍ غير منظّمٍ يتعايش فيه الخير والشر؛ لذلك فإنّه من الممكن قبول أيٍّ من هذه الفرضيّات بوصفها بديلًا للإلحاد. هذا يعني أنّه عندما يجادل الملحدون من مناصري العدالة الإلهية؛ فإنّهم لا يقدّمون حجّةً لعدم وجود كيانٍ أعلى، إنّما أقصى ما يمكنهم ادّعاؤه هو أنّ الكيان الأعلى، إذا كان موجودًا، فإنّه لا يمتلك كلّ الصفات التي يدّعي الموحّدون أنّه يمتلكها. هذا لا يلغي بمنظورنا إمكانية وجود كائنٍ أعلى غير مرضٍ من الناحية الأخلاقية؛ لذلك، فإنّ حجّة هؤلاء الملحدين غير مقبولةٍ منطقيًّا، وبدلًا من أن يقول الملحدون للمؤمنين “ليس هناك إله” قد يكون من الأصحّ قولهم: “قد تكونوا مخطئين في حقيقة طبيعة الإله_ إن كان موجودًا”.

 

نيارلاثوتيب – دومينيك سينيوريت المشاع الإبداعي

 

ضمنيًّا، يقبل الملحدون الأصوليون مفهوم التوحيد لإلهٍ محبٍّ بوصفه أساسًا لحجّتهم ضدّه، لكن علينا أن نتساءل قبل ذلك: ماذا يعني أيٌّ من الطرفين بإلهٍ “محبّ”؟

هنا يتقاطع علم النفس مع الفلسفة. في الواقع، عندما يقول الملحدون أنّ الإله المحبّ لم يكن ليخلق عالمًا مليئًا بالمعاناة؛ فإنّ ما يعنونه هو “ما كنت لأخلق العالم المليء بالمعاناة”؛ إنّهم يضعون مفهومهم الخاصّ لما يجب أن يفعله الإله المحبّ، وضمنيًا يفرضون معيارهم الشخصيّ للأخلاق بكونها معيارًا أخلاقيًّا ينتقدون من خلاله كيانًا أعلى افتراضيًّا.

وعلينا في هذه المرحلة أن نعترف بأنّ الموحّدين قد عالجوا المشكلة بطريقةٍ أكثر فعاليةٍ إلى حدٍّ ما.

“أرسل إلههم طوفانًا لتدمير الجنس البشريّ بسبب الشرّ الذي يتسبب به” (سفر التكوين 6). لذلك يعيش المؤمنون مع لحظات تأييدٍ للعداء الواضح للكيان الأعلى، لكنّهم على الأقلّ يظهرون له أنّه يتصرّف ضدّ الشرّ بطريقةٍ ما. من ناحية أخرى، يصرّ الملحدون على المطالبة بفهمهم للكمال المطلق للإله الذي لا يؤمنون به.

لكن ما هو هذا الكمال المطلق؟ هل يرقى إلى مستوى أخلاقيٍّ وضعه الملحد؟ على أيّ أساس؟ قد نسأل.

في الواقع؛ إنَّ الكيان الأعلى مُطالبٌ من قِبل الملحد بأن يكون العالم منظّمًا وفقًا للمبادئ التي يعتقد الملحد لو أنّه كان هو الإله المحبّ لكان استخدمها، وبما أنّ الكيان الأعلى لم يفعل؛ إذًا فهو غير موجود. (قد يقبل القارئ وقد يرفض مشاركتي شعوري بأنّ فكرة ريتشارد دوكينز باعتباره السلطة الأخلاقية العليا تملأني بالرهبة).

ومع ذلك، لا يوجد في الواقع أيّ مسارٍ منطقيٍّ في فرضيّة “العالم غير منظّم، لأنني، لو كنت الإله، كنت سأنظّمه”، وكذلك في فرضيّة “الإله غير موجود”. إنّ أيّ محاولةٍ لخلق مثل هذا المسار تعني أنّ الإنسان يمكنه أن يتخيّل كيف سيكون شكل الإله – وكما أشار توماس ناجل فإنّه لا يمكننا حتّى تخيّل ما يمكن أن تكون عليه لو كنت خفّاشًا؛ فما بالك أن تكون إلهًا.

يقدّم الملحدون الأصوليّون، تمامًا مثل المؤمنين، وصفًا لماهية الإله، أو كيف يجب أن يكون؛ وبذلك فإنّهم يقبلون وصفًا يشبه ما للمؤمنين، ثمّ يؤكّدون على أنّه بسبّب عدم إيفاءه لهذا الوصف، إذًا فهو غير موجود.

يأتي هذا عكس حجّة “أنسلم” الوجودية، والذي كان قد جادل في القرن الحادي عشر، بفكرة أنّه عندما نتصوّر الإله، فإننا بحكم التعريف نتصوّر كائنًا مثاليًّا؛ والكمال يجب أن يشمل الوجود، بينما قام الملحدون الثيوديسيّوت برسم صورة إلهٍ ناقصٍ ثم جادلوا بفكرة أن الإله الناقص لا يمكن أن يكون موجودًا.

بالمقابل، ومثل العديد من المؤمنين، أجد نفسي مضطرًّا لأن أكون ملحدًا؛ بمعنى أنني لا أؤمن بالإله الذي يكفر به ريتشارد دوكينز.

لم أحاول  في مقالي هذا الإجابة عن سؤال العدالة الإلهية، أو تقديم حجّةٍ لوجود كيانٍ أعلى. كان هدفي الوحيد هنا هو لفت الانتباه إلى التفكير المشوّش وغير المنطقيّ الذي يظهر كلّما حاول الملحدون الأصوليّون أن يجادلوا بوجود علاقةٍ ما بين مشكلة الشرّ وعدم وجود الإله.


ملاحظة بخصوص الكاتب:

كان الراحل مارتن جينكينز كويكريًّا (Quaker) وعاملًا مجتمعيًّا متقاعدًا، ومساهمًا بشكلٍ دوريٍّ في مجلّة الفلسفة الآن.


المصدر:

https://philosophynow.org/issues/154/Evil_From_The_Outside

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

ترجمة: دانا جودة

اترك تعليقا