الحب… السارق البريء
أحبّيني بعيدًا عن بلاد القهر والكبتِ،
بعيدًا عن مدينتنا التي شبعت من الموتِ
تلك خاتمة الأغنية الشهيرة “أحبيني بلا عقد” التي يغنّيها كاظم الساهر، وقصيدة نزار التي تحمل عنوان “القصيدة المتوحّشة”! الأغنية رومانسية في المقام الأول؛ يتغنّى بها الحبيب لمحبوبته، يغازلها بها، يطلب منها أن تحبّه.. مجرّد الفعل هو ما يطلبه لا المدّة، فلا فرق في أن تحبّه لأسبوع أو لساعات أو لأيام، كلّ ما يهمّه هو أن تحبّه وفقط..
الأغنية بالنسبة لي من أفضل الأغنيات التي استمعت إليها حتى الآن لسببٍ ما خفيّ، ولكن ربما كلمات الأغنية تملك بعض الإجابات على هذا السؤال وعلى تفكيري وما يدور بخلدي.
ولكن رغم حبي للأغنية كلها، تستوقفني دومًا آخر جملتين بالأغنية وهما ما ذكرت بالبداية، وتتوالى أمام ذهني مشاهد القصف بالفيديو المخصّص للأغنية، ثمّ ينتقل الأمر للمشاهد الحقيقية التي تحدث في الواقع ونشاهدها بشكل يومي على شاشات التلفاز بكلّ الأماكن حولنا، وأوّل ما يرتبط بذهني هو العراق، من المحتمل أنّ هذا الرّبط يحدث لجنسية كاظم العراقية. ربما تجلب الجملتين لي تساؤلات عدة تُخرج الأغنية والقصيدة ككلّ من أغنية رومانسية إلى أغنية اجتماعية سياسية.. إن وُفّقت في التعبير.
يقول: بعيدًا عن بلاد القهر والكبت..
ما الذي يجعل أيّ مُحبّ يطلب من محبوبته أن تحبه بعيدًا عن بلادنا، الذي يصفها نزار ببلاد القهر والكبت؟ نجد إجابة تلك السؤال حولنا في تعاملنا مع الحبّ وفي الإطار الذي وضعناه به، ننظر وينظر المجتمع له على أنّه إثم من الآثام العظيمة التي يصعب غفرانها، رغم غفران نفس المجتمع وتجاوزه عن خطايا أخرى عظمى لا يجب التجاوز عنها وإغفالها، يتحوّل المجتمع من حاضن للفرد ومحقق لطموحاته وأماله، إلى مجتمع منفّر يجعل الفرد به وبخاصة المحبّ -ولا يوجد شخص لا يحب مهما اختلفت درجة الحب لديه- يتحوّل لشخص مكبوت؛ حريته مكبوتة مشاعره لا يقدر على التعبير عنها بشكل سويّ، يُقابَل بأشكال منفّرة كثيرة وأكثرها السخرية والتدخّل في حياته بدون سبب وجيه.
قتل الحب داخل الشّخص يجعله يفقد القدرة على الحبّ بشكل عامّ ويفقد القدرة على العطاء والتسامح، يتحوّل الأفراد لمسوخ تسير، تكره بعضها البعض ولا تملك أيّ قدر من العاطفة، وترى أنّ القبح والكره هو الواجب فعله والأساس، وأنّ الحبّ هو الشذوذ عن القاعدة.. القاعدة التي من المفترض أن تكون هي العكس، ولكن كأي شيء في بلادنا: كلّ القواعد مقلوبة.
كلّ ما نقدر على فعله هو كبت حرية الغير ظنًّا منا بأنّ ذلك سيخلق مجتمعًا سويًّا وبأنّ هذا سيحافظ على المجتمع من أيّ سلوكيات سيئة، وبهذا التفكير نحصر الحبّ بمعناه وهدفه الأسمى في زواية خاطئة، زاوية تضعه في خانة المذنبين، وفي خانة أسباب الدمار والخراب، تضعه كأنه وزر يجب اجتنابه والتكفير عنه إن وقعنا فيه.
في النّص الأصلي للقصيدة يكمل نزار بعد الجملة التي ينهي بها كاظم الأغنية:
” بعيدا عن تعصّبها بعيدًا عن تخشّبها”
يطلب بالبعد عن المدينة لتعصّبها وتخشبها، التعصب والتخشب الناتج عن عدم الحبّ وانتشار الكره والوقوف للحبّ على بدايات الطرق ونواصيها كأنه لصّ ينتظره صاحب المنزل المسروق. عندما حوّلنا الحب لسارق وتركنا السارق الحقيقي يلهو ويعبث أمام أعيننا ويفعل ما يحلو له، فقدنا أولوياتنا وتحديد ما نريده وماذا يجب علينا فعله.
“بعيدًا عن مدينتنا التي شبعت من الموت”
الحقد والكره يولّدان الدمار والخراب والموت والنهاية. الكره مرادف دومًا للنهاية القاسية بشتى أشكالها، على العكس من الحب المرادف للحياة الحياة الرائعة الجميلة.
عند رفع اليد عن الحب كل الأمور تتغير، نفوس الناس تتغير فيملكون القدرة على فعل كل شيء وعلى التسامح؛ التسامح الذي يعتبر أساسًا تُبنى عليه مجتمعات قوية راسخة. لا أرى هناك فاصلًا بين نهاية الأغنية وبدايتها: أحبيني بلا عقدِ… كيف ستحبه بلا عقد إن كانت لا تملك القدرة على الحب وإن كانت تخاف من إظهار مشاعرها الحقيقية؟ ولكن لنعمّم الجملة ونعمّم الحالة، كيف سيحب شخص شخصًا آخر وكيف سيحب له الخير ويمتلك القدرة على التعبير عمّا بداخله إذا كان مكبوتًا ومقهورًا لا يملك القدرة على تحديد الصحيح من غيره؟ هل الحب ذنب ووزر أم أمر طبيعي ولا حياة للإنسان بدونه؟ فإذًا لا حبّ بلا عقد بمدينة يملأها الكبت والقهر يملأها الموت والقتل.
قد يراها البعض أغنية وقد يرى البعض نهاية تلك الأغنية مجرّد كلمات وجمل يتغنى بها كاظم ومن ورائه مستمعيه، ولكنها لي ليست بمثابة أغنية وبكلّ تأكيد ليس لي فقط، فهي تحمل بطياتها رغبات كبيرة وجامحة وآمال كبيرة لا تنتهي، هي ليست بالصعبة والمستحيلة الحدوث، ولا حتى من الصعب تطبيقها.
المجتمعات المغلقة بأيّ شكل من الأشكال لا تنتج أفراد أسوياء، ولا تخلق مجتمعًا جيدًا وكما يتوهّم البعض، وعند أول فرصة للتحرّر من ذلك الانغلاق قد يتحوّل الأمر لانفلات لا يحمد عقباه.
حرّروا المجتمع وابدأو بالحب وابحثوا عن السارق الحقيقي.