الرعب والكوميديا: الهلع والضَّحك

هل يمكنُ أن يكون هنالك نوعان مُتناقضان من الخيال الشَّعبي أكثر من الرعب والكوميديا ؟ حيثُ يعدُّ الرُّعب من العيار الثّقيل أمّا الكوميديا فهي خفيفةُ الظِّل. كما أنَّ الرُّعب مُظلِمٌ بينما الكوميديا مشرقة، وبينما يبعث الأوَّلُ الخوفَ و الازدراء في النُّفوس يبثُّ الثّاني الفرحَ، أيْ المعاناة مقابل البهجة، فكيف يمكن دمجُ هذين النَّوعين في عملٍ واحدٍ يا تُرَى؟ و مع ذلك غالبًا ما يتمُّ هذا الأمرُ بنجاحٍ، و قد يكون فيلم “عروس فرانكينشتاين ” لمخرجِهِ جيمس ويل عام 1935م فيلم الرُّعب الأعظم على الإطلاق.

عروس فرانكينشتاين
عروس فرانكينشتاين

وليسَ من المُثير للجدلِ أنَّ قصصَ الرُّعب غالبًا ما تُوظِّفُ الكوميديا وذلك فقط لغرضِ تخفيفِ حدَّةِ التّوتر، ولعلَّك تلحَظُ النّكات ذات الطّابع السّوداويّ التّي تُقالُ في فيلم فريدي كروجر. على غرار ذلك، هناك أفلامٌ كوميديَّة ترتَكِزُ في جوهرها على الرُّعبِ مثل فيلم ” بيتليجوس” للعام 1988م، ففي هذا الفيلم تُجسّد شخصيَّة بيتليجيس دورَ مُهرِّجٍ ما وتستمرُّ في هذا الطّابَعِ إلى أن نصل إلى لحظاتٍ تنقلب شخصيَّتُه بدرجةٍ كبيرةٍ ليصبحَ خطِراً، فهو لم يعد أحمقًا مقًنّعًا فحسب و إنَّما وحشًا، ويَظهرُ هذا جليًّا في نهايةِ الفيلم. أمّا فيلم “رجال ذوو بزّات سوداء وصائدو الأشباح” فهو ينتقلُ بسلاسةٍ ما بينَ الرعب والكوميديا. إذاً كيفَ يمكن لصُنّاعِ هذهِ الأفلام في الخيالِ الشّعبيّ المُراوحة بكل سهولةٍ ذهابًا وإيابًا بين الأنواع التَّي تبدو على خلافٍ؟

يتجلَّى الغموضُ الذّي يَلُّفُ هذا المزيجَ ما بين الرعب والكوميديا في الممثل جيلين سترينج (الغريب) و الذّي تطابقَ اسمه مع دور الشّخصيّة التّي يَلعبها، حيثُ لعبَ دور وحشِ فرانكينشتاين في عام 1944م واضعًا المكياجَ الأُسطوريّ نفسه الذّي أتى به جاك بيرس لبوريس كارلوف عام 1931م لفرانكنشتاين الأصليّ، وبطولِهِ الذّي يبلغُ قرابةَ المترين ووزنه البالغ 78كغ فقد قدَّم سترينج شخصيًة مُرعبًة.

وفي عام 1948م كان سترينج  الممثّل الأمثل للعب دور فرانكينشتاين مرةً أُخرى وذلك في فيلم “ يلتقي أبوت وكوستيلو فرانكينشتاين” ليعزِّزَ روحَ الدّعابة إلى جانب الثُّنائيّ الكوميديّ أبوت و كوستيلو، وعلى الرّغمِ منْ أنّه لم يتغيَّر شيٌء في مظهرِهِ ولا وجهِهِ ولا زيّهِ ولا حتّى طريقةِ مشيه أو أي شيء آخرَ في سلوكه إلّا أنّ شخصيّتَهُ شهدت تحوُّلاتٍ من مشهدٍ لآخرَ من كونه موضعًا للرُّعب إلى مصدرٍ للدّعابةِ.

وفي لُغةِ الفلسفةِ: فإنَّ الفرقَ بين مظهرِ سترينج من فيلمٍ لآخرَ غيرُ واضحٍ حيثُ لا يمكنُ معرفةُ الفرقِ الإدراكيّ بالعين المُجرَّدةِ حول كيفيّةِ اختلافِ مظهرهِ في فيلم عام 1944م وفيلم  عام 1948م، إنَّها ظاهرةٌ غريبةٌ و التّي على أقلِ تقديرٍ تؤكِّدُ على أنّ هذهِ الصّلة ما بينَ الرُّعب و الكوميديا في أغلبها متناقضة، ولحلِّ هذهِ الأُحجيةِ فلا بُدّ لنا من أنْ نتحدَّثَ عن طبيعةِ الرُّعبِ من ناحيةٍ و طبيعةِ التّسليةِ الكوميديّةِ من ناحيةٍ أُخرى.

إعلان

كلٌ منَ الرعب والكوميديا حالةٌ عاطفيَّةٌ، فالرّعب في فيلمٍ ما -على سبيل المثال- ينطوي على الخوفِ و إنْ لمْ يكن لنا -نحنُ المشاهدين- فهو للشَّخصيّاتِ التّي تتمُّ ملاحقتُها من قبل الزّومبي أو الغرباء أو الحبّار العملاق أو أيٍّ كان، و لكنَّ إثارةَ الخوفِ وحدَهُ لا تكفي، حتَّى أنّ فيلم “Goldfinger” المُدجّج بأسلحةٍ نوويّةٍ يمكنُه فعل ذلك.

the Predator

ما الذَّي يجعلُ كلّاً من فيلمَيّ Goldfinger و Predator مختلفين يا تُرى؟ إنَّه الاشمئزاز. فالوحوشُ في
قصص الرّعب ليست مخيفةً فحسبُ و إنَّما بالعادةِ مثيرةٌ للاشمئزازِ، و يتمثَّل هذا الاشمئزازُ في لمسةٍ لك من المومياء تُشعِركَ بالتّشنُّجِ إلى قُبلةٍ تجعلك تتقيّأ، و يمتدُّ هذا الاشمئزاز إلى الحيواتِ الأليفةِ والتّي بالكادِ لا تريدُ لها أنت أن تطيرَ؛ أيْ إنّها باختصارٍ وحوشٌ مروّعةٌ تثيرُ الغضبَ لأنّها ليست خطيرةً فحسب بل إنّما نجسة.

و منْ ناحيةٍ أُخرى فإنّ التّسليةَ الكوميديَّةَ تتطلَّبُ إدراكَ التَّناقُضِ(1)؛ أيْ بمعنى إنّه تحتَ ظروفٍ معيّنةٍ فإنَّ إدراكَ التّناقُضِ بينَ مَفاهيمنا وواقعِ الحالِ مُمتِعٌ للحظةٍ، وكما في مسلسل سيمبسون حيثُ نجدُ هومر في جدالٍ مع عقلهِ والذّي بدورنا نعلمُ أنّه لأمرُُ غيرُ منطقيّ، فكيف للمرءِ أن يتجادلَ مع عقله؟ و لعلّ أحد الشّروط الواجبِ تَوافُرها ليتحقّق هذا الأمرُ: هو أن يكون الوضعُ خاليًا من التّوترِ فرؤيتنا لمهرّجٍ ما -على سبيل المثال- و قد ضُرِِبَ رأسُه و بدأ دَمُه بالتّناثُرِ أمرٌ لا يدعونا للضَّحكِ في الظّروفِ العاديّةِ.

ولكن ماذا تخبرُنا هذه التّعليقات الموجزةُ حولَ الرعب والكوميديا ؟ إنّ هناك نقطةَ تماسٍ محتملة بين الرّعب والكوميديا حيث يتداخلُ كلّ من الرّعب المُثيرِ للاشمئزازِ مع الابتذالِ في الكوميديا؛ أيْ أنّ إثارةَ الاشمئزازِ هي نوعٌ من الابتذالِ.
و ينطوي التّناقضُ و خاصَّةً في الكوميديا على تقويضِ المعاييرِ الثّقافيّةِ فنجدُ الوحوشَ المروّعة تخرقُ كافّة معاييرنا الوجوديّةِ و البيولوجيّة والنّفسيّة والأخلاقيّةِ وما إلى ذلك، فمصّاصو الدّماء والكَسالى أحياءٌ أموات، أمّا الذّئاب الضّارية فهي تجمعُ ما بينَ خصائص البشرِ والوحوش، وأمّا الغريبُ فنجده في صورة حشراتٍ و قشريّاتٍ ذات فكٍّ ميكانيكيّ ينشط ربيعًا.

والسّؤال الذّي يَطرحُ نفسه هو كيف يمكن تسخيرُ نقطة الالتقاء ما بين التّناقض الكوميدي والاشمئزازِ لتحويلِ الكوميديا إلى رعبٍ والرعب إلى كوميديا؟

ورداً على هذا السّؤال: نجدُ دليلًا واضِحًا في مونولوج الممثّل الكوميدي بيل كوسبي للعام 1965م، والذّي ألقاهُ قبلَ وقتٍ طويلٍ من الكشفِ عن جرائمِهِ الجنسيّةِ حيثُ ردّد التّالي: “أتذكّر أنّني كنت أحبّ صور الرّعب في طفولتي، كنتُ أحبّ فرانكينشتاين و الرّجل الذّئب و المومياء، كما كان وحشُ فرانكينشتاين و المومياء هما المفضلان لديّ. لقد كانوا يخيفونني حتّى الموت، وعند ما أنظر إليهم الآن كشخصٍ راشدٍ فأنا أقولُ لكم :إنّ أي شخصٍ يمسكونه يستحقّ الموت, و هم بلا أدنى شكّ أبطأ الوحوش في العالم. أيّ شخصٍ يمسكونه يستحقّ الذّهاب.
ما يحاول كوسبي إيصالَه هنا هو أنّ وحوشَه التّي كانت مفضّلةً لديه قد أصبحت بالنّسبةِ له رموزًا هزليَّةً، ربما تتساءل كيف ذلك؟ لقد قام كوسبي بسلبِ إحدى ميزاتِها الأساسيَّةِ ألا و هي الخوف.

يُذكَرُ أنّ إحدى أهمّ السّمات الواجب تَوافُرها في وحوش قصص الرعب هي سمةُ الخطرِ، ولكنْ بتذكيرنا بمدى بطء هذه الوحوش فإنّ كوسبي يصرِفُ عنها هذه القُدرةَ على إلحاقِ الضّرر حتّى إنّ شخصًا سبعينيًا صحيحُ الجسم يمكنهُ التّفوّق عليها. وبهذا لا يُترَكُ لهذه الوحوش إلّا خروجها وشذوذها عن المعايير المُختلفةِ سواءً أكانَ ذلك من حيث البنية أم طبيعةِ الوجود كما في المومياوات التّي تكونُ حيَّةً ميّتةً.
وعليه فإنَّ سلب الوحوش القدرةَ على إلحاق الضّرر يجعلها مسليةً بشكلٍ هزليّ و يعدُّ هذا الأسلوب أحد أهمّ العديد من أسرار المُحاكاة السّاخرة للّرعب. و بالمقابل يمكن للمهرّجين اكتساب خاصيّة إثارة الرّعب و ذلك بتوظيفِ قوىً تجعلهم خطيرين كما في فيلم الغزاة Killer Klowns from Outer Space للعام 1988م حيث يتسلّحون بصفوفٍ من الأسنانِ القاطعةِ، ويتّجهون لسفك الدّماء ما بين المجرّات.

Killer Klowns from Outer Space

و مثالٌ أقربُ ظهرَ في الآونة الأخيرةِ هو التّناسخ السّينمائي لمهرّج ستيفن كينغ المدعو بيني وايز، وهو مخلوقٌ ذو فمٍ أصفرٍ معدٍ يبرزه من خلال شفّته الحمراء في جُزأي فيلمه عام 2017م و 2019م.

الرعب والكوميديا هما أبناء جلدةٍ واحدةٍ، نعم. فعلى الرّغم من ظهورهما كنوعين مختلفين إلّا أنّهما يشتركانِ في شكلٍ معيّنٍ من أشكال التّناقض، وليس هذا ما يجمعهما  فحس؛  بل إنّ الخوف يأتي في المقام الأوّل حيث يعدُّ الرّكيزةَ الأساسيَّة في تحديد ملامحِ الشّخصيّةِ، وعلى سبيل المثال عند سلب الوحش خاصيَّة التّخويف يمكننا إنتاجُ الضَّحك، وكذلك العكس، فلو منحنا شخصيّة المهرّج قوىً فتّاكةً و إرادةً سيّئةً فإنّ هذا يجعل منه الشّخصيّة المركزيّة في فيلم الرعب.

نرشح لك: الجوكر.. قصة ما قبل الشر

(1)نظرية التنافر/ التناقض: التقريب غير الاعتيادي لشيئين أو فكرتين أو التحول المفاجئ للتوقعات. أي أنه كلما كان التطابق أكبر و غير مألوف تكون الدعابة أكثر إضحاكاً.
المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

ترجمة: ليلى سلامة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا