الذات السطحية ؛ مرآة لطفولة معطوبة

في تفاعلها مع أحداث الحياة من حولها، تسلك فئة من الناس سلوك الغريب عنها غير المعني بها، هذه الفئة لا تحزن لموت ولا تفرح لولادة…تعيش كـأنها بلا روح. وباعتبار أن تعبير الإنسان عن ذاته هو استجابة تلقائية لما يخالجه، فإن طمس التفاعل الصادق هو قمع للتدفُّق الطبيعي لصوت الذات الداخلي، ويؤدي تكرار هذا الكبت إلى إضعاف الذات شيئا فشيئا حتى إخراسها.

يرى عالم النفس النمساوي “بول فرديناند شيلدر” Paul Ferdinand Schilder ، وهو تلاميذ فرويد وأحد الآباء المؤسسين لعلم النفس الجماعي، وهو مجال بحثي يدرس وضع الفرد في سياق الجماعة، يرى شيلدر أن “درجة الاهتمام التي يتلقاها الشخص في طفولته شديدة الأهمية” وتبعا لذلك فإن افتقار الطفل إلى القبول التلقائي والمحبة والعناية في سنوات طفولته المبكرة تجعله يتحرك بعيدا عن ذاته، ويوجِّه كل طاقته نحو ما يجب عليه أن يكونه لا نحو ماهو نابع بالأساس عن حقيقة شعوره.

 إن محاولة فهم هذه الفئة من الناس التي حرمت من المحبة الخالصة في فترة الطفولة يقودنا إلى ملاحظة في غاية الأهمية وهي الانسحاب العاطفي* Emotional withdrawal لهؤلاء الأفراد، أي عدم قدرتهم على أن يكونوا منفتحين بشأن عواطفهم مما يضطرهم للهروب نحو طمس هده العواطف، ذلك أن الوعي بالذات الأصلية المكروهة يثير لديهم الاضطراب والقلق والصراع الداخلى (لعدم قبولهم وإهمالهم أثناء فترة الطفولة)، وهو ما يقودهم إلى الاتجاه نحو حياة أكثر أمنا، لا تعبِّر عن الذات لكنّها تضفي طابعا مثاليا متوهّما عنها، حياة تسميها “كارن هورنى” Karen Horney وهي محللة نفسية ألمانية يُعزى لها الفضل في تأسيس علم النفس النَّسوي، تسميها “الحياة السَّطحية”، حياة يتم التخلص فيها من عبء الالتزام بالذات المكروهة، وصرف كل الاهتمام إلى العمل أو الوظائف التي تشغل الوقت وتكون بمثابة التخدير للتخلص من خبرة الاضطراب والقلق  الأساسي **  Basic Anxienty،   هذا القلق الذي نشأ منذ اكتشاف الطفل لعجزه في مواجهة الكبار، ومع تقدُّمه في العمر يسعى صاحب هذه الشخصية إلى توجيه كل الطاقة إلى محاولة قهرية لتحقيق الذات والثأر لها بتدمير الاحتقار والكراهية التي مورست عليه.

فكيف بتعامل صاحب الذات السطحية مع الآخرين؟

إن وجود الآخرين في حياة صاحب الذات السَّطحيَّة لا يعدو أن يكون سوى رمز خارجيّ، أي مجرد مرآة تشعره بوجوده فهو يختبر من خلال الآخر هويته المثالية والتي بذل كل الجهد في بنائها بكل حرفية، دون أن يكون لوجود هذا الآخر قيمة مستقلة أو منفصلة فما إن يتوقف عن أداء وظيفته أو دوره بوصفه انعكاسًا إيجابيًا للذات السطحية حتى تنهار علاقته به.

و لكن البحث عن الشركاء / المرآة يظل مستمرا لأنهم مصدر يمده بالطاقة الضرورية ليحيا، حياة الازدواجية.

إعلان

ظاهرة الازدواجية هذه انتقلت من كونها ظاهرة فردية لتصبح سمة من سمات المجتمع الذي انسحب من الواقع ليستعرض نفسه في عالم إفتراضي.

لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مجالا  تتمظهر من خلاله الذات “المثالية” السطحية لتستتر وراءها ذات مقهورة خبأت أصالتها و شجاعتها هروبا من القهر والكبت.

وتنشد الذات السطحية التـأقلم حد الكمال مع كل ما هو مثالي وتقليدي، نشاهد مثلا صورا وهمية لأشخاص مثاليين أخلاقيا ولكنهم في الحقيقة انتهازيين أو متحرشين، يلبسون أقنعة تغطي وجوههم، وهي وسيلتهم للتّعويض عن الذات الأصلية / الحقيقية التي فشلت في التعبير عن نفسها ومن ثمة مواجهتها وعلاجها.

هذا ما يصعب معه -ونحن نتشارك الحياة مع الناس- الانتباه إلى هذه “الذات المثالية” التي يكون ظاهرها سكونا أما باطنها فكبت للتفاعل الصادق مع الوجود…قد لا ننتبه لأننا نمر مرور الكرام … أن نكون كراما فهو أمر محمود أما أن نمر مرور الكرام على ما يدور حولنا فهو أن نرى الوجود بعين من لا يبغي منه سوى مجرد العيش … نركض مع الراكضين دون أن نتوقف لنتساءل، ولكن يحدث أن نتوقف لسبب أو لآخر …نتوقف فنرى زحاما…لا نشاهد رؤوسا …بل أجسادا رؤوسها أصفار مختلفة الأحجام …مربك جدا مشهد الزحام الذي تتحول فيه رؤوس البشر إلى أصفار …ماذا لو ترد الطفولة لكل صفر منها ليمنح خلالها القبول غير المشروط لذاته والحب اللازم والعناية بفرديته لينشأ سويا معافى…

مستحيل أن يعود الزمن إلى الوراء …مستحيل أن نرى زحاما ولا نبصر أرقاما مقيَّدة في غرف مغلقة دون خيار أو حركة…هذه الغرف قد يلزمها التهوئة ولكن ما تحتاجه أكثر هو مفاتيح لفك إغلاقها، هذه المفاتيح هي حتما بيد مختصين.

أن يتشارك الإنسانُ مع الإنسان وينخرط معه في بناء حياة أفضل قوامها الاهتمام المتبادل والتعاطف والتآزر و الإيثار هو أرقى ما تتطلع إليه الإنسانية، ومع انتشار مفاهيم من قبيل الأنانية والتمركز حول الذات واللاجدوى ومديح الخسارات نتذكر ما يقوله الطبيب النفسانيّ والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي” فرانز فانون” Frantz Fanonفي حديثه عن الإنسان:”يجب أن نفتح صفحةً جديدة، يجب أن نكتشِف مفاهيم جديدةً وأن نحاول خلق إنسانٍ جديد”.

 

المراجع:
كتاب معذبو الأرض لفرانز عمر فانون Frantz Fanon (1925 - 1961)، وهو طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد المارتنيك،  يطرح في كتابه  تحليلًا نفسيًا  للآثار المدمرة للاستعمار على الفرد والأمة.
مقال للدكتور حسين عبد الفتاح الغامدي أستاذ علم نفس النمو والشخصية في قسم علم النفس ، كلية التربية، جامعة أم القرى، حول  نظرية  كارن هونري (1885-  1952) وهي محللة نفسية ألمانية  مختصة  بالعلاقات الأسرية وأهميتها واعتبارها الأساس في إشباع أو إحباط الحاجات الأساسية.
آراء فرديناند شيلدر  (1886- 1940) Paul Ferdinand Schilderطبيب نفسي أميركي من أصل نمساوي، اشتُهر بدراساته للفصام وتصدّع الشخصية عموماً كما في ازدواج الشخصية، وفي فقدان الشخصية. هناك مرض معروف باسمه مرض شيلدر Schilder's disease، وهو التهاب في الدماغ.
كتاب"سيكولوجية الجماهير"لغوستاف لوبون Gustave Le Bon  (19311841 )
هو أحد أشهر فلاسفة الغرب وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية. لم يسر غوستاف لوبون على نهج معظم مؤرخي أوروبا، حيث اعتقد بوجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على العالم الغربي.
شرح بعض المفاهيم:
*الانسحاب العاطفي: الحاجة الباطنية للشخص لإقامة حاجز عاطفي بينه وبين الآخرين.
** القلق الأساسي: تولي كارين هورني أهمية في نظريتها للقلق الأساسي والذي تقصد به القلق الأولي الطبيعي (تفريقا له عن أنماط القلق الأخرى الموضوعية أو العصابية الناتجة عن القلق الأساسي نفسه) الذي ينتج عن اكتشاف الفرد لعجزه في مواجهة الكبار وخاصة الوالدين الذين يجد نفسه مضطرا للاعتماد عليهما.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: درصاف بندحر

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

اترك تعليقا