الدين والعلمانية في سياق تاريخي: قراءة في ثلاثية الدكتور عزمي بشارة- الجزء الثاني
3- الجزء الثاني/المجلد الثاني- “العلمانية ونظريات العلمنة”:
في المجلد الأخير، تابع عزمي بشارة رصد التفاعلات الجدلية بين الدين والعلمانية. وهذه المرة حيث امتدَّ التَّتبع حتى الفترة المعاصرة، بعد أن غطى المجلد الأول من الجزء الثاني تاريخ هذه التفاعلات في حقبة تاريخية امتدت من العصر الوسيط حتى العصر الحديث (من القرن 12- 13م حتى القرن 19م)، ذلك حيث استحضر الباحث عدةَ أحداثٍ اجتماعية وسياسية مفصلية في كل من التاريخ الإنجليزي والفرنسي والبولندي من أجل مقارنة تجارب العلمنة والعلمانية في هذه الدول وتحديد خصوصياتها “24”.
بناءً على ذلك، استنتج عزمي بشارة وجود نوعين من العلمانية، صنفهما حسب شدّة رد فعلهما ضد أشكال حضور الدين في المجتمع، فخلص إلى وجود “علمانية صلبة” و”علمانية رخوة”؛ حيث لاحظ أن العلمانية الصلبة ليست أكثر من إيديولوجية تُفرض على الأفراد وتؤدي حتمًا إلى الديكتاتورية، كنموذج الاتحاد السوفياتي والصين، أو التي لا تفرض أي إيديولوجية على الأفراد مع أنها متشددة ضد مظاهر التعبير الديني في الفضاء العام كاللائكية الفرنسية. ومن جهة أخرى، فإن “العلمانية الرخوة” هي الأكثر انتشارًا في العالم، رغم أن منتقدي العلمانية يتجاهلون ذلك عن قصد؛ إذ أن هذا النوع من العلمانية لا يَفرض على الأفراد أي إيديولوجية رمزية أو مادية، كما أن هذا النوع من العلمانية يساهم في إدارة التنوع الثقافي والديني والحريات الفردية “25”، وتعتبر العلمانية وفق هذا النموذج شرطًا غير قابل للإسقاط من أجل مؤسسة الديموقراطية التي تغيب بل تستحيل في غيابها؛ إذ أن الديموقراطية ظهرت في سياق نشوء العلمانية السياسية، وفي غيابها تغيب.
إضافةً إلى ذلك، فإن العلمانية الرخوة غير متشددة مع مظاهر التعبير الديني في المجال العام “26”، على عكس الصلبة منها، والتي حصرت التدين في المجال الخاص أساسًا، أما نماذج ذلك، فهي معظم دول العالم العلمانية من اليابان والهند وأستراليا، حتى ألمانيا وإنجلترا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا “27”.
وللتدليل على نمودج العلمانية الرخوة، لا يوجد أحسن من تعريف “مالوري ناي” لها إذ يقول:
“إن العلمانية لا تعني توقف الناس عن التدين، لكنها تشير ببساطة إلى إطار مدني للتدين الفردي، أي التدين الذي لا يهم إلا صاحبه ولا يفرض على غيره، وذلك ما يخضع لتغير الأحوال الفردية والظروف الاجتماعية”. “28”
حيث يصبح التدين بهذه الطريقة تجربة روحية تهم صاحبها ولا تفرض على غيره، ومن حقه أن يعيشها في مجاله الخاص والعام، وعلى الدولة العلمانية حراسة هذا التدين دون توظيفه سياسيًّا؛ أي أن يبقيا كلٌّ من الدين والدولة في هذه العلاقة مستقلين عن بعضهما وظيفيًا، حيث تتحدَّد طبيعة العلاقة بينهما وفق هذا المنظور حسب ما هو تنظيمي، وليس حسب ما هو هيمنيّ أو استغلالي.
تاليًا، تطرَّق بشارة إلى”نظرية العلمنة في العلوم الاجتماعية”، والتي بثّ فيها الآباء المؤسسين ككارل ماركس وإميل دوركايهم وأوجيست كونت، ماكس فيبر وسيغموند فرويد، حيث رأوا أن التصنيع والتحديث وتعميم التعليم وانتشار المعرفة العلمية وسواد التمدين وارتفاع الدخل وشيوع الفردانية، بالإضافة إلى تطور سياسية الدولة العلمانية وعدم توقف سيرورة تمايز حقول المجتمع، كلها عوامل ستؤدي بخطوات تدريجية إلى زوال الدين وانقراضه من المجتمعات الإنسانية “29”. وهنا توقف عزمي بشارة مع كل أجيال هذه النظرية، طارحًا سؤال اضمحلال الدين وشيوع العلمانية، وهل الثانية تدفع باتجاه انقراض الأول؟
ليخلص إلى أن أصحاب هذه النظرية لم يُوَفقوا في فهم سيرورة كلٍّ من الدين والعلمانية “30”، حيث يؤكد التاريخ ويشهد الواقع أن ثمّة رابطة وثيقة بين العلمانية والانعاش الديني، فالأخير ليس رد فعل ضد العلمانية، بل هو ثمرتها؛ فالعلمانية تصنع الدين وتسمح له بالانتعاش “حسب أوليفييه روا” “31”، وذات الشيء ما تلاحظه “جوديث بتلر”، إذ تؤكد أن العلمانية لا تتسبّب في زوال الدين، بل هي منفذ يتيح له البقاء “32”.
وهذا ما تجسده على وجه الخصوص حالة المجتمع الأمريكي الذي يعرف تنامي الممارسة الدينية بإزاء تنامي موجات العلمنة، ما يوضِّح تعايش وعدم تحارب العلمنة والدين. وأكثر من ذلك، أصدر مؤخرًا أكثر من عشرة علماء اجتماع وسياسة بحثًا ضخمًا بعنوان “العلمانية وصناعة الدين” “33”، حيث يُبيّنون فيه أن العلمانية ليست فقط تساهم في انتعاش الدين، بل تصنعه، انطلاقًا من إيمانها بأن بانتفائه تنتفي وظيفتها هي أيضًا؛ ففي اليوم الذي ينقرض فيه الدين تنقرض فيه العلمانية السياسية كذلك (العلمنة خارج هذا الاعتبار طبعًا، لأنها غير مرتبطة بالدين فقط، وإنما بحقول المجتمع ككل)، لأن وجود الدين هو ما يبرر وجود ووظيفة العلمانية، وهذا ما لم يفهمه الآباء المؤسِّسون لنظرية العلمنة في علم الاجتماع، وهو ما أصلحه علماء الاجتماع المعاصرين؛ فلم يعد في ساحة العلوم الاجتماعية الآن من يتبنى منظور “كلما تقدمت العلمانية تأخر الدين أو العكس”، إذ لا يوجد هذا الموقف الآن إلا مع الحركات الدينية الأصولية المتخلفة في العالم الثالث كحركات الإسلام السياسي، وبعض الحركات الدينية اليهودية المتطرفة كـ”الحريديم“.
بالإضافة إلى ما سبق، خصص عزمي بشارة آخر جزء من الفصل الرابع في هذا المجلد لمناقشة مفهومٍ مهمٍ جدًّا، وهو مفهوم التمايز الاجتماعي “Social differentiation”، الذي من دونه لا يمكن فهم العلمانية والعلمنة والعلم والدولة الحديثة ولا أي شيءٍ له علاقة بعصرنا الراهن، وقد عرضنا أحد وجوهِه في الفقرات السابقة، وهو المفهوم الذي ينتشر استعماله كثيرًا في أعمال علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، إذ استعمله إميل دوركيهم وماكس فيبر من المتقدمين، وكليفورد غيرتز “34” وبيير بورديو “35” وبرنارد لاهير “36” من المحدثين، ويقصد به مخاض اجتماعي يحدث توازيًا مع تمايز/انفصال/استقلال حقل الدين عن حقل الاقتصاد، وحقل السياسة عن حقل التعليم، وحقل الفن عن التقاليد، وغيره من حقول المجتمع (تمايز حقول المجتمع). بإزاء هذه السيرورة الاجتماعية، تتمايز النظرة الأسطورية للعالم عن النظرة العلمية، فتُكَون ثقافة واتجاهات فكرية جديدة، أي تأسيس مفاهيم وتصورات جديدة عن العالم (تمايز في بنية الثقافة)؛ توازيًا مع ذلك، تتمايز الدولة عن المجتمع، حيث تكون الأولى مؤسسةً سياديةً، والثاني مجتمعًا مواطنًا أو مدنيًّا (تمايز في النسق السياسي)، لذلك قلت بدون هذا المفهوم لا نستطيع أن نفهم الدين والعلمانية والدولة الحديثة، حيث تعتبر هذه الأخيرة نتيجة التمايز/الانفصال عن المجتمع، ذلك ما خصص له عزمي بشارة كتابًا بحياله “37”.
بناءً على ذلك، يظهر أن المجتمع في تطوره ينتقل من مجتمع متكثف البنى والحقول إلى مجتمعٍ حقوله متمايزة ومستقلة بنفسها. بذلك، فإذا كان في مجتمع القرون الوسطى مرجعية حقل العلم والفن والسياسة هو حقل الدين، فإن هذه الحقول جميعًا تمايزت عن بعضها فكونت لنفسها مرجعيةً خاصةً بها تتشكل داخلها، وهذا ما أدى إلى استقلال باقي الحقول، فانحسرت مرجعية الدين في حقله فقط، كما انحسرت مرجعية السياسة في حقلها حصرًا، ما يعني أن كل حقل استقل ولم يعد في حاجة إلى شرعنة أفكاره وممارساته من خارج حدوده؛ وبذلك يتضح أن العلمنة والعلمانية في سياق سيرورة التمايز الاجتماعي هي وجهة حتمية لا مناص من وقوعها في كل المجتمعات، وهذا ما تثبته التجربة التاريخية “38”.
امتدادًا لذلك، يعتبر المجتمع ذو البنيات والحقول المتكثفة غير المتمايزة مجتمعًا متخلفًا بالضرورة (كنموذج مجتمعات العالم الثالث، وخصوصًا المجتمعات العربية الإسلامية)، عكس المجتمعات التي خضعت لسيرورة تمايز في حقولها وأنساقها وبناها، الشيء الذي يساهم في مواكبتها بل خلقها للمستجدات الضرورية للتغير والتطور والتقدم، وهذا الصنف من المجتمعات تجسده المجتمعات الغربية الأوربية والأمريكية وبعض المجتمعات الشرقية كاليابان وأستراليا ونيوزيلاندا.
يختم عزمي بشارة هذا المجلد، بل هذه الدراسة بشكلٍ عام، بصياغة نموذجٍ نظريٍّ مستحدثٍ مقترحٍ لدراسة شبكة العلاقات بين الدين والعلمانية في المجتمعات المعاصرة وفقًا للتغيرات والمستجدات الراهنة.
وفي نهاية هذا القسم نعرض الاستنتاجات التالية:
– العلمنة هي عملية تمايز للمجالات المعرفية والاجتماعية، تتغلب فيها أنماط المعرفة العلمية في فهم الظواهر في تجاوز أنماط المعرفة الدينية، ويعلو فيها منطق الدولة على الدين في المجتمع الحديث؛ ولا يعني ذلك اندثار الدين والتدين، كما لا يعني بالتأكيد غياب المقدس عن الحياة، وإنما رسم حدودٍ له ولغيره من حقول المجتمع.
– في المجال المعرفي، تَعني العلمنة التطور المتواصل في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية والسياسية (الدولة) بقوانينها ذاتها، وذلك بتمايز العلوم عن بقية أنماط المعرفة (خصوصًا الدينية والأسطورية)، واكتساح التفكير العلمي لمجال بعد آخر، وهذا لا يعني انسحاب الدين أو التدين بالضرورة، بل التغير يحدث في وظيفته، في انتقال موضع المقدس والغيب؛ ما ينحسر هو الإيمان المعرفي وليس الروحي، ويفسح المجال بذلك إلى تأكيد البعد الأخلاقي والعرفاني في الأديان.
– لم يكن فعل العلمنة مناهضًا للدين، بل غالبًا ما قام به وقاده رجال دين من مشارب مختلفة.
– في الواقع الاجتماعي، تعني العلمنة تمايز الفعل الاجتماعي ومنطقه بتفاعله مع تطور أنماط الوعي العلمي. ومن ضمن ذلك، تمايز المؤسسات الدينية عن غير الدينية، وتمايز الفنون والمهن عن ما هو تقليدي وقديم.
– ينحسر خلال هذه العملية البعد المعرفي للدين، وقد يتعمق البعد الإيماني عند القطاعات الاجتماعية التي تجري علمنتها، وقد يرافق ذلك انحسار الدين، كما قد ترافقه صحوة دينية على حد سواء.
– ترتفع سطوة الدولة فوق المؤسسة الدينية وفكرها، فتخضعها لها؛ وبه ظهرت العلمانية الدينية التي تدعوا إلى تحييد الدولة من مجال الدين، من أجل المحافظة على الحرية الدينية وضد الإكراه الديني واللاديني الذي يتضرر منه المتدين أو غير المتدين على حد سواء “39”.
يمكن أن نضيف استنتاجًا إجماليًّا يتحدد في أن:
العلمنة تبدأ بحقل الثقافة (في نظرة الأفراد إلى الواقع خصوصًا) وقد يحدث بإزاءها أو بعدها تمايز حقول المجتمع، إلى أن تصل هذه السيرورة إلى آخر حقل، وهو السياسة، فيستقل ويطور مرجعيته داخل حقله الخاص، على غرار باقي الحقول والأنساق الاجتماعية. بناءً عليه، لا توجد علمنة تبدأ من السياسة، بل من الثقافة ثم المجتمع، وفق مفهوم العلمنة والعلمانية الذي حدده بشارة في هذه الموسوعة.
4- ماذا عن العلمنة والعلمانية في العالم العربي؟
في إثر الأفكار والنماذج النظرية التي اقترحتها هذه الموسوعة، نستطيع أن نقرأ طبيعة حضور العلمانية في العالم العربي، أو الإسلامي الناطق بالعربية حصرًا. ولنبدأ بالتأكيد بأن العلمنة (كسيرورة تاريخية) لم تستثنِ العالم العربي من مدار شغلها ونفوذها، خصوصًا في الفترة المعاصرة المعولمة، ونحن في ذلك نميل إلى قول القائل بـ: “إن مسيرة التاريخ الكوني آيلة إلى العلمانية بشكلً حتمي (خصوصًا مع العولمة ووسائط الاتصال الرقمية الحديثة)، وإن مسيرة التاريخ الاجتماعي والثقافي العربي محكومةٌ بهذا المسار، على الرغم من الصراعات الطبيعية التي تستثيرها هذه المسيرة مع القوى المحافظة” “40”؛ وبذلك، فإن إنكار ومعارضة العلمانية لا ينفي وجودها أو عملها في المجتمع العربي الإسلامي، بل فقط يعيق سيرورتها وتطورها لا غير، وهي مع ذلك حتميٌّ تحققها على المدى الطويل في سياق القرائن السوسيولوجية والسياسية والعلمية والتكنولوجية الحديثة، التي لا يمكن أن تؤوب إلى وجهةٍ غير تمايز حقول المجتمع وانتشار الفكر العلمي واستقلال السياسة والاقتصاد والفن عن الدين والأساطير والثقافات الشعبية.
تأسيسًا على هذا الاعتبار، يمكن أن نقول أن تجربة العلمنة في العالم العربي بدأت مقلوبةً ومعكوسةً، أي بدأت من السياسة، في حين أن خطة العلمنة تبدأ بقرون في حقل الثقافة ثم تنتقل بعد زمن طويل نسبيًّا إلى حقل السياسة، وهو عكس ما حدث في العالم العربي؛ فمع سقوط “الخلافة العثمانية” سنة 1922م، سوف تعرف الساحة الفكرية العربية نقاشًا سياسيًّا، بلورته ما سماها “عبد الإله بلقزيز” بـ”الإصلاحية الإسلامية” التي ضمت كوكبةً من الفقهاء والمفكرين الإصلاحيين، كجمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، خير الدين التونسي، رفاعة رافع الطهطاوي، والحسين الحجوي، إذ عمل هؤلاء في إثر الانبهار بتقدم الغرب السياسي إلى تبيئة فكرة “الدولة الوطنية” بأساسها السياسي الأوربي (وليس الشرعي- الديني)، إذ دعوا إلى التحديث على مستوى التنظيمات والقوانين بشكل لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كما قدموا مطالب لإصلاحاتٍ ثقافية، كتعميم التعليم على الإناث وغيرها “41”. إلا أن هذه التجربة الإصلاحية النهضوية تم رفضها وإجهاضها ومحاربتها، والتي كانت لو نجحت ستشكل بابًا واسعًا لدخول وتطور العلمنة في العالم العربي خصوصًا على المستوى السياسي، زد على ذلك، فإن العطب في دعوة “الإصلاحية الإسلامية” كان الاهتمام بتحديث السياسة أكثر من الاهتمام بتحديث الثقافة التقليدية، أي أن عملهم هو الآخر كان معكوسًا ومقلوب الوجهة وفق خطة العلمنة، لذلك فشلت العلمانية في ركاب هذا المشروع النهضوي الذي ساهم في تشكيل تجربة “تحديث” دون خلقٍ وصياغةٍ لـتجربة “حداثة” محلية، كما أنه دفع باتجاه خلق تجربة “علمانية” (كانت ستتحقق فيما بعد على الأقل سياسيًّا) دون تشكيل لسيرورة “علمنة”، وفي غياب الثانيَيْن يستحيل تحقق أهداف الأولين.
من جهة أخرى، فإن تحديث الدولة في التجارب العلمانية يجب أن يوازِي أو أن يتبع تحديث المجتمع، غير أن العلمانية في العالم العربي سلكت اتجاهًا معاكسًا تمامًا، إذ بقي المجتمع تقليديًّا: بنيويًّا وثقافيًّا، في حين تم القفز إلى تحديث الدولة جزئيًّا فقط على مستوى التنظيمات بالضبط، أما القوانين وقواعد الممارسة السياسية فقد بقيت تقليدية هي الأخرى، تتأسس على الأساطير السياسية للقرون الوسطى، وحتى هذا التحديث على مستوى المؤسسات السياسية ثم رفضه على اعتبار أنه لا ينتمي إلى الإسلام، وهذا- في رأينا- عائدٌ إلى أن الدولة الحديثة في العالم العربي ليست منتوجًا للمجتمع، فهي موروثةٌ عن الاستعمار بشكلها الهيكلي الحديث، عكس الدولة في أوربا التي تعتبر بحقٍّ نتيجةً لتطور المجتمع الأوربي، فهي في أوربا نشأت داخل المجتمع، عكس الحال في العالم العربي إذ نشأت الدولة خارج دينامية المجتمع ونسق الثقافة المحلية، لذلك قُبلت هناك ورُفضت هنا، وهو أيضًا أحد أهم أسباب شجب ورَدّ أي شكلٍ من أشكال الدولة تنظيميًّا وهيكليًّا وقانونيًّا في العالم العربي، على اعتبار أنها أشكالٌ لثقافاتٍ أخرى (كافرة؛ ولا ولاية لكافرٍ على مؤمن). ومن هنا، يبرز الثقب الأسود في مشاريع الإصلاح القديمة والحديثة التي همشت الثقافة ولم تعمل على تحديثها وعلمنتها؛ فبدون إصلاحٍ ثقافي، سيفشل حتمًا الإصلاح السياسي والاقتصادي والتنظيمي والقانوني وكل أشكال الإصلاح الأخرى، لأن الثقافة التي ستستقبله وتمارسه غير مصلوحةٍ أصلًا.
في هذا السياق إذن، تم بذر بذرة العلمنة في حقل السياسة فقط، وهو ما تطور في شكلٍ عكسي في العالم العربي السياسي، إذ ستبرز دول يُومِئ شكلها ومؤسساتها على أنها علمانية (مصر- تونس- سوريا منذ خمسينات القرن 20م) ، لكنها كانت جوهريًّا إسلامية، فهي أنظمةٌ كانت مع فصل الدين عن الدولة، غير أنها كانت بشكلٍ مفارق مع استغلال وهيمنة الدولة على الدين، وهذا ما يتناقض مع العلمانية التي تقتضي استقلال حقل الدين عن استغلال حقل السياسة، وهو ما افتقرت له هذه الدول التي تؤكد تجربتها أنها لم تنضج كي تطور داخل حقلها السياسي شرعية سياسية مستقلة عن أي مرجعية تقع في حقلٍ اجتماعي خارجها، بل بقي دائمًا عنقها مشرئبًّا إلى حقل الدين معتبرةً إياه أنجع مكون يُسكت الشعب عن انحرافات السلطة السياسية، وهذا استغلال للدين وليس من العلمانية في شيء.
إضافةً إلى ذلك، فإن خطة العلمنة حينما تبدأ من حقل السياسة، قافزةً على الثقافة وباقي حقول المجتمع، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الديكتاتورية والاستبداد، لأن العلمانية السياسية تكون مسبوقةً بتحقق الديموقراطية، كما يؤكد الأستاذ “شريف فرجاني” “42”، وهذه الديموقراطية التي تعتبر شرطًا للعلمانية السياسية لا يمكن أن تكون إلا منتوجًا ثقافيًّا لمجتمع من المجتمعات. هكذا، فإن العلمانية التي أدت إلى دول استبدادية نلاحظ أنها كلها تشترك في أن الديموقراطية لم تتحقق أولًا في مجتمعاتها كي تنتقل إلى دولها، زد على ذلك أن كل الدول العلمانية الاستبدادية تشترك في أنها لم تخضع إلى “علمنةٍ وتحديثٍ وإصلاحٍ ثقافيّ”؛ فالذي يميز الدول العلمانية الديموقراطية هو سبق علمنة وتحديث الثقافة ونجاح وتحقق الديموقراطية أولًا، عكس الدول العلمانية الديكتاتورية التي لم تستطيع إنجاح تجربة ديموقراطية، كما أن ثقافتها لم يتم تحديثها وعلمنتها أولًا؛ إذ أن الثقافة التقليدية لا يستنكف الديكتاتور عن استعمالها لتبرير ممارساته الاستبدادية، كما أن غياب الديموقراطية يسمح باحتكار السلطة والتصرف خارج القانون دون محاسبةٍ أو مراقبة، وهذا ما يطور الديكتاتورية حتى لو كان صاحبها علمانيًّا. هذا ما يفسر لماذا توجد دول متخلفة وديكتاتورية رغم أنها علمانية، كبعض الدول العربية والإفريقية والأسيوية واللاتينية الأمريكية، فما يفسر ذلك هو فشل التجارب الديموقراطية لهذه الدول، وقفز العلمنة فيها كسيرورةٍ تاريخية إلى حقل السياسة مباشرةً دون التمهيد إلى ذلك ثقافيًّا.
5- نموذج عربي من أجل فهم أكثر:
يمكن أن نتخذ هنا نموذج “المجتمع المَغربي” من أجل رسم صورةٍ واضحةٍ عن النموذج النظري الذي قدمه الأستاذ عزمي بشارة، حيث بقيت حقوله مكثفةً لم تتمايز كثيرًا، كما بقيت ثقافته عتيقةً لم تتطور إلى فكرٍ تجريديٍّ عقلانيّ، بالإضافة إلى ذلك، بقيت بنية الدولة تقليدية لم تتطور، وهو الشيء الذي لم يسعف في تمايز باقي الحقول، على اعتبار أن المكون السياسي موجهٌ لسيرورة التمايز (ليس في كل الحالات على أيٍّ، العلمنة في أوروبا سلكت عكس هذا الاتجاه، إلا أنها في الصين واليابان والهند سلكت نفس المسار، ما يوضح تعددية مسارات العلمنة، رغم أن التجربة التاريخية تؤكد إيجابية المسار الأول) ، فعندما تتوفر رؤيةٌ سياسيةٌ حداثيةٌ للنظام السياسي ويتم تطبيبقها وانتِهَاجها، يتم الدفع باتجاهِ تمايز حقول المجتمع وتطور ثقافته، انطلاقًا من تطور بنيته ونسقه السياسي (مثل النموذج الياباني)؛ وعندما يستمر النظام السياسي في اعتماد نهجٍ سياسيٍّ دينيٍّ تقليديّ، فذلك يعرقل ويجمد سيرورة تمايز حقول المجتمع وتطور الثقافة، وذلك بسبب جمود نسقه السياسي، إذ أن هذه الحالة الأخيرة هي ما يَصدُق على المجتمع المَغربي.
فإلى الآن، لم يتم تبني نهجًا سياسيًّا عصريًّا، ونظرًا لقوة تأثير السياسة على حقول المجتمع، فإن ذلك يتسبب في احتفاظ هذا الأخير ببنيته الحقلية غير المتمايزة، بل أكثر من ذلك. وكما لاحظ “بول باسكون”، فإن المجتمع المغربي لا تتمايز حقوله، بل “تتمازج بنياته” (طبيعة مزيجة composite للمجتمع وليست متمايزة)، حيث أن المجتمع المغربي تمتزج بنيته بما هو بطريركي وقبلي وقائدي وصناعي عصري (43)، فلا يحدث تجاوزٌ لطبيعة مجتمعٍ وبناءُ مجتمعٍ جديدٍ على أسسٍ جديدة، ونمطِ إنتاجٍ جديد، وثقافةٍ وعلاقاتٍ اجتماعية جديدة، وقواعدَ جديدة للنسق السياسي، كما حدث في الدول العلمانية؛ عكس ذلك تمامًا، لا يحصل في المجتمع المغربي انتقالٌ من طبيعة مجتمعٍ إلى أخرى، بل يحدث “تراكبٌ” و”تمازج”، أي لا يحدث “انفصال” بل يتعزز “الاتصال” بين حقول المجتمع المغربي، حيث لا يعرف هذا الأخير مراحل انتقالية بقدر ما يعرف تكثف بُناه الاجتماعية انطلاقًا من عدة أنماط إنتاجٍ وطبائعَ مجتمعية مختلفة حد التناقض؛ حيث يلاحظ بول باسكون أن المحراث الخشبي يتعايش مع الجرار، والعلاقات القبلية داخل النسق السياسي تتمازج مع هيكل دولةٍ عصري، أيضًا، تتمازج الحياة البدوية بقيَمها مع الحياة الحضرية، كما تتمازج العلاقات الاقتصادية الإقطاعية وقيمها مع نظامٍ اقتصاديٍّ صناعي، حيث يصف باسكون المجتمع المغربي بمجتمع المتناقضات (44)، فهو مجتمعٌ ليس بإقطاعيٍّ ولا صناعيٍّ رأسماليّ، ليس بقائديٍّ ولا بقَبليّ ، ليس ثيوقراطيًّا ولا علمانيًّا؛ بل هو كل هذه الأصناف ممتزجة، وهو ما يشكل المجتمع المغربي المعاصر. هكذا نعود ونقول أنه لم يحدث انقطاعٌ عن المجتمع الإقطاعي أو القبلي كما لم يحدث انقطاع عن الثقافة التقليدية، وكذلك لم يحدث انقطاع عن النسق السياسي الذي ينتهج نهجًا دينيًّا ويحصِّل به مشروعيته، ما يعني عدم حدوث تمايزٍ في حقول المجتمع المغربي، وهو الشرط الضروري الذي في غيابه يغيب ذلك “الوعي العام” بضرورة التغيير الذي يستلزم إطارًا سياسيًّا، وذلك ما يخلق بدوره الحاجة إلى تبني نهجٍ سياسيٍّ نسبيٍّ دنيويٍّ وليس دينيٍّ مطلقًا .
هكذا، فسيرورة التمايز التي تسمى في الواقع “علمنة” تكون سابقةً بالضرورة على “العلمانية”، بناءً على ذلك، نستطيع أن نقول بأن المجتمع المغربي لا يقبل العلمانية، لأنه ببساطة لم تعرف “بشكلٍ كافٍ” بنياتُه وأنساقُه الاجتماعية والثقافية سيرورةَ علمنة، وهو شرط قبول الأولى.
ذلك لأن العلمنة تبدأ بحقل الثقافة ثم تتسرب إلى حقول المجتمع جاعلةً إياها تتمايز وتستقل عن بعضها البعض إلا على سبيل التنظيم، حيث تكون العلاقة بين الدين والسياسة مثلًا في مجتمع علماني علاقة تنظيمية وليس هيمنية، وفي غياب هذه السيرورة تغيب العلمانية كقيمةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسية توفر للمجتمعات أرضيةً للتغيير والتقدم والتطور في تفاعل مع عوامل أخرى بطبيعة الحال.
في الختام
في النهاية، يمكن أن نخرج بتوصيات أو نصائح متواضعة بدل الاستنتاجات التي تم عرضها في محاور النص. وأولها: الدعوة إلى الدراسة والبحث في هذه المواضيع بأسلوبٍ علمي وليس ديني وعاطفي، عِوَض التقليد الأعمى للمواقف الجاهزة والسائدة في مجتمعاتنا تجاه العلمانية كمفهوم وتجارب وتاريخ وثقافة، كما ندعوا إلى التوقف عن الإنكار القائل بعدم خضوع المجتمعات العربية الإسلامية إلى العلمنة تحديدًا كسيرورة تاريخية. وثالثًا: يجب الكَفُّ عن اعتبار العلمانية السياسية العربية التي أدت إلى الاستبداد كما أدت إليه في دول أخرى، سببه هو العلمانية ذاتها، فهذا موقف ينْضحُ بالأُمِّية وبعيدٌ عن تحليلٍ منطقيٍّ وعقلانيٍّ للواقع كالذي حاولنا القيام به في هذه الورقة، فمَن يعتقد أن العلمانية وحدها تؤدي إلى الديموقراطية ففهمه مقلوب، ولم يفهم لا العلمانية ولا الديموقراطية. كما يجب التخلي عن الاعتقاد بأن العلمانية تحارب الدين، فهذا مناقضٌ للواقع، بل كما بيّنا فإن كبار علماء الاجتماع والسياسة المحدثين كـ”هابرماس” يجعلون حراسة الدين، ليس في المجال الخاص فقط بل حتى في المجال العام، ضرورةً علمانية، إذا لم تطبقها فهي منحرفة عن روح هذا المنهج التنظيمي والسياسي والاجتماعي، ما ينفي حرب العلمانية للدين. إضافةً إلى ذلك، وهذا هو الأهم، يجب تصويب بوصلة المشاريع الإصلاحية الفكرية والسياسية في العالم الثالث باتجاهِ تحديث الثقافة أولًا وقبل كل شيء، فإذا لم يتم تحديث الثقافة فلتتوقف، توفيرًا للجهد، باقي وجهات الإصلاح، لأن تحديث وإصلاح باقي حقول المجتمع دون النجاح في إصلاح وتحديث الثقافة، يعتبر كمن يضع العربة أمام الحصان .
كما أود أن أنوه إلى أن موسوعة عزمي بشارة أكثر نفعًا للباحثين والقراء العرب من أجل التوسع واكتساب أرضية علمية من أجل فهم الظواهر السياسية والدينية في عالمنا المعاصر، ما يقتضي التنبيه إلى أن قراءة هذه المراجعة- ربما- المختزلة لأفكار هذه الدراسة، لا تعوض قراءة الموسوعة بل المشروع الفكري الكامل للدكتور عزمي بشارة.
إحالات ومراجع (24) عزمي بشارة، "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"- الجزءالثاني/المجلد الثاني- "العلمانية ونظريات العلمنة" ، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة- بيروت، 2015، ط1، ص 51- 176. (25) تعرف "كاترين كنسلر"- وهو من أحدث التعريفات- العلمانية بأنها: "طريقة تَصور وتنظيم تعايش الحريات" .. انظر كتابها "ما العلمانية؟"، ترجمة محمد زناتي وجيوم ديفو، مراجعة فاطمة خليل، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2017، ط 1، ص 10. (26) يرى عالم الاجتماع الألماني الشهير "يورغن هابرماس" أن العلمانية من واجباتها التي استحدثت من أجل تنفيذها هو حفظ استقلال الدين وحراسة وجوده، ليس في المجال الخاص فقط بل حتى في المجال العام.. انظر مقالته المترجمة "المجتمع ما بعد العلماني- تأصيل المعنى والتجربة"، تعريب د.ريم يوسف، مجلة الاستغراب، العدد 2/2016، بيروت، ص 52- 53. (27) ع.بشارة، "الدين والعلمانية"- الجزء الثاني/المجلد الثاني- "العلمانية ونظريات العلمنة"، ص 282- 314. (28) مالوري ناي، "الدين الأسس"، ترجمة هند عبد الستار، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2009، ط1، ص 328. (29) خوسيه كازانوفا، "الأديان العامة في العالم الحديث"، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005، ص 32-33-34. (30) ع.بشارة، الجزءالثاني/المجلد الثاني- "العلمانية ونظريات العلمنة"، م.س.ذ، ص 177-212. (31) روا أوليفييه ، "الجهل المقدس- زمن دين بلا ثقافة"، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت 2012، ط 1، ص 21. (32) جوديث بتلر- يورغن هابرماس- كورنيل ويست- تشالز تيلر، "قوة الدين في المجال العام"، ترجمة فلاح رحيم، دار تنوير، بيروت 2013، ط 1، ص 31. (33) مجموعة باحثين، "العلمانية وصناعة الدين"، تحرير "ماركوس درسلس وأرفيند" و"بال س. ماندار"، ترجمة حسن أحجيج، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2017، ط1. (34) يستعمل"كليفورد غيرتز" المصطلح للتعبير عن طبيعة المجتمع الأندونيسي باعتباره مجتمعًا تقليديًّا ذا خلفية ريفية، أي غير شديد تمايز البنية الإجتماعية.. انظر كتابه "تأويل الثقافات"، ترجمة محمد بدوي، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2009، ط 1، ص 360. (35) Pierre Bourdieu, "Face au problème de l'autonomie", Revue Critique, N 579/580, aôut- septembre 1995, p 697-703. (36) برنارد لاهير، "عالم متعدد الأبعاد- تأملات في وحدة العلوم الاجتماعية"، ترجمة بشير السباعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2015، ط1، ص 51-120. (37) عزمي بشارة، "المجتمع المدني- دراسة نقدية"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2012، ط 6، خصوصًا ص 47. (38) ع.بشارة، "الدين والعلمانية"- الجزء الثاني/المجلد الثاني- "العلمانية ونظريات العلمنة"، ص 218 وما بعدها. (39) المرجع السابق، صـ 421-427. (40) عزيز العضمة، "العلمانية من منظور مختلف"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992، ط1، ص 197. (41) عبد الإله بلقزيز، "الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2004، ط2، خصوصًا الفصلين الأول والثاني، ص 19-52. (42) فرجاني محمد شريف، "العلمنة والعلمانية في الفضاءات الإسلامية"، دار تنوير، بيروت 2017، ط1. (43) Paul PASCON, "30 Ans De Sociologie Du Maroc", Bultin économique et social du maroc, Sous l'égide de centre universitaire de la recherche scientifique, SOCHEPRESS, Casablanca 1986, p 211 . (44) P.PASCON, op,cit, p 211-212.