الدين في أدب الخيال العلمي

قراءة في 3 روايات

ربما يمثّل أدب الخيال العلمي دربا متميزًا عن غيره من دروب الأدب عند تناوله اشكاليات الانسانية الكبرى، فهو المكانَ الأكثر راحة لنا، والمساحة المناسبة لمناقشة أفكارنا الدينية وتناقضاتنا العقائدية والنظر إليها من زوايا غريبة ومختلفة، والبحث عن إجابات لأسئلتنا الكونية حول معنى الحياة، وحقيقو الشر والخير، على ضفاف المجرات عند أطراف الكون، وذلك بعدما فشل معظمنا في إيجاد إجابات شافية في دور العبادة على كوكب الارض.

ولقد تنقّل كتاب أدب الخيال العلمي عند معالجتهم لموضوع الدين من قضايا الإلحاد الصريح بل والساخر من فكرة وجود خالق كما في أعمال «كين ماكلويد – Ken Macleod»، إلى تتبع تطوّر دين ما عبر عصور زمنية متتالية كما فعل «أولاف ستيبلدون – OLaf Stapledon»، أو مهاجمة أركان بعينها في الديانة المسيحية مثل الخطيئة مثلما فعل جيمس بليش وسي أس لويس، أو حتى ابتكار ديانة جديدة مثلما فعل هربرت هينلاين في روايته غريب في بلاد غريبة.

ولقد رأيت أنه من باب التسرية عن النفوس في هذا الجو الشتائي المليء بالضباب والشحوب أن أقدّم للقارئ استعراضا عاجلًا لهذه الظاهرة في أدب الخيال العلمي خاصة والفانتزيا عمومًا ،وذلك من خلال عدد من الأعمال الأدبية الجميلة التي أحببتها على المستوى الشخصي، وأوصي القارئ المحب للخيال العلمي بقراءتها:

أولًا هل للدين أهمية؟

«قضية ضمير – A case of conscience» لجيلمس بليش: 

في عام 1958 نشر جيمس بليش روايته الشهيرة هذه، وهي رواية فلسفية تستدعي التأمّل والتفكير من روايات أدب الخيال العلمي الجميلة. بطل الرواية كان قسيسًا يسوعيًا وعالمًا في الأحياء من بيرو اسمه الأب رامون شانسيز، ذهب في مهمة ضمن بعثة من أربعة علماء إلى كوكب ليثيا الذي يقع على مسافة نحو 50 سنة ضوئية من كوكب الأرض. وكان الهدف من هذه الرحلة بحث مدى ملاءمة هذا الكوكب ليصبح مركز انطلاق للتوسّع في نشر الحضارة الإنسانية، ومركزًا تجاريًا لا يهدّد أمن أهل ليثيا، وهم زواحف عاقلة يبلغ طول الفرد منها نحو 12 قدمًا، ولا أهل الأرض بطبيعة الحال.

إعلان

خلا المجتمع الليثياني من الجرائم والشرور والخلافات والأحزاب السياسية وكافة المنغصات التي عانى منها البشر على سطح الأرض، فهو عالم طوباوي يحكمه العقل والمنطق والعلم، ويتمتّع أهله بالحرية لكن اختياراتهم دائمًا اختيارات تراعي الأخلاق، واحترام الغير، والحفاظ عليه دون قيود أو أو أحكام تفرض عليهم الاختيارات الأخلاقية. يمثّل المجتمع نموذجًا لسلوك البشر في حياتهم بالشكل الصواب والمثالي، وهذا ما لم نشاهده أبدًا. وعلى الرغم من كل هذه الأخلاق والقيم والمثالية، لم يوجد لدى أهل الكوكب دين يتعبّدون به أو إله يبتهلون باسمه أو أسطورة تمنح المعنى لحياتهم أو أي إيمان بقوى غير طبيعية.

الحل التوافقي الذي توصل إليه الأب ريمون

رأى القس ريمون أنً وجود مثل هذا الكوكب بكل مثالياته يمثّل معضلة فكرية في عقيدته قد تهزّ معتقدات أهل الأرض، وأوصى في تقريره بفرض نوع من الحَجْر هذا الكوكب لمنع السفر منه وإليه تجنبًا لأثره المدمر عقائديًا على البشر:

1- دورة حيان الليثانيين تثبت عمليًا صحة نظرية التطور تمامًا بما يدحض أفكار الكنيسة الخاصة بالخلق الإلهي.

2- وجود مجتمع مثالي خالٍ من الشر بهذه الصورة لابد أن يكون قد خلقه “الشيطان” فتنة للبشر عن صحيح الدين فالدين مصدر الأخلاق وسبيل صلاح الإنسان، وإذا كان في الإمكان وجود مجتمع مثالي يعتمد فقط على العقل والعلم ولا يحتاج لضوابط من معبد أو معبود، فمن يحتاج إلى الدين عندئذ؟

تناقض الأب ريمون مع تعاليم الكنيسة

عندما طرح الأب ريمون هذه الفكرة أراد حلّ إشكالية دينية تتعلّق بوجود مجتماعات ناجحة لا تحتاج لإله ولا أديان تنظم حياتها، فافترض أنّ وجود هذا العالم هو عمل من أعمال الشيطان، ناسيًا أن حله هذا الذي يهب للشيطان القدرة على الخلق يمثّل نسخة أخرى من الهرطقة المثناوية المانية التي تقسّم العالم بين الله والشيطان أو النور والظلام لحلّ إشكالية الشر. ولقد أثارت هذه الفكرة الغضب الشديد لدى قداسة بابا روما، ولام الأبَ ريمون على تفسيره، وقال له إنّ ما أراه في هذه الكوكب هو مَسٌّ من الشيطان وليس خلقًا جديدًا، وإنّ عليه أن يقيم قداسًا على هذا الكوكب لطرد الشيطان بعيدًا عن أرواح أهل الكوكب ليعودوا إلى رشدهم.

فناء كوكب ليثيا

عادت البعثات للتنقيب عن الليثيوم واليورانيوم؛ تلك المعادن الهامة لصنع الأسلحة النووية التي يسعى وراءها أهل الأرض، وشنّت حملات قوية لقطع الأشجار والغابات بل وقطع الشجرة العملاقة المعروفة على ظهر هذا الكوكب باسم شجرة التواصل والتي تمكّن أهل ليثيا من الاتصال فيما بينهما في جميع أنحاء الكوكب.

تذكّرنا هذه الشجرة بمثيلتها في فيلم أفاتار. وقام الأب ريمون فينوس بإجراء جلسة قوية لطرد الروح الشريرة أو الشيطان بعيدًا عن هذا الكوكب، ومع نهاية القداس انفجر الكوكب بأهله الطيبين ليفقدوا حياتهم بسبب خيريتهم التي لا تحتاج إلى دين، وتحت ضغوط تكنولوجيا أنانية وعقيدة أرضية لا تقبل التسامح.

ثانيا: ما يمكننا أن نفهم أفعال الله؟ (معضلة الشر)

«العصفور – the Sparrow» لماري راسل

نشرت هذه الرواية في عام 1996، وهي من تأليف ماري دوريا راسل إحدى أيقونات أدب الخيال العلمي، وبطلها قسي يسوعي كالعادة اسمه ساندوز. وعلى عكس بطل “قضية ضمير” -كما أشرنا لها أعلاه- الذي حاول إيجاد تفسير توافقي لا يخالف عقيدته للحياة الأخلاقية الهانئة السعيدة التي يحياها أهل “ليثيا” دون دين، فإنّ بطل “العصفور” وهو رجل دين ورع ومتفقه في دينه بشكل كبير يفشل في إيجاد تفسير يحلّ أزمة الصراع النفسي الذي يعتري صدره، بخصوص وجود الألم والعذاب الذي يلحق بعباده المخلصين والأبرياء من خلق الله.

تروى الحكاية في العصفور على خطّين زمنيين، وهو أسلوب معتاد في أدب الخيال العلمي، في الخطّ الأول، يلتقط التلسكوب العملاق بمرصد اريسيبو إشارات من منطقة ” ألفا سنتوري” في صورة مقطوعات موسيقية جميلة، وعلى الفور أرسلت بعثة من رجال الدين اليسوعيين لإيجاد مصدر الإشارات، والتي كانت تأتي من كوكب اسمه”رايات Rakhat “. كان الأب “ساندوز” بطل القصة ضمن أعضاء البعثة بوصفه عالم لغويات.

أما في الخطّ الثاني، فتجري أحداثه بعد 40 عامًا حيث يخضع الأب ساندوز للتحقيق من قبل جمعية اليسوعيين بعدما قدمت البعثة التي أنقذته من كوكب راخات تقريرًا مشينًا في حق القسيس، والذي أشار إلى أنّ البعثة، وإن كانت وجدت الأب ساندوز مبتور اليدين بشكل وحشي، رأته يعمل “مومسًا” وقتل “طفلة صغيرة” بريئة أمام أعينهم. وتكشف التحقيقات أنّ الأب ساندوز تم اختطافه و بيعه في سوق للعبيد حيث تناوب خاطفوه وملاكه على اغتصابه، وقطعوا يديه، وسجنوه في زنزانة مظلمة، وعند محاولته للفرار من هذا العذاب قتل دون أن يقصد أول شخص يعترضه، والذي تصادف أنها طفلة بريئة.

أزمة الأب ساندوز

تناقش القصة أساسًا موضوع العذاب والمعاناة غير المفهوم الذي يلهب ظهور الناس الأبرياء الذين يؤمنون برحمة الله وفِي رعايته لخلقه (أطفاله كما ورد في إنجيل متى)، ويسعون لنشر رسالته، فكل أعضاء البعثة من البشر الطيبين حسني النوايا بما فيهم ساندوز نفسه الذي كان قديسًا قريبًا من الله قد ماتوا وتعرضوا لعذاب وآلام مهينة لا تحتمل… آلام غير مبررة لنا ولم يقدم المسؤول عنها ما يبررها..

وفي أحد الحوارات اللطيفة في الرواية، تساءل أحد الآباء: “لماذا نشكر الله عند نجاة مريض من عملية جراحية بينما نلوم الطبيب وحده إذا فشلت العملية؟ واذا كان الله فعلًا لا تخفى عنه خافية ويرى العصفور الصغير حتى إذا هوى على الأرض، فهل يبالي بألم العصفور؟ والحقيقة التي شعر بها الأب ساندوز هو أننا فعلًا لا نفهم أفعال الله ولا نفهمه أبدًا مثلما لا نفهم الكائنات غير الأرضيّة التي تعمر كواكب هذا الكون، أو ياترى: هل لايدير الله شؤون الكون على المستوى “المايكرو” الصغير.

ثالثا: ديانات جديدة في أدب الخيال العلمي

«غريب في بلاد غريبة- Stranger in a strang land» لروبرت هينلاين

ربما تكون الديانة الأشهر في تاريخ أدب الخيال العلمي، والتي كسرت قيود عالم الخيال منطلقة إلى أرض الواقع في ولاية أوكلوهاما بالولايات المتحدة هي “كنيسة كل العوالم Church Of All Worlds”. تأسّست هذه الديانة بين صفحات رواية “غريب في بلاد غريبة”، والتي ألّفها أحد أساطين الكتابة في مجال الخيال العلمي روبرت هينلاين وأسماها وفقا للآية 22: 2 من سفر الخروج بالكتاب المقدس.

تدور الرواية حول الشاب “فالنتين مايكل سميث” الناجي الوحيد من أول بعثة أرسلت إلى المريخ، والذي تولى تربيته “المريخيون”، والذي عاد إلى كوكب الأرض عندما بلغ من العمر 25 عامًا مع البعثة الثانية للكوكب الأحمر. عاد سميث محملًا بأفكار أهل المريخ وحضارتهم. وبوصفه الوريث الوحيد للبعثة الأولى، فإن سميث لم يكن ثريًا فقط بل كان المالك الوحيد لكافة الموارد على كوكب المريخ، وبمساعدة الأديب الشهير “جوبال هارشو” أصبح سميث نجمًا في جميع وسائل الإعلام وأسس، من موقعه هذا، “كنيسة كل العوالم”.

ظهرت كنيسة العوالم كفكرة نتيجة لحوارات بطل الرواية مع الأديب “هاراشو” حول دور الدين في المجتمع ودراستهم للعديد من الديانات على الأرض. ضمّت الرواية أفكارًا مثل تشجيع الناس على فهم الآخرين والإحساس بهم دون اللجوء للحواس والاعتماد على تنمية التخاطر بين الناس والتواصل بين الناس بحيث تدرك ماذا يقصد وبما يشعر الآخرون وأسماها “سميث” بلغة المريخ “grokking”، والغريب أن تدخل هذه الكلمة اللغة الإنجليزية فعلًا، وتستخدم بمعنى الفهم العميق للأفكار حتى دون أن يعبر عنها الآخر بشكل كامل. وشملت هذه الديانة أيضًا تحرير علاقات الحب والجنس بين الناس وطقوسًا ترمز للأخوة بين أعضاء الكنيسة وأسموها “مشاركة المياه”.

من أدب  الخيال العلمي إلى الواقع

في عام 1961 قرر بعض الشباب من زملاء الدراسة إنشاء كنيسة جديدة أو ديانة جديدة يمكن إدراجها تحت مفاهيم «الوثنية الجديدة New Paganism» التي تركز على تقديس الطبيعة وإطلاق الحريات الشخصية إلى مداها، وكان ذلك تأثرًا بأفكار “غريب في بلاد غريبة” لروبرت هينلاين. وكانت الخطيئة الأعلى في عرف هذه الكنيسة هي “النفاق”، والتدخل في شؤون الغير.

في الختام

لم يتبنَّ أغلب كتاب أدب الخيال العلمي موقفًا منكرًا وعدائيًا من الدين وقضاياه الميتافيزيقية لكنهم حاولوا مناقشة أسئلته الكبرى، وربما تقديم بدائل جديدة معتمدين بشكل أساسي على «تيمات – themes» الكتاب المقدّس لليهودية والمسيحية.

ولقد حاولت تقديم عدد من النماذج اللطيفة من اشهر الاعمال الادبية فيمثل هذا النوع من الأدب، وأتمنى أن يقدّم هذا المقال المتواضع نواة صغيرة لبحث موسّع عن العلاقة بين الدين وأدب الخيال العلمي.

إعلان

مصدر موسوعة الخيال العلمي كتاب رواية
فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا