الحملة الصليبيّة الثالثة (1): المظفّر ريتشارد قلب الأسد
نتناول في هذا المقال الحرب الصليبية الثالثة بشكل أكثر تفصيلّا، بعد أن تناولنا حياة أشهر ملوك إنجلترا في التاريخ، وطفولته وكيف صعد إلى العرش بعد سلسلة من التمردات والحرب الأهلية، نصل مع ريتشارد قلب الأسد أخيرًا إلى السواحل العربيّة، بعد رحلة دمويّة كانت مغامرة في حد ذاتها، احتلّ فيها دولتين، وسجن ملكًا، ودبّ أكثر من خلاف مع حليفه فيليب ملك فرنسا، حتى كاد التحالف بينهما ينتهي وتفسد الحملة الصليبية الثالثة قبل أن تبدأ، حتى جاء الوقت أخيرًا لأهم أعمال ريتشارد على الإطلاق، والحدث الذي خلده في التاريخ، لكن ما دور ريتشارد قلب الأسد فعلًا في الحملة الصليبية الثالثة؟ وهل كانت ناجحة مثل الحملة الأولى؟ أم كانت تمهيدًا لباقي الحملات الفاشلة من بعدها؟
حصار عكا
بحلول 1189 كان العرب قد استعادوا مدينة عكا الساحلية والتي تعد منطقة مهمة واستراتيجية للطرفين، وبدأ التمهيد للسيطرة على القدس، وضع صلاح الدين حامية قوية بالمدينة وجهزها لهجوم الصليبيين من جديد، الذي بدأ سريعًا عن طريق من وصلوا من الجيش الألماني، بعد وفاة الإمبراطور “باربوسا” في الطريق وعودة معظم جيشه، بالإضافة إلى الجيوش الصليبية الموجودة بالفعل في الأراضي العربية المحتمية بمدينة “صور” اللبنانية، وبعض الإمدادات من صقلية والدنمارك وهولندا وإنجلترا، تم فرض حصار كامل على المدينة وحاميتها، لكن المدينة صمدت ببسالة لعامين.
قام صلاح الدين الأيوبي بمهاجمة المحاصرين باستمرار من الجبال، وتطور الوضع بعدها إلى مجموعة من المعارك، يتخللها هدنة يتبادل فيها الطرفان الهدايا والعلاقات الطيبة، حتى ظنّ البعض أن الحرب قد انتهت، حينها وصل الجيش الفرنسي بقيادة الملك فيليب أوجستس في 20 إبريل 1191، ودبّ الأمل من جديد وأصبح الهجوم أكثر ضراوة.
لكن بلا فائدة، ما زالت المدينة حصينة، حتى أصبح موقف الصليبيين صعبًا بمرور الوقت، مع نقص عددهم وقلة إمداداتهم، واستعداد صلاح الدين للهجوم من الجبال بجيش جرار في أي وقت، مع وصول جيوش لمساعدته من الخليفة العباسي في بغداد، فكان وصول ريتشارد هو الأمل الوحيد لهم.
حتى جاء أخيرًا في شهر يونيو من نفس العام، ظهر تأثيره سريعًا، فقد اعتمدت حامية عكا على الإمدادات القادمة من البحر، بالرغم من حصار السفن الفرنسيّة للمدينة، فقد تمكن العرب من كسر الحصار أكثر من مرة ومساعدة المدينة، وفي مرات كانوا يضعون العلم الفرنسي على السفينة ويتحدثون الفرنسية مع السفن الأخرى، مع رفع الصليب وحمل خنازير حية على السفينة، فيسمح لهم بالمرور ويمدوا المدينة بالعون.
لكن ريتشارد قلب الأسد لاحظ في طريقه الى سواحل عكا سفينة غريبة، وعندما حاول أسطوله الاقتراب منها، همّت بالهرب سريعًا، وعندما أدركوا انه لا مهرب، حاولوا إغراق السفينة حتى لا يحصل ريتشارد على ما بها، ويهربوا من الأسر، لكن تم محاصرتهم قبل ذلك، ودخل الإنجليز السفينة وقاموا بمذبحة، حيث تركوا تقريبا 35 فقط من 500 كانوا على السفينة، والناجيين كانوا من الضباط أو الاغنياء بغرض طلب فدية من أهلهم، ونجحوا أيضًا في الحصول على عتاد السفينة قبل الغرق.
ما افتقده الصليبيون قبل وصول ريتشارد، تفرقهم وحقدهم على بعضهم، فقد كانوا من بلدان مختلفة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وممالك أخرى صغيرة، بثقافة ولغة وعادات مختلفة، وأهداف خاصة لكلٍّ منهم، بينما العرب متجمعون تحت راية حاكم واحد لهدف واحد، فالطبع لهم الغلبة، لكن قوة ريتشارد قلب الأسد وشخصيته المسيطرة، كذلك عظمة وضخامة جيشه وسمعته كمحارب جبار، وجاذبيته كشخص وسيم صاحب بنية جسديّة مميّزة وشعر أصفر مائل للحمرة، صفات جعلت الجميع يلتفون حوله بإخلاص ورهبة في نفس الوقت، ولو لفترة من الزمن.
مما أعاد الخلاف والحقد من جانب ملك فرنسا، الذي لم تكن المقارنة مع ريتشارد في صفّه، فقد كان مملاً وصارمًا يفتقد الشجاعة والوسامة، ويميل للسياسة والخداع أكثر، فعادت الخلافات بينهما، لكن وصول ريتشارد على أي حال قلب الكفة لصالح الصليبيين فورًا، حينما وصل أسطوله، هلّل الصليبيون وانتشرت الاحتفالات، وهرع الجميع لرؤيته وتناقل الأساطير عن قوته وشدته، وهو بدوره حاول السيطرة على كلِّ الأمراء، وعاملهم بتكبر وتعالٍ كعادته، مما سيتسبب بمشاكل أخرى فيما بعد.
سقوط عكا
حاول ريتشارد في البداية مقابلة صلاح الدين، بعد أن سمع عن أخلاقه وتعامله الطيب مع المسيحيين وأسراهم، وأراد التوصل لاتفاق سريع يضمن عودة القدس، عن طريق التأثير على صلاح الدين وإبهاره بتكبره وعجرفته، لكن صلاح الدين رفض وبرّر أن “لا يجتمع الملوك إلا بعد اتفاق لأنه لا يليق أن يتعارفوا ويتقاسموا الطعام، ثم يتجهوا إلى الحرب”، وأرسل شقيقه العادل صفي الدين، لكن ريتشارد أصابه المرض ولزم الفراش لفترة، وانتهت المفاوضات.
بعد فشل عدد من الهجومات المنفردة، اتّفق ريتشارد وفيليب على الهجوم معًا وتنحية الخلافات جانبًا، لكنهما فشلا مجددا في اختراق أسوار المدينة، لكن مع الهجوم المستمر وانقطاع الإمدادات من البحر مع وصول ريتشارد، لم تعد المدينة قادرة على المقاومة، ولم يستطع صلاح الدين المهاجمة من الجبال بسبب قوة جيش ريتشارد.
وأي محاولة للتسلل من المدينة أو الحصول على مساعدة، كان يتم كشفها من داخل المدينة، حيث كان شخص مجهول يقوم بإرسال خطابات إلى ريتشارد، يحذر فيها من مخططات العرب، ويدل الصليبيين على تحركات صلاح الدين، وأماكن تواجد الجنود بالداخل، فكان يرسل الخطاب بسهم يطلقه من داخل المدينة باتجاه معسكر الصليبيين، وظلت هويته لغزًا لم يتعرّف عليه أحد، حتى بعد نهاية الحرب.
فلم يكن أمام المدينة إلا الاستسلام، رافعةً راية الهدنة مطالبةً التفاوض قبل وصول أمر صلاح الدين، لكن أصرّ ريتشارد على الاستسلام غير المشروط، وإلا سيترك جنوده يجتاحوا المدينة ويقتلوا أي كائن حي بالداخل، وسمح لهم بمراسلة صلاح الدين والمشورة معه، وبعد مفاوضات اتفقوا على التالي:
- يسلّم الجميع الأسلحة والعتاد داخل المدينة
- يسمح للعامة والجنود بالخروج بسلام مقابل دفع فدية ضخمة
- يعيد صلاح الدين الصليب الذي تم صلب السيد المسيح عليه، والموجود بالقدس
- يفرج صلاح الدين عن كل الأسرى من بداية الحرب
- يحتفظ ريتشارد بعدد من الأسرى كضمان حتى دفع 200 آلف قطعة ذهب، بعد 40 يوم، ثم يفرج عنهم
وافق صلاح الدين على مضض، واستسلمت المدينة في 1191، وحقق الصليبيون الانتصار الأول للحملة، بعد وصول ريتشارد بشهر تقريبًا، وزاد سقف التوقعات وعمّ الأمل النفوس أن القدس قادمة لا محالة.
خلافات ما بعد عكا
دخل ريتشارد عكا بجيشه معتبرًا نفسه ملكها، متجاهلًا باقي المشاركين في الحملة، بما فيهم فيليب ملك فرنسا، بالرغم من اتفاقهم بالحكم المشترك، لكن ريتشارد دخل قصر المدينة الرئيسي ونزل فيه مع زوجته وشقيقته، وترك فيليب ينزل في أي قصر أقل منه، وتم رفع العلم الإنجليزي أولا والفرنسي بجواره، ومنع الآخرين من رفع أعلامهم على المدينة، بالأخص “ارشيدوق أو حاكم النمسا”، الذي أنزل ريتشارد علمه وداس عليه بقدميه، وسط ذهول وصدمة معسكر الصليبيين، وأقسم بعدها الأرشيدوق بالانتقام من ريتشارد، ويجب ذكر هذه الحادثة لأن لها دور كبير في حياة ريتشارد بعد ذلك.
ثم قام خلاف عظيم على لقب ملك القدس، بالرغم من أن المدينة لم تكن من الأساس تحت سيطرتهم، لكن اشتد الخلاف بين اثنين Guy of Lusignan وConrad of Montferrat، ادّعا كلا منهما أحقيته باللّقب، اختلف ريتشارد وفيليب من جديد، حيث ساند كلا منهما شخصًا مختلفًا، ودبَّ الانقسام بين الأمراء، حتى قرّر ملك فرنسا في النهاية الرحيل!
رحيل ملك فرنسا
رأى فيليب بوضوح أن استمراره في الحملة، لن يكون إلا كتابع لريتشارد أو بمكانة أقل منه، فعزم لبعض الوقت الرحيل، ولم يعد يستطيع تحمل غرور وتكبّر ريتشارد، ولما اشتدّ الخلاف، ادّعى المرض أو كان مريضًا فعلاً، وأراد العودة إلى بلاده سريعًا، وترك الحملة.
رفض ريتشارد ذلك بشدة، لأن الحملة ما زالت في البداية، ودخول عكا ما هو إلا خطوة تجاه القدس، ورحيل الملك سيضعف شوكة الصليبيين، وأيضًا خشي أن يستغل فيليب غيابه ويهاجم أملاكه في فرنسا، فاشترط عليه ترك جيشه قبل الرحيل، فوافق على ترك ما يقارب 10000 تحت إمرة ريتشارد، وأن يقدّم قسمًا مقدّسًا ألّا يهاجم بلاد ريتشارد حتى 40 يومًا من عودة ريتشارد من الحملة، اتّفق الجميع ورحل الملك وسط غضب وصياح الحاضرين.
جريمة الملك ريتشارد
قاربت المهلة المتّفق عليها بين ريتشارد وصلاح الدين لدفع الفدية، لكن صلاح الدين وجد نفسه في مأزق، لم يستطع جمع 200 ألف قطعة ذهبية، فحاول استعطاف ريتشارد وأرسل الهدايا والعطايا، وحاول طلب تمديد المدة، لكن ريتشارد رفض، واختلفوا على آلية الإفراج عن الأسرى المسيحيين، وكيفية دفع الأموال.
وانقضت المهلة ولم يدفع صلاح الدين الفدية أو يعيد الأسرى، فلم ينتظر ريتشارد يومًا واحدًا وأمر بإعدام الأسرى، وعندما تردد الجنود في قتل العزّل بدم بارد، سرت إشاعة أن صلاح الدين قد قام بإعدام الأسرى المسيحيين، فثار الدم في عروق الجميع، واتّجهوا بغضب نحو الأسرى، جمعوهم أمام المعسكر وقتلوا 2600:5000 شخص من بينهم أطفال ونساء بوحشية، ما عدا مجموعة من الأغنياء في مقابل دفع فدية لأنفسهم.
بعد قتل الجميع، قام الجنود بتقطيع الجثث بحثًا عن مجوهرات أو ذهب، أخفاه الأسرى العرب، وتفاخر ريتشارد بهذا واعتبره دليل على تفانيه تجاه المسيح، وخرج في موكب على رأس الأسرى الأحياء، فيما هلّل له الجميع، بينما عجز صلاح الدين عن الرد.
مراجع: Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England- Thomas F. Madden, The Concise History of the Crusades- The Crusades: The authoritative history of the war for the Holy Land- - (سيرة صلاح الدين الأيوبي (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية History Makers: Richard I: The Lion Heart- Sir Steven Runciman, A History of the Crusades: Volume 3, The Kingdom of Acre and the Later Crusades- Paul M. Cobb, The Race for Paradise: An Islamic History of the Crusades- -الحروب الصليبية كما رآها العرب: أمين معلوف James Reston Jr, Warriors of God: Richard the Lionheart and Saladin in the Third Crusade-