الحصاد- للكاتب الأمريكي المكسيكي توماس ريفيرا

إنها فترة ما بين نهاية أيلول وبداية تشرين الأول، أفضل أوقات السنة. أولًا، لأنها كانت إيذانًا بانتهاء العمل والعودة إلى تكساس، ولأن الهواء كان يعبق بشعورٍ غريب خلقه الفلاحون أنفسهم، كان إحساسًا بالسلام والموت، حتى الأرض كانت تشاطر الناس هذا الشعور. البرد يأتي رويدًا رويدًا، والصقيع لا يُبقي على حياة في الليل، وحين يحل الصباح، يفرش الأرض بثوبٍ ناصع البياض. لقد بدا كل شيء كما لو أنه على وشك الانقضاء. وبالنسبة للناس، كان هذا وقت الراحة، فأخذوا يتناقلون الأحاديث عن رحلة العودة إلى تكساس، وعن الحصاد هذه السنة، وإن كانت غلالهم منه كثيرة أم شحيحة، وإن كانوا سيعودون إلى الأرض ذاتها في العام المقبل. البعض أخذ يتمشى مسافاتٍ طويلةً حول البساتين، كما لو أن هذه الأيام الأخيرة من الموسم أحيت ما على الأرض وجعلت الناس يغرقون في التفكير.

لذلك لم يكن مفاجئًا رؤية دون “تراين” يتمشى وحيدًا في البستان ويسير في الحقول كل يوم. كان إذا طلب إليه أحد مرافقته في مسيره يستشيط غضبًا ويرفض أن يسير أحدٌ حتى وراءه.

“لماذا يريد البقاء وحده؟”

“هذا شأنه هو.”

“لكنه لا يكف عن المسير أبدًا. أعتقد أنه لا يتناول العشاء حتى، أليس ذلك غريبًا بعض الشيء؟!”

إعلان

“أظن ذلك. ألم ترَ كيف غضب منا حين قلنا له أننا نرغب في مرافقته! لم يكن شيئًا مزعجًا لهذا الحد؛ فهذه ليست أرضه، ويمكننا السير في أي مكان متى ما أردنا ذلك.”

“هذا ما يجعلني أتساءل عن سر مسيره وحيدًا.”

وهكذا بدأت الشائعات تحوم حول دون تراين ونزهاته الطويلة. لم يكن الناس ليفهموا السبب الذي يدفعه للقيام بذلك عصر كل يوم. كان يسير بعض الوقت ويستدير ثم يتوجه نحو قن الدجاج. وقد عرف الناس ذلك حين كان بعض الشباب يتجسس عليه. وأطلق الناس العنان لمخيلاتهم لتنسج شتى الحكايا والشائعات؛ فقالوا أنه يخبئ المال الذي جناه هذه السنة من الحصاد، أو ربما وجد كنزًا ثمينًا، وهو يقوم يومًا بعد يومٍ بنقل قسمٍ منه إلى القن، ولم يَفُتهُم القول بأنه في شبابه انضم إلى عصابة في المكسيك وحمل معه مالًا كثيرًا من عمله معها. ببساطةٍ، كانت كل التخمينات تتركز على فكرة أنه يخبئ مالًا.

“ليس متزوجًا، وليس لديه عائلة، فبمن يعتني؟ ثم أنه يعمل لسنوات، ألا يجب أن يكون قد حصل على مالٍ وفير؟ كل ما يشتريه هو بعض الطعام وبعض الأحيان يشتري الجعة.”

“أجل، لابد أنه يملك المال الوفير. ولكن أتعتقد أنه سيدفنه في مكانٍ ما هنا؟”

“من قال أنه يدفن شيئًا؟ اسمع، إنه يشتري طعامه كل سبت. لنراقبه ونعرف إلى أين يذهب هذا الأسبوع، وفي يوم السبت عندما يذهب في مشواره، سنرى ما الذي يخبئه، ما رأيك؟”

“هذا جيد، لنأمل ألا يمسك بنا.”

في ذلك الأسبوع راقب الفتيان دون تراين عن قرب، ولاحظوا أنه يختفي داخل البستان ثم يخرج من الجهة الشمالية، يعبر الطريق ثم يعبر الحقل حتى يصل إلى قناة الري، هناك يختفي عن الأنظار قليلًا، ثم يظهر من جديد في الحقل الغربي، في تلك المنطقة كان يمكث وقتًا أطول. ولاحظوا أيضًا أنه يتخذ طريقًا مختلفة ليضلل الناس عن طريقه، ولكنه يقضي معظم الوقت في قناة الري بعد أن يعبر الحقل الغربي. لذا قرروا التحقق من قناة الري السبت القادم.

وحين جاء اليوم الموعود، انطلق الفتيان تجول في مخيلاتهم أفكار شتى، واتجهوا نحو الحقل الغربي. وحين وصلوا إلى الحقل التي تقع خلف قناة الري، وجدوا أمرًا غريبًا؛ كانت الأرض تحوي عددًا من الحفر.

“هل ترى هذه الحفر؟ تسوية الأرض لا تصنع مثل هذه الحفر.”

“انظر، هذه آثار أقدام، كما أن عمق الحفرة يصل إلى قدم على أقل تقدير، يمكنك أن تضع يدك فيها حتى مرفقك، لا يوجد حيوانٌ يصنع مثل هذه الحفر، ما رأيك؟”

“لابد أن يكون دون تراين مَن صنعها، لكن لماذا يصنع هذه الحفر؟ أتعتقد أن صاحب الأرض يعلم بهذا؟ لا يا رجل، كيف له ذلك؟! انظر، لا يمكن رؤيتها من الطريق، عليك أن تتقدم قليلًا وتصبح على مقربةٍ منها حتى تستطيع رؤيتها. لأجل ماذا يصنعها يا ترى؟ انظر، إنها متساوية في العرض تقريبًا. ما قولك؟ ربما أمكننا أن نعرف إذا اختبأنا هنا ورأينا ماذا يفعل.”

“انظر هذه علبة قهوة، أراهنك على أنها الأداة التي يحفر بها.”

“أظن أنك على حق.”

اضطر الشُّبان للانتظار حتى مساء الاثنين ليكتشفوا الأمر. لكن الموضوع ذاع وانتشر بين الناس، والجميع أصبح على علمٍ أن دون تراين يصنع مجموعةً من الحفر في ذلك الحقل. حاول الفتيان أن لا يفشوا السر، لكنهم كانوا يلمحون إلى ذلك بشكلٍ واضح. ولأن الجميع أراد أن يعرف سر الموضوع، قرر الشباب التخفي هذه المرة بحذر ومكر ليعرفوا ماذا يفعل دون تراين. وبالفعل استطاعوا أن يغافلوا دون تراين ليروا ماذا يفعل. ولم يخطئوا حين قالوا أنه كان يستخدم علبة القهوة في الحفر، وكان يقوم بقياس عمقها بإدخال ذراعه اليسرى، ويملأ الحفرة حول ذراعه بالتراب بيده اليمنى إلى أن تمتلئ حتى مرفقه.

ويبقى على هذه الحال لبعض الوقت. ويبدو على وجهه شعور بالرضا، حتى أنه يضع سيجارة في فمه ولا يستطيع إشعالها فتبقى متدليةً من شفتيه، ثم يحفر مرةً أخرى ويعيد العملية نفسها من جديد. لم يستطع الفتيان أن يفهموا لمَ يفعل ذلك، كانوا يعتقدون أنهم إذا قاموا بمراقبته سيكتشفون ما كانوا قد اعتقدوا أنه يفعله، لكن الأمور لم تسر على هذا الشكل أبدًا. أخبر الفتيان الناس بما عرفوه، ولم يفهم أحدٌ منهم ذلك. في الواقع أنهم حين علموا أن هذه الحفر لا تتعلق بإخفاء المال قالوا أن دون تراين مجنون.

ولم يعاودوا الحديث عن الأمر بعد ذلك. ولكن ليس الجميع؛ فقد تسلل أحد الفتية ممن رأى دن تراين إلى الحقل لوحده، وقام بالعملية نفسها التي قام بها دون تراين، فكان ما شعر به واختبره والذي لن ينساه أبدًا هو الإحساس بالأرض وهي تتحرك، حتى أنه كان يشعر أن الأرض تعانق أصابعه وتلاطفها وحتى تقبلها. واستشعر مع هذا كله دفئها وحرارتها، كما لو أنه في قلب شخصٍ ما. حينها فقط فهم ما كان دون تراين يفعله؛ لم يكن مجنونًا، ببساطة كان يريد الإحساس بالأرض وهي تغط في سباتها العميق. وهكذا بقي الفتى يذهب إلى الحقل كل يوم. إلى أن جاءت ذات ليلة موجةُ صقيع باردة، فلم يستطع أن يحفر أي شيء بعدها. لقد كانت الأرض سريعةً في نومها.

لذا ترك الأمر للعام المقبل، في تشرين الأول وقت الحصاد، حين يصبح بإمكانه أن يفعل ما كان دون تراين يفعله.

لقد كان ذلك أشبه بموت شخصٍ ما. كما لو أنك تلوم نفسك لأنك لم تحبه كما يجب قبل أن يموت.

نرشح لك: كما كنّا، قصة قصيرة

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا