الفيلسوف نيتشه مُحارِبًا سقراط
تمهيد:
إذا كان الفيلسوف الألماني نيتشه – حسب أندريه كانت سبونفيل– هو أعظم سفسطائيّ عرفته الأزمنة الحديثة(1). فبالتالي لا غرابة أن نجدَ مُحطِّم الأصنام وكاشف الأوهام، ينتقم من سقراط أشد انتقام، واصفًا إياه بأقبح النعوت، مجفِّفًا به الأرض إن جاز التعبير، مُنفجرًا في وجهه، فنيتشه ليس إنسانًا كما يقول في أحد كتبه، بل عبوة ديناميت، رادًا الاعتبار لسفسطائيين الذين حاربهم سقراط طوال حياته، إذ كان هم سقراط -هذا الرجل المزعج-، المخالف للآراء السائدة، والمحكوم بالموت على يد أثينا بتهمة امتناعه عن عبادة آلهة المدينة وإفساده عقول الشباب -هو محاربة الاتّجاه السفسطائي مُظهرًا تهافت أفكارهم وتضعضعها. فكيف حارب نيتشه سقراط؟ لكن قبل ذلك علينا أن نجيب عن سؤال؛ لماذا يحشر أندريه كانت سبونفيل نيتشه ضمن السفسطائيين؟
تعلمون جيدًا أن مع الفكر السفسطائي الذي كان سابقًا للمرحلة السقراطيّة لم تعد هناك قيم ثابتة، إذ إنّهم جعلوا الإنسان مقياس كل شيء، هذا ما يؤكده أحد أبرز السفسطائيين وهو بروتاغوراس عندما يقول “الإنسان مقياس الأشياء كلها” ، وبالتالي كل شيء يصبح نسبيًّا، ما دام أن الإنسان هو القياس وهو المعيار. وهذا ما فعله نيتشه، إذ إنّه حسب الفيلسوف الفرنسيّ أندريه كانت سبونفيل، وسع من نطاق التنسيب، لا ليشمل القيم وحدها؛ ولكن ليعم الحقيقة نفسها التي لم تعد تشكل بالنسبة له سوى قيمة مثل أي قيمة أخرى، في ظل عدم وجود حقيقة، وإذا كان كل شيء خاطئًا، كما كتب نيتشه يمكن أن نفكِّر في أي شيء، في ما هو صالح جدًا وما هو طالح جدًا(2). نقد نيتشه للحقيقة انتهى إلى النسبويّة وهذا ما تعبّر عنه أحد أشهر أقواله “لا حقيقة، هناك فقط تأويلات”. يقول لوك فيري أنّنا إذا أخذنا نسبويّة نيتشه حرفيًّا فإننا سنغرق في صعوبات لا فكاك منها: معنى ذلك أنّه من فرط نقد الأخلاق ونقد الحقيقة، يصبح الجدل الفكريّ مجرّد ميدان للصراع حيث لا شيء يفرض نفسه سوى القوة والحيلة.(3)
نيتشه يرمي سقراط بأبشع النعوت
مما لا يختلف عليه، وذلك انطلاقًا من الكتب العديدة التي اطَّلعنا عليها، أن سقراط كان بعيدًا كل البعد عن الجمال، أي أنه كان قبيحًا، وهو أمر عادي أن يكون المرء قبيحًا، بيد أن للفيلسوف نيتشه رأي آخر!.
في كتابه “أفول الأصنام” المليء بالآراء المسيئة إلى سقراط، يرى نيتشه أن شهيد الفلسفة، ينتمي إلى فئة السفلى من العامة، ينتمي إلى الرعاع والدهماء، وأن قبحه دليل على طبيعة مختلطة وهجينة. إنّه إغريقي مزيّف، سوقيّ، حقير، مُحتال، مهلوس، كاريكاتوري، مُهرّج دفع الناس إلى أخذه بجدّية، رمز للانحطاط والتفسّخ. بل ويذهب إلى أبعد من ذلك ويعتبره مجرمًا يعشق رشق خصومه بالسكين، أسلوبه وقبحه الجسماني دليل على ذلك، ألم يقل علماء الإجرام –الطبيب الإيطالي سيزار لمبروزو مثلًا في نظريته حول المجرم بالفطرة– إنّ المجرم النموذجيّ يتميّز بالقبح “يفيدنا الإنتربولوجيون من بين علماء الإجرام بأن المجرم النموذجيّ قبيح : فظاعة في الوجه، فظاعة في الروح “(4) . هنا نلقي سؤال: ما هي جريمة سقراط ليرميه نيتشه بأبشع الشتائم؟
نجيب عنه بالقول بأن جريمة الرجل أنّه انتصر على كل ما كان يفتن نيتشه في الحضارة الإغريقية، إذ إنّ فيلسوف المطرقة كان مُعجبًا حد الافتتان بالعهد الإغريقيّ الأول الذي كان يؤمن بالتفوق السلاليّ، وينزع نحو القيم البطوليّة، يُعلّي من قيمة الجسد والصراع، ويقول نعم للحياة ويقبل عليها وعلى مخاطرها ويتمسّك بها إلى أبعد حد. لقد كان الإغريق شعلة متوقّدة حياة وحيويّة، أسياد على ذواتهم، يقبِلون على الحياة مع الاستعداد لما هو فظيع . لكن مع سقراط تغير شيء ما! انطفئت هذه الشعلة على يده وعلى يد من سيأتي بعده، ذوق رفيع قد انهزم وارتقى الرعاع وسيطرت “إرادة العدم على إرادة الحياة “(5).
مع سقراط انتصر مبدأ أبولو الذي يرمز إلى العقل على مبدأ ديونسيوس الذي يرمز إلى العواطف والانفعالات التي تصدر عن غرائزنا. جريمة سقراط أنه قتل التراجيديا اليونانية، زرع جرثومة في قلب الحضارة اليونانية. اعتبار الحياة مُشكلة، الأمر الذي ينفي حكمته. هنا نجد أنفسنا مرغمين على طرح سؤال: كيف انتصر سقراط ؟ ماهي وسيلته/ أداته في ذلك؟.
إن الآلة الرهيبة التي استند عليها سقراط هي الجدل (6)، فبواسطة هذا السلاح -الذي هو سلاح الضعيف-، سلاح من لا وسيلة له “لا يختار المرء الجدل إلا عندما لا تكون لديه من وسيلة أخرى”(7)– كان سقراط يحطّم أراء خصومه” ويجعلهم يشعرون بأنّهم يتناقضون مع أنفسهم، كانوا -يعرضّهم للإرباك ويدفعهم إلى الاعتراف بالجهل، إنّ الجدل سلاح لا يرحم، يجرّد ذهن الخصوم من كل سلاح “يعرّي ويهين خصمه”(8) إنه شكلٌ من أشكال الانتقام.
في النهاية أمرٌ أرى أنه من المستحب التلميح إليه كخاتمة لهذا النص المتواضع والذي لا يدعي أكثر مما هو عليه: في سن السبعين تم اتهام سقراط بإفساد عقول الشباب وامتناعه عن عبادة آلهة المدينة، لم يتراجع عن أقواله وأخبرهم بأن لن يتراجع عن ما كان يقوم به وإن قاموا بتبرئته، حُكم عليه بالموت عن طريق تجرّع السم. وهو في السجن حاول تلاميذه تهريبه، بيد أنه رفض الفرار، أقبل على الموت بشجاعة. يرى نيتشه أن سقراط دفع نفسه للموت لأنّه لم يعد مرتبط بالحياة، كأن الأمر شكل من أشكال الانتحار، علاج لمرضه الذي طال أكثر مما ينبغي . “لقد أراد أن يموت وليست أثينا … سقراط لم يكن سوى مريض طال مرضه”(9). عبد الكريم عنيات في كتابه (نيتشه والإغريق) يقول بإنّ سقراط تخلى عن الحياة “لأنّه تخلّى عن الغرائز القوية واستبدلها بطغيان العقل“( 10).
نرشح لك: سقراط: الفيلسوف الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.
الهوامش: 1- اندريه كانت سبونفيل، نيتشه محطم الأصنام، ترجمة يوسف أسحيدرة. مجلة المحطة 2- نفس المرجع 3- لوك فيري بالتعاون مع كلود كبلياي، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة ترجمة محمد بن جماعة، دار التنوير للطباعة والنشر، طبعة الأولى 2015 ، الصفحة 57 4- نيتشه، غسق الأوثان أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعا بالمطرقة ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت- بغداد ، 2010 ، الصفحة 26 5- محمد أندلسي، نيتشه وسياسة الفلسفة، دار توبقال للنشر، المغرب، الطبعة الأولى، 2006 ، ص 29 6- محمد الشيخ، نقد الحداثة في فكر نيتشه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ، الطبعة الأولى 2008 ، ص 614 7- نيتشه المرجع نفسه 29 8- نيتشه المرجع نفسه 29 9- نيتشه المرجع نفسه 33 10- عبد الكريم عنيات، نيتشه والإغريق إشكالية أصل الفلسفة، منشورات الاختلاف، الطبعة الأولى 2010 ، الصفحة 120