الجاحظ الرّجـل الذَّي قتلته الكتب

من منّا -نحن القرّاء والمهتمّين بالأدب والفكر العربيّ- لم يقرأ أو يسمع يومًا بأبي عثمان الجاحظ وببخلائِهِ وبيانِهِ وتبيينه وحيواناته ولو نزرًا يسيرًا. أنا لا أظنّ –وأتحمّلُ وزرَ هذا الظَّن– أنَّ هناك من لم يسمع بالجاحظ وعبقريَّتِهِ وذكائِهِ وسُرعةِ بديهته وثقافته الموسوعيَّةِ التَّي ساعد في تفتُّقِها وبروزها ذلك العصر الذَّي عاشَ فيهِ.

 العصرُ الذَّي نشأ فيهِ الجاحظ؟

إنَّ الباحث في ذلك العصر، لا يسعُه إلَّا أن يقف مُنبهِرًا وهو يردِّد: يا له من عصرٍ مجيدٍ!  إذْ إنّ  العصرَ الذّي نشأ فيه صاحبُ البخلاء كان عصرًا مُشرقًا مزدهرًا، مختلفًا أيما اختلاف عن عصرنا هذا الذّي نعيش فيه، فعصرنا جامدٌ متحجرٌ منغلقٌ، ميّتٌ ـفكل من ينغلق ويتقوقع حول/ على نفسه يموت– وهذا أمرٌ لا أشكُّ فيه قيدَ أنملة، ولهذا خرج عصرنا بكل بساطة من التَّاريخ، أما ذلك العصر فقد امتاز  بكونِهِ عصرًا منفتحًا، منتعشًا، حيًا، “يشجِّعُ على شحذ الذّهن وتفتُّحِ الآفاق والإقبال على المعرفة”1.

عصر يَمُوجُ بالأدباء ويحفَلُ بالشُّعراءِ، عصرٌ عَرَفَ حركةَ ترجمةٍ واسعةٍ لمؤلَّفاتِ العديد من الأُمم المُجاورة والعلوم الأُخرى إلى اللُّغةِ العربيَّةِ، وانتشرت المكتبات في عدد من المدن الإسلاميّة واحتوت على أعدادٍ هائلةٍ من الكتب، فضمَّ “بيتُ الحكمة في بغداد –الذّي أنشأهُ الرّشيد ونمّاه المأمون–  آلافَ الكتب في مختلف ألوانِ العُلوم والفنون”2 ونشطت في هذا العصر العلوم العقليّة والفقهيّة واللّغويّة والطّب والكيمياء إلى آخره من العلوم. ونشطت كذلك المُناظراتُ الفقهيّة التّي كانت تجري في المساجد تارًة وفي دار الخلافةِ تارًة أُخرى.  وإذا كان المرءُ ابنَ بيئتِهِ فلا غرابةَ أنْ نجد الرَّجل الذّي لُقِّبَ بالجاحظ لجحوظ عينيهِ يُمضي حياتَه  -في بيئةٍ تحترم الثَّقافة وتُعلِي من قيمةِ الكُتب– في “تحصيل العلم بحثًا ودراسًة واستكشافًا” وممارسة الأمر الذّي جعله يتبوَّأ مكانًة مهمًّة في خريطةِ الفِكْرِ والأدب، “فعرفه الخلفاء، وأخذ عنه العُلماء، والخاصّة سلّمت له والعامّة أحبّته”4 على الرّغم من قُبحِهِ الذّي تميّز به.

قبح الجاحظ وآليات المقاومة

ممّا لا يُختَلفُ فيه أنَّ الرّجل كان متميِّزًا بالعديدِ من الأشياءِ منها سرعةُ بديهتِهِ و ذكائه وروحه المرحة وأيضًا قُبحه، وهو ما سأحاولُ التَّوقُفَ عنده، فقد كان  قصيرَ القامةِ، دميمَ الوجه، مشوّهَ الخُلقَةِ، جاحظ العينين، يُضرَبُ المثلُ ببشاعته، وقد قيل فيه:

لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيًا / ما كان إلَّا دون قُبح الجاحظ.

فبسبب قُبْحِهِ، كان موضوعًا للسُّخريةِ من طرف الآخرين وهناك أمثلةٌ عديدةٌ على ذلك، لكنَّ اللَّافت للانتباه أنّه كان موضوعًا للسُّخرية من طرف نفسه أيضًا. إذْ يَحكي عن ذلك بكلِّ لذةٍ وأريحيَّةٍ، وكأنَّه يتحدَّثُ عن شخصٍ آخرَ غيره، يُقالُ أنَّ أحدهم حاولَ أنْ يقرِّبَه من الخليفة المُتوكّل، وأن يجعله مُربّيًا لبعض أولاده: “فلمّا رآني استبشع منظري فأمر لي بعشرة آلافِ درهمٍ وصرفني .”  وفي موضعٍ آخرَ قال أنَّ امرأةً : “أتتني وأنا على باب داري، فقالت: لي إليك حاجة، وأريد أن تمشي معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهوديّ، وقالت له: مثل هذا، وانصرفت، فسألتُ الصَّائغَ عن قولها، فقال: إنّها أتت لي بفصّ، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورةَ شيطانٍ، فقلت لها: ما رأيت الشيطان، فأتت بك وقالت ما سمعت”.

إعلان

الأمرُ الذَّي قَدَحَ زناد العديد من الأسئلة في رأسي: كيف يخطرُ ببال شخصٍ أن يصفَ نفسَهُ للنَّاسِ على أنَّه قبيحٌ مثل الشَّيطان وأنَّ أحدهم استبشع منظرَهُ وطردَهُ؟ هل لأنَّهُ يتلذَّذُ بذلك؟ يتلذَّذ بجلد نفسه، يُشْبِعُ حاجًة مرضيًّة بتلك الطّريقةِ أم أنَّ الأمرَ هو استراتيجيَّةُ دفاعٍ! أيْ أنْ تسخرَ من نفسك قبل أن يسخرَ منك الآخرون، وبالتَّالي تحرمَهُم من متعةِ استفزازكِ. أيْ تَسلبَهم هذه المُتعةَ عبر تجريدهمِ من سلاحهم الواحد والأوحد للنَّيلِ منك. هُناك أمرٌ آخرٌ يَحضُرني يصبُّ في نفسِ الاتّجاه  وهو أنّ أغوتا كريستوف الرّوائيّة التي طبقت شُهرَتُها الأفاقَ،  في روايتها الذّائعة الصّيت الدّفتر الكبير التّي تُرجِمَت إلى معظمِ لغاتِ العالم وتدورُ أحداثُها في زمنِ الحرب، في قريةٍ احتلَّها النّازيون، تحكي عن توأمٍ عهدت بهما أمُّهما إلى جدّتهما ـفيجدا نفسيهما في وضعٍ قاسٍ لا يرحمهما، كان النّاس في تلك القرية ينعتونهم بـ: الأحمقين، السِفاحيْن، البليديْن، الحمارين، الخنزيرين، الرثين، الوغدين، الجيفتين، المقرفين، رقبتي المشنقة، بذرتي الإجرام.

لهذا كانا يقومان بتمرينٍ يُسمَّى (تمرين الرُّوح على الجلَد) يجلسان إلى طاولةِ المطبخِ، وجها لوجه، ويحدِّقا في عيني بعضهما ويبدأن في السُّخريةِ وسبِّ بعضهما البعض.

لماذا؟

كي يتعوَّدا على هذه الكلمات الجارحةِ و الإهاناتِ  كي لا يؤثِّرَ فيهما كلامُ النّاس الذّين يتصادفونَ معهم في الطّريق وفي الأسواق، فمع تكرار السُّخرية من الذّات يتعوَّدُ المرءُ على سخريةِ الآخرين منه . ربّما هذا ما كان يفعلُهُ الجاحظ أيضاً، لهذا انتصرَ عليهم، على عكس الكاتب المصريّ ” رجاء عليش، الذَّي لا تَعرِفُه إلّا القلَّةُ من النّاس، وله كتابان :الأوَّل  لا تولد قبيحًا والثّاني كُلُّهم أعدائي ، هذا الكاتب كان قبيحًا  لكنَّه لم يتحمَّل سُخريةَ النّاس من شكلِهِ ورَفضِهِم المُستمّر له.

لهذا أقدمَ على الانتحار وذلك بإطلاقِ النّارِ على رأسه كشكل من أشكال الاحتجاج !!!

نهلك بما نعشق

علاقةُ الجاحظ بالكتب علاقةٌ وطيدةٌ جدًا، كان مُحبًّا لها حدَّ الهَوسِ والولَعِ الشّديد، فقد كانت شُغله الشّاغل، وقد ذهب أحدهم وهو أبو هفان إلى القول: إنه ” لم يرَ قطُّ ولا سَمِعَ من أحبَّ الكتُبَ والعلومَ أكثرَ من الجاحظ “، ثمَّ يُضيف بأنَّ صاحب البُخلاء : “لم يقع بيده كتابٌ قط إلّا استوفى قراءَتَه كائِنًا ما كان5. أيْ دون التّفريق بين كتاب وكتاب، غير مهتم لا بنوعه ولا بحجمه، لقد كان بحق دودة للكتب، حتى أنّه كان يكتري دكاكين الورّاقين – بائعي الكتب – ويبيت فيها  اللَّيل كلّه يتصفّحُ الكتب بلا كَلَلٍ ولا مَلَلِ،  مُستَثمِرا هذا الوقت الضَّائع ليُسافِر في بطون الكتب، مُضيفًا عُقولَ الآخرين إلى عقلِهِ، أوليس هو القائل :

الأدب هو عقلُ غيرك تضيفه إلى عقلك.

 بيدَ أنَّ المُفارقة الطَّريفةَ، هي أنّ الكُتب التّي عشقها الجاحظ كانت السّبب في وفاته، إذْ  قرأتُ في أكثر من كتابٍ أنَّ موتَ الجاحظ كان نتيجةَ وقوعِ مكتبته عليه، مكتبتُه التَّي ملأها بما أحبَّ، لقد كانت نهايته بسبب الكتب التَّي انهالت على رأسِهِ وهو شيخٌ مريضٌ بمرض الفالِجِ أو الشَّللِ النّصفيّ،  وسواءً أكانت هذه القصَّة موضوعًة أم أنَّها حدثت فعلًا،  فلا يسعنا إلَّا القولُ أنَّه لا يقتلنا إلَّا ما أحببنا .

نرشح لك: الجاحظ بالعامِّية!

الهوامش :
1-محيي الدين اللاذقاني، آباء الحداثة العربية : مدخل الى عوالم الجاحظ والحلاج والتوحيدي الطبعة السابعة 2012 دار مدارك للنشر، الصفحه 24
2- د. أليس كوراني، اللغة والمجتمع عند العرب ( الجاحظ نموذجا)، الطبعة الأولى 2013 ، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الصفحة 44
3- فريق الف اختراع واختراع، الجاحظ وكتاب الحيوان : رحلة استكشافية ممتعة . الطبعة الأولى 2017 ، اصدار الف اختراع واختراع. الصفحه 7
4- خليل مردم، أئمة الأدباء ( الجزء الأول ) الجاحظ 2017 ، مؤسسة هنداوي ، الصفحة 18 بتصرف مني
5- نفس المرجع ، الصفحة 17

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حمزة الذهبي

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا