التديُّن الانفصامي كيف تحوَّلَ الإسلام من دينٍ يُعاشُ إلى دينٍ يُمارَسُ؟

مسلمٌ ملتزم.. مسلمٌ مُنفصم!

إنَّ اقتران الالتزام بتعاليم الإسلام مع أفعالٍ تُخالفُ جوهرَ الدين وتعاليمَه إنّما هو قديمٌ ومتواجدٌ في تاريخِ الأمُّة، لكنَّه لم يكنْ مُنتشراً هذا الانتشار الذي نلحظهُ اليومَ بما يدعو للتندُّرِ والاستهزاء بجملةِ أنَّ المصريين -على سبيل المثال- كما يقال «شعبٌ مُتدينٌ بطبْعِهِ»، ما يدلُّ على حرصِ قطاعٍ كبيرٍ منهم على الالتزام بحضور الجُمَعِ والأعيادِ وصلاةِ التراويح والحرص عليها بأعدادٍ كبيرة طوال شهر رمضان، وإيتاء الصدقات والتبرُّع بسخاءٍ للمؤسسات الخيريّة، وفي نفسِ الوقتِ يعتاد نفس هؤلاءِ الأشخاصِ على الكذبِ والغشِّ والخداعِ ونقضِ العهود وخيانةِ الأمانةِ وعدم الاكتراث بمصائر المسلمين الذين يعانون اضطهاداً أو كارثةً طالما لم يكنْ هناك اهتمامٌ رسميٌّ من الإعلامِ بتلك المصائر.

كيف تحوَّلَ الإسلام من دينٍ يُعاشُ أو نظَّارةٍ يُنظرُ بها إلى كلِّ الأمورِ الحياتيَّةِ ومن ثمّ وزنها بميزانهِ إلى دينٍ يُمارَسُ دون أن تمنعَ ممارستُه مُمَارِسَها من أن يرتكبَ أكبرَ الفظائع بدمٍ بارد؟، كيف تحوَّل الإسلام من كُتلةٍ صلبةٍ لها العديدُ من التجليَات على مستوى الفردِ ومن ثَمَّ المُجتمعِ إلى مظهرٍ يتَّسمُ به فحسب أفراد المجتمعِ دون وجودِ تجلٍّ حقيقيٍّ لذلك الدين على الفردِ ولا على المجتمعِ كَكُلّ؟

لقد صار الفردُ المُسلمُ يعاني (أو لا يعاني مثلما سنوضِّحُ لاحقاً) من انفصامٍ دينيٍّ/حياتيٍّ.. حيثُ لا تعني لهُ تعاليم الدين أكثر من ممارساتٍ شكليَّةٍ تحقّقُ -حين ممارستها- أحدَ أو كلا شيئيْن: أوَّلهما الشعور بإشباعٍ لحظيٍّ ورضا مؤقَّتٍ عن الذات الدينيَّة، وثانيهما حيازة ما يُشبه الوجاهةَ الاجتماعيَّةَ الناتجةَ عن الالتزام والاستمرار بتأديةِ تلك الشعائر والممارسات، وذلك إذا أمعنَّا النظرَ يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ مسألةَ التفاخر بالقدرةِ الشرائيةِ وامتلاك أقصى ما يستطيع الفردُ شراءَه للتدليلِ على قدرتهِ المادِّية، ومن ثمّ السعي إلى إثبات مكانةٍ اجتماعيةٍ رفيعةٍ وسط المجتمع الذي يعيشُ به.

لكنْ كيف تسلل ذلك المفهوم الاستهلاكيُّ البحتُ إلى الدين، رغم أن الدينَ في لُبِّه يحارِبُ أصلاً ذلك السعي المحمومَ إلى التملُّكِ والاستمرارِ في التملُّك؟!

ما الذي حدث؟

لقد تخللت مفاهيمُ السوقِ إلى ثَنايا حياتِنا، وأصبح لكلِّ شيءٍ ميزاناً مادِّياً يُقيَّمُ به من ناحية المكسبِ والخسارة، فتحولت صلاةُ التراويحِ على سبيل المثالِ إلى ما يُشبهُ موسم «الجمعة السوداء/Black Friday» الاستهلاكي، حيثُ يتسابقُ الأفرادُ على الشِّراء/الصلاةِ؛ لأن التخلُّف عنهما يعني انعدام القدرةِ الشرائيَّةِ/التعبُّدية وهو ما يعني -في سياق دين السوقِ- انعدام المكانةِ ومن ثمّ تخلُّف الفرد عن اللحاق بالرَّكب الاستهلاكيّ.

بالمثلِ، صارَ الحجُّ بما يحويه من علاماتٍ أُخْرَويَّةٍ تذكِّرنا بتأقيت وجودنا هنا في هذه الحياةِ إلى علامةٍ مفرطةٍ في المادّية والبهرجة الاجتماعية، بل وتحتَ إشرافِ المؤسسات الرسميَّةِ التي تهيِّئُ جحافلَ الـ”مستهلكين” إلى ذلك الحجِّ الاستهلاكيّ.

إعلان

إن السوق الاستهلاكيَّة هي صورةٌ من حلم الملك ميداس، وهو يتحققُ في القرنِ الحادي والعشرين، فأيُّ شيءٍ تلمسهُ تلك السوقُ يتحوَّلُ إلى سِلعٍ استهلاكيّة، بما في ذلك الأشياء التي تحاولُ أن تهربُ من قبضَتِها، بل والطرق والوسائل التي تُستَخْدم في محاولاتها للهروب (1)

مثلما تسللت بنعومةٍ مفاهيم الاستهلاك إلى مظاهرِ الحياةِ فتحيلها إلى حياةٍ تتمحور وحسب حول الاستهلاك والسلعةِ وامتلاكها أو التخلُّصِ منها.. كذا حياة الأفراد والعلاقات بينهم، لتحيل تقييمنا إلى العلاقات التي بُنيت أساساً على التكافليَّة إلى علاقاتٍ يسودُها منطقُ المكسب والخَسارةِ، استطاعت بنفس تلك النعومةِ السرطانيَّة أنْ تتسللَّ -وبنفسِ آليّات التسويقِ التي تُستخدمُ في السوقِ الاستهلاكيّة- إلى النظام الدينيِّ فتحيلهُ إلى جيوب ممارسةٍ منفصلة انفصالاً تامّاً عن معانيها والمرادِ منها، حيثُ تُصبحُ الصلاةُ مجرَّدَ حركاتٍ يعني التخلُّف عنها ليس إسقاطاً لأصلٍ من أصول الدين بل تقصيراً، والتخلّف عن الصومِ مثار حرجٍ لا لأنَّه عصيان مباشرٌ لأمرٍ إلهيّ، بل لأنّه تخلُّف عن عادة اجتماعيّة صار أداؤها عادةً، تماماً مثلما يصير التخلُّف عن شراء الملابس في الأعياد والتخلُّف عن شراء مستلزمات شهر رمضان الاستهلاكيّة مثار حرجٍ وعُنواناً لوضاعةِ مكانةِ الفردِ.

سيولة/ميوعة التديُّن

لقد صار هناك ما يُسمَّى -وبحسبِ تعريف «زيجمونت باومان»- سيولة، لكنْ على غير المعتادِ مما توحي به السيولة من معاني المرونة، فإنَّها هنا تعني تحديداً «الميوعة/Liqudity» أي افتقاد الصلابة «Solidity»، أو ما يمكن أن نقول عنه وبشكلٍ أكثر تبسيطاً فقدان الشيء لمعناه وبقاء صورته، ما يجعله قابلاً للتطويع مع وجود ما يمكن حتّى أن يناقضه جوْهراً، وهذا ما يحدثُ اليوم.

ربَّما وجود تلك الظاهرة هو ما جعل «باتريك هايني» يكتب مؤلَّفَه «إسلام السوق»، مُتحدِّثاً عن تلك الظاهرة التي تتم فيه رسملة الإسلام وسلعنته لينتمي بالنهاية إلى ما هو هنا (الدنيا) بعدما كان معنيّاً بالأساس بما هو هناك (الآخرة). هذه الظاهرةُ التي طرقتْ باب سوقٍ جديدة وهي سوق التديُّن؛ لتلبِّي احتياجاتها المظهريَّة، فهاهي محالُّ الأزياء الإسلاميِّة تُلبِّي الالتزام المظهريَّ بالسمتِ الإسلاميّ، وهاهي قد أطلّت علينا ظاهرةُ الأغاني الإسلاميَّة، ودروس التنمية البشريَّة الإسلاميَّة ورسائلُ الإنتاجيَّة وتراكم الثروة المدعومة بأحاديث وآثارٍ إسلامية، بينما هي في حقيقتها تجلياتٌ للرأسماليَّة تتوسم الدين وتتوسله.

ومثلما فككت تلك السلعنةُ والسيولةُ مناحيَ الحياة، وفصلت الشيءَ عن قيمتِه ومظهرَه عن جوهرِه كان تسلل تلك السيولةِ التي أصابت الإسلام المُمارسَ -لا الدّين نفسه- بالانفصامية؛ فانفصلت قيمةُ الصلاة عن فعلِ الصلاة، وتغيَّرت رؤية الناسِ للصلاة كفعلٍ يحيز فاعله مكانةً اجتماعية ومن ثمّ لم تعد «تنهى عن الفحشاء والمُنكر والبغي»، إذ إنها فقدت جوهرها وحالها الذي أُنزِلتْ عليه. ومثلها الزكاة التي تعني اليوم قدرة الفردِ على الإنفاق للتدليل على قدرته الماديةِ أكثر من كونه فعل تلاحمٍ وتراحمٍ وتكافلٍ وتعاضد. والصوم الذي انفصل جوهره الذي يربِّي النفس على المراقبة الذاتية (تقوى الله) إلى الالتزام المظهريِّ بالامتناع عن الطعام والشراب فحسب، التزاماً يرفعُ حرج التخلف عن الركب الاجتماعيِّ لحيازة المكانة. كذا الحج، الذي صار من كونهِ رحلةً للتذكير بمواقف الآخرةِ وتأقيت الحياةِ الدنيا إلى كونه دعاية لصاحبه على قدرته العالية على الإنفاقِ ومن ثمّ -كما كررنا سابقاً- حيازة المكانة الاجتماعية.

لقد تحوّلت العبادات إلى سلع، وبتحوُّلِها فقدت معانيها وعللها التي من أجلها أُنزلتْ وفُرِضتْ، لذا يُفهم الآن لماذا قد يلتزم الفرد المسلمُ بالعبادات مُتخلياً عن الالتزام بمعانيها وما تزرعُ فيه.
إنّهُ الآن يسجد على الأرضِ مُسبِّحاً خالقهُ، بينما يسجدُ قلبُهُ لنفسهِ.. يسجدُ قلبهُ للذَّة الاستهلاك.. يسجدُ قلبُهُ للمادة!

الهامش:
الحياة السائلة لـزيجمونت باومان.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد محمد جميل

تدقيق لغوي: عبد الرحمن سامح.

اترك تعليقا