التداوي بالطبيعة والعزلة في زمن الكورونا من منظور دافيد هنري ثورو
مع انتشار فيروس كورونا المستجد، بات من الواجب علينا البحث عن أفضل الطرق من أجل الوقاية من هذا الشر الذي يفترس العالم على كافة الأصعدة. وبناء على ذلك، تعيش المجتمعات والدول التي اجتاحها كورونا حالة من الذعر من أن يقضي الفيروس على شعوبها، وربما على الوجود الإنساني نفسه.
فُرض حظر السفر والتجول وتوقفت الفعاليات الثقافية والرياضية والفنية في أغلب البلدان. فرض هذا الواقع العمل من المنزل والالتزام بتوصيات الوقاية من خطر هذا الفيروس الفتاك. وفي ظل هذه الظروف القاسية التي نعيشها فإنه من الصعب ان تتنبأ قصة أو رواية بما يخفيه مستقبل هذا الكوكب، لكن على الرغم من ذلك كان من السهل على الكاتب الأمريكي دافيد هنري ثورو أن يطلعنا في كتابه “والدن، أو الحياة في الغابات” على بعض الوصايا كـ”العزلة” و”التباعد” مثلًا بالإضافة إلى “الحياة البسيطة” التي نحن أحوج ما نكون إليها في هذه الأوقات العصيبة.
يُعد دافيد هنري ثورو من اعلام الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر وقد اكتسب شهرة واسعة بعد كتابة روايته التي أقرب ما تكون إلى سيرة ذاتية فلسفية نتيجة إيمانه بفلسفة التسامي التي بُنيت أفكارها بعد صداقة طويلة برالف والدو ايميرسون مؤسس هذه الحركة. حاول ثورو في كتابه إبراز هذه الفلسفة التي تنادي بسمو النفس البشرية وتأثير المجتمع ومؤسساته على نقاء الفرد,و أن أفضل حالات البشر تتحقق عندما يكونون معتمدين على ذواتهم ومستقلين بشخصهم. نُشر الكتاب في عام 1854 بأكثر من 1000 طبعة و ترجم إلى عشرات اللغات. يروي الكتاب تجربة ثورو خلال السنتين التي قضاهما في بيت صغير بناه قرب “والدن پوند” وسط غابة يمتلكها صديقه إيميرسون في ولاية ماساتشوستس.
مع انطلاق الحملات والدعوات بضرورة البقاء في المنزل والعزل وعدم الخروج من أجل إفساح المجال لمكافحة الوباء العالمي والحد من انتشاره، استهل دافيد هنري ثورو كتابه ببعض الكلمات التي نحن بأمس الحاجة إليها وانتهاجها:” عندما كتبت هذه الصفحات، أو الجزء الأكبر منها، كنت أعيش وحيدًا في الغابات. يبعد أقرب جار لي ميلًا عني. وكنت أعيش في بيت بنيته بنفسي في ماساتشوستس، وأحصل على لقمة عيشي بعرق جبيني. عشت هناك عامين وشهرين”. كتب ثورو تجربته في والدن بوند و نصح القرّاء بالتخلي عن الحياة النمطية والتقليدية التي نعيشها يومًا بعد يوم إذ أنه بالنسبة لثورو تُعد الطبيعة هيكل الألوهية والملاذ الهادئ الذي قد يخلصنا من حياة الابتذال والإسراف.
بدأ ثورو رحلته في مارس حين اشترى فأسًا وذهب إلى الغابة بالقرب من والدن بوند من أجل قطع أشجار الصنوبر للحصول على الأخشاب في “أيام الربيع اللطيفة، فمع ذوبان جليد البركة وغناء الطيور، واصل تقطيع الخشب للمنزل الذي أصبح صديقًا لأشجار الصنوبر، وتناول غداءه المكون من الخبز والزبدة بأيدي مغطاة بالقار وهو يقرأ الصحيفة ظهرًا. في أوائل شهر مايو، ساعده بعض الأصدقاء في رفع منزله، وبعد ذلك، صعد إليه وسقفه. انتقل في الرابع من يوليو ثم بنى المدخنة في الخريف، وخبز خبزه على نار مفتوحة في الخارج. فمع تصاعد وتيرة الفيروس عالميًا، أصبح لزامًا على الافراد التخلي عن نمط الحياة التقليدي وعقد صك صلح مع الطبيعة بصفتها ملجأ الإنسان الوحيد نحو الحرية فمن خلالها يتحرر الإنسان من كافة أشكال المراقبة الاجتماعية التي عززت بالتطور الهائل للتكنولوجيا. من خلال تجربته لمدة عامين في والدن، أدرك ثورو مدى سهولة وبساطة تناول الطعام في بعض الأحيان فقط عن طريق غلي عشب بري يسمى الرجلة من أجل تناول العشاء أو بعض عرانيس الذرة. حتى الخميرة لخبزه الذي صنعه من حبوبه الخاصة، والملح للتوابل، هناك حيث يمكنه تجنب “كل التجارة والمبادلة” باستثناء الحصول على الملابس والوقود و ما أحوجنا الآن للاعتماد على ما توفره الطبيعة من أجل سد احتياجاتنا الذاتية لتجنب النفاذ المحتمل للمخزون.
تكاد العزلة أن تكون خير الوصفات التي يقدمها الأطباء للناس من أجل تجنب خطر الإصابة بكوفيد-19، وقد تكون سلاح ذو حدين، فمن الممكن أن تفضي إلى الشعور بالتوتر والاكتئاب وعدم الراحة و تزايد الشعور بالعجز وعدم القدرة على التكيف مع الظروف الجديدة. وقد تكون هناك صعوبات في تنظيم الأنشطة الخاصة والعملية في الحياة اليومية. وفي الجانب الأخر، ومع عدم توفر اللقاحات والعلاج للفيروس حاليًا الذي ربما سيحتاج لوقت طويل، باتت العزلة الحل الامثل لإبطاء سرعة انتشاره في الدول التي تعاني من ضعف الامكانيات الصحية و الطبية. لذا يراهن ثورو على فكرة العزلة برفقة الطبيعة، فبمجرد لجوء الإنسان إليها سيكون قادرًا على تحليل وضعه والسلبيات التي رافقته في المجتمع إذ يرى “أن الأوان لم يفت للتخلي عن تحيزنا” وعيش تجربة فريدة قد تنسينا -لا بل تجنبنا- الخطر المحدق بنا بفعل تجاهلنا لأبسط الامور كغسل اليدين واحترام المسافة بين الأفراد مثلًا. أعتقد أنه إذا قمنا بصفتنا أشخاصًا بإجراء المزيد من “التجارب” في حياتنا الخاصة من خلال تغيير السلوكيات والروتين اليومي ووزن مزايا وعيوب هذا التغيير، فإننا سنكون في وضع أفضل.
يعتقد ثورو أنه عندما نسمح لأنفسنا بالانفصال عن المجتمع، سوف نكون قادرين على رؤية أين نحن، ومن نحن وإلى أين نسير. العزلة هي الطريقة التي ينعكس بها البشر على ماضيهم والقرارات التي اتخذوها، قد تخيف البعض، لكن الشعور بالهدوء التام والانفصال عن أي شكل من أشكال “الحياة الطبيعية” يوفر السلام والاسترخاء. من جهة اخرى، ينظر البعض إلى العزلة على أنها تجربة سلبية ويرجع ذلك إلى تصور المجتمع المنحرف لها على أنها شيء مزعج يجب تجنبه، أي عالم عقاب كما لا يحب البعض العيش بمفردهم.
ومن ناحية أخرى، يرى العديد من علماء النفس أن الحجر الصحي والعزلة التي تسبب بها مرض كوفيد-19 قد تتسبب بعديد الامراض النفسية كالقلق الشديد والهوس بغسل اليدين وخوف الاقتراب من الناس والاكتئاب ما يدفعنا للتفكير بعمق بما يقدمه ثورو في كتابه إذ يؤكد “يمكن أن يعيش الإنسان بنجاح في خضم الطبيعة، فقد تمنحه الحيوانات الرفقة و تقبله كجزء مألوف من بيئتها، فهنالك علاقة مع أي شيء طبيعي كما أن لا شيء تفعله الطبيعة يمكن أن يجعل الحياة عبئًا لأنه جزء منها”.
لذا، يؤكد دافيد هنري ثورو على أننا لا نعطي مساحة كافية لأنفسنا حتى نتنفس لوحدنا كي نكون قادرين على تجديد وإعادة تواصلنا مع انفسنا. فنلتقي بكثرة وبشكل يومي في المنزل على طاولة واحدة من أجل تناول ثلاث وجبات يوميًا، في الحفلات والمناسبات الخاصة أو العامّة، في المتاجر، والمصانع وحتّى في مكاتب البريد وأماكن العمل، و لا عجب حين فصل ثورو ثلاثة مقاعد في منزله مقسمين، الأول للعزلة والثاني للصداقة والثالث للمجتمع. ففي عالم كوفيد-19 أصبح التباعد الاجتماعي الذي أشار إليه ثورو في كتابه ضرورة لتجنب الإصابة بالفيروس وأن نجنب أنفسنا الوقوع في شرك هذا المرض.
من المؤكد أن كوفيد-19 سيتسبب بالعديد من الخسائر و أهمها الجانب الاقتصادي الذي يشغل بال قادة العالم، لكن إذا أردنا تجنب الاضرار النفسية المحتملة للفايروس فيمكن لهذا الكتاب أن يفي بالغرض كعلاج متاح بالمجان وبخطوات بسيطة لا تحتاج إلى الكثير من المال للتصنيع فالمكونات جاهزة بمجرد انغماسك بها. بالإضافة إلى ذلك، يُعد الكتاب دستورًا للعيش بحكمة الطبيعة و هو دعوة للإنسان للتفكير بالعزلة في الطبيعة وتقدير أهميتها في التخلص من مشاكل العولمة التي حولت البشر إلى جراد سيدمر الكوكب قريبًا ما لم نتدارك الموقف.
نرشح لك: “الحب في زمن الكورونا”.. كيف شوّهت الحداثة مشاعر الناس؟