“الحب في زمن الكورونا”.. كيف شوّهت الحداثة مشاعر الناس؟

نهاية القرن الثالث الميلادي كانت الديانة المسيحية قد بدأت لتوّها تنتشر في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وهي في أشد قوتها العسكرية، وكان الإمبراطور “كلاوديوس الثاني” قد عمد إلى إجراء غريب -للحفاظ على قوته العسكرية- وهو تحريم الزواج حتى لا يربط رجال جيشه بعائلاتهم ويبقى تركيزهم كله على الحروب. أطاع الجميع أمر الإمبراطور سوى أسقف إنترافنا الإيطالية الذي رفض الأمر جملةً وتفصيلًا وأخذ يزوّج الرجال والنساء سرًّا في كنيسته، فسمع كلاوديوس الثاني به ورماه في غياهب السجن لكن رغم ذلك أصر الأسقف على مواصلة هواية تزويج الناس، بل وأراد أن يتزوج ابنة رئيس السجون “جوليا” وانتهى كل هذا بأنْ أمر الإمبراطور الروماني بإعدامه، فاقتيد إلى المقصلة وفُصِل رأسه عن جسده صباح يوم 14 فيفري 269م، ومنذ ذلك التاريخ، وتعاطفًا مع “القديس فالنتين”، قرّر الناس أن يحبوا بعضهم يومًا واحدًا في السنة.

تتضارب الروايات فيما بينها بخصوص قصة هذا اليوم، فالكاثوليك والبروتستانت يثبتون التاريخ السابق، بينما تقول الكنيسة الأرثوذوكسية أنه في الـ30 من يوليو، ورغم أن الأولين يفنّدون وجود الفتاة جوليا أصلًا، يقول الآخرون أنها قد حزنت على مقتل القديس وغرست بجانب قبره شجرة لوز ووردة حمراء، لكن العالم لا يهتم لا لأمر جوليا ولا لشجرة اللوز بقدر ما يهتم للوردة الحمراء التي يريد أن يبيعها بأكبر قدر في موسم ربح لا يضيعه عاقل، لهذا ليس العشاق ورجال الكنيسة فقط من ينتظرون هذا اليوم بل أيضًا تجار الهدايا الباهظة والورود الحمراء التي أصبحت رمزًا للحب في زمن الكورونا.

إن الجانب الشعوريّ أصعب شيء يمكن تفسيره في كينونة الإنسان، ومشاعره بترابطاتها مع الداخل العضوي والخارج الطبيعي تخضع لعوامل عدة، وهذا بالضبط ما يجعل تفسير سلوك الأحاسيس الإنسانية -ومن ضمنها الحب- نسبيًّا جدًا يدفع كل واحد أن ينظر له من زاويته الخاصة، فلو سألت عن ماهيته بسؤال واحد ستجد ألف إجابة: أفلاطون يقول إنه الجمال، الأم تراه أبناءها، نيتشه يراه الغريزة، دوستويفسكي يخاله الشفقة، جبران يظنه مي زيادة، وشمس التبريزي سيخبرك أنه الله، أما أنا فأعتقد أنه ارتفاع هرمون الأوكسيتوسين في الدم، لكنني هنا لست بصدد الكلام عن مفهوم الحب ولا عن أنواعه، بل أنا بصدد الكلام عن نظرة الناس له في عصرنا الحالي وتأثيرهم ثم تأثرهم به.

أصدر عالم الاجتماع البولندي ذو الأصول اليهودية “زيجمونت باومان” سنة 2003 سلسلته السائلة ومن بينها كتاب (الحبّ السائل) حيث يُشَرِّح فيه بالتدقيق علاقات البشر من الجنسين وتأثير العولمة في إعادة قولبة مشاعر الناس، ووصف “السائل” جاء كتعبير عن هشاشة الحب في أيام عصر ما بعد الحداثة أي عصر الكورونا. يرى باومان أن الحداثة أدت إلى تغيير معايير المشاعر عند الناس حيث ساهم التطور المتسارع لآليات الإنتاج الصناعي وكذلك التغير الجذري في الفكر البشري الاجتماعي في تشويه مفهوم الحب لدى البشر وهذا بدوره ما انعكس بالسلب على علاقاتهم ببعضهم البعض سواءً بين أبناء الجنس الواحد أو الجنسين.

Résultat de recherche d'images pour "كتاب الحب السائل"

إعلان

اقرأ أيضًا: كيف وجدت الحداثة طريقها إلى مجتمعنا الشرقي؟

مجتمعٌ مستهلكٌ للسلع.. والناس!

أدت الرأسمالية الحديثة إلى خلق مجتمع مستهلك يلتهم كل ما يراه قابلًا للبيع بل ويحاول أيضًا شراء ما لا يُباع، وفي الوقت نفسه يسابق الزمن كي يتذوق كل الأنواع المتاحة في أقصر فترة ممكنة وأصبح يفعل هذا مع البشر أيضًا. وذاك ما يناقشه باومان من خلال مصطلح “التوقيت القصير” الذي كُرّست له النظم الاقتصادية الجديدة الساعية نحو الربح المستمر من خلال الخلق الدائم  للسلع الجديدة وغرس فكرة أن القديم يجب أن يُرمى في المزبلة، إنه المبدأ الذي يطبقه مصممو الأزياء تحت كذبة “الموضة”. هذا التأقيت القصير قام بالتأثير بدوره على الفكر الجماعي للأفراد فأصبح الناس يتعاملون مع بعضهم مثل ما يتعاملون مع سلعهم وألبستهم، فما دار عليه الحَولُ يجب أن يرمى بما فيها مشاعرنا تجاه الآخرين التي يجب أن تستبدل أيضًا ولهذا أصبحت علاقات آدم بحواء وحواء بآدم شيئًا بسيطًا يمكن افتتاحه ثم تجاوزه بسهولة، ولهذا أصبحت دار الزواج هشة سرعان ما تسقط تحت أول قطرة من مطر المشكلات.

الشيء الذي لعب دورًا كبيرًا في تسهيل الارتباط وفك الارتباط بين الناس هو “رقمنة العلاقات” فوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة أصبحت مصنع تكرير لتمييع الحب الذي يبدأ بطلب صداقة وينتهي بالحظر، ليصبح الأمر سهلًا جدًا ما دام أنه لن يخرج من شاشة الهاتف، ففقد الحب جوهره العفوي وتلقائيته التي تميزه في الواقع وأصبح شيئًا يُخطط له الفارغون والفارغات على العالم الافتراضي لتمضية بعض الوقت تحت شعار (حُب حسب الطلب)، إنها بداية الحب الاستهلاكي المتسرع ونهاية الحب الرومانتيكي الذي يتطلع إلى الأبدية والخلود حسب الكتاب.

من لا مال لهُ لا حب لهُ!

سمعت من أحد الأصدقاء أن أحدًا من معارفه قضى ليلة ماقبل الفالنتين يُهرول من شخص لآخر بهدف استدانة المال الكافي حتى يشتري عقدًا ذهبيًا، فهو يعلم أن ذلك هو السبيل البراغماتي الوحيد للحفاظ على حبيبته، لعل هذا الشخص نموذجَ ضحيةٍ مثاليٌّ، لكنه ليس ضحيةً للحب ولا للذهب ولا لحبيبته بل هو ضحية للحداثة.

إن التأثير الاقتصادي للحداثة أدى إلى “إضفاء الصبغة المادية على المشاعر الإنسانية“، وتساهم في هذا -إلى جانب الشركات التجارية- الأعمال السينمائية من أفلام ومسلسلات تُحاول أن تربط الحب بالمادة من خلال التسويق له على أساس أنه باقة ورود حمراء راقية مع هدية باهظة الثمن كعطر كوكو شانيل أو عقد مجوهرات فخم، في مطعمٍ راقٍ تحت ضوء الشموع، وأصبح مقدار أحاسيس الإنسان وولائه للآخر يُقاس بمقدار المال الذي يمنحه إياه ولا يهم كم يملك بل كم يمنح، وأضحى الحب -مثل أي سلعة أخرى- ممنوعًا على من لا مال له.

الحب بين الأمان والحرية

إن المتغير الفكري له دوره العظيم فيما سبق، فظهور المذاهب المادية والليبرالية ثم اللائكية المتطرفة ومشتقاتها كإفراز حتمي وبُعدٍ فكري للحداثة ساهمَ بشكل غير مسبوق في تراجع القيم الدينية المنظِّمة للعلاقات، وكذلك فصل الجانب الروحي والإنساني عنها ومن ثَمَّ الإخلال بالقواعد الصلبة التي كانت تحكم النسيج الاجتماعي الذي تحول من “مجتمع” بالأمس إلى “تجمع بشري” اليوم، على حد تعبير الكاتب، كنتيجة لتراخي الروابط المعقدة لشبكاته الاجتماعية.

وكان فصل الزواج عن الجنس وفصل الجنس عن عاطفة الحب أكثر شيء هدمه، فأصبح الفرد يختار الحرية التي يدفع نحوها الحداثيون بدل الأمان، واختيار الحرية يعني بالضرورة انحسار “الكبت العاطفي” الذي يعتبر -حسب الطب النفسي- الركيزة الأساسية الدافعة في بناء العلاقات الصحية والمسؤولة عن استمرارها، وبالتالي يقوم الإنسان الحديث بالهرولة نحو الحرية التي تضمن له المغامرة والإثارة، لكنه في نفس الوقت يبتعد بنفس القدر عن الأمان العاطفي والاستقرار الأسري، وطبعًا لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يحصل على كليهما حتى لو وعده الليبراليون بذلك.

في النهاية، لا يمكنك أن تجعل هذا العالم لطيفًا وحريصًا على البشر الذين يسكنونه، ولا يمكنك أن تجعله مُرَحِّبًا بأحلامهم بالكرامة على أكمل وجه وأحسنه كما تتمنى، لكن لابد أن تحاول، وستحاول فقط، فالمحاولة هي الأمل. المشاعر الإنسانية قيم يحتاجها الناس ليعيشوا بطريقة صحية، لكن في جوهرها الحقيقي، البعيد عن زيف الرأسمالية والحداثة التي لا ترحم، وفي أصلها النقي الذي يُخرِج تفاعلًا مع الأشخاص الطبيعين على أرض الواقع طوال حياتنا، وليس مع هداياهم في الواقع الافتراضي خلال يوم واحد في السنة.

اختراع أحمق كعيد الحب هو اعتراف رسمي أن البشر يمارسون الكراهية طوال العام ثم يخصّصون للحب يومًا واحدًا، كأن الفالانتاين يغفر ما قبله.

-أدهم الشرقاوي-

نرشح لك: إنسان ما بعد الحداثة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: رمزي بوودن

تدقيق لغوي: سدرة الأصبحي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا