أثر المنطق اليوناني على البلاغة العربية وعلاقته بإنكار ابن تيمية للمجاز
أتقن العرب قبل الإسلام لغتهم أتمّ الإتقان، وكان لهم من نقاهة الذوق وسلامة النطق ما أغناهم عن التقنين والتوجيه وصناعة البيان أو غيره من علوم البلاغة إلا القدر اليسير؛ كعيوب النظم والقافية ومراعاة الحال وغيرها. ومع القرن الثاني وبعده، بدأ لحن العجم يشيع وسط المجتمع الإسلامي وزاد اهتمام الطوائف الإسلامية بالكلام وحاجتهم لتعلم فنون المناظرة والخطابة خاصة المعتزلة، كما أدى ظهور طبقات عمال الديوان وكتاب الخلفاء وأكثرهم من العجم لزيادة رغبة المجتمع ككل في احتراف فنون البلاغة والبيان وغيرها فكانت نتيجة كل ذلك ظهور ما عرف فيما بعد بعلوم البلاغة العربية؛ البيان والمعاني والبديع. وما يعنينا منها هنا هو المجاز.
أول ما ذكر المجاز في كتابات البلاغة العربية كان في كتاب مجاز القرآن لـأبي عبيدة معمر بن المثنى (110هـ -209هـ ) ولم يكن يعنى به أكثر من بيان إعجاز القرآن ومعانيه وليس المجاز الاصطلاح البلاغي مقابل الحقيقة في كلام البلاغيين فيما بعد ويجدر بالذكر أن هذا القرن الثاني الهجري حوى نحويين وبلاغيين كبار لم يتحدثوا في المجاز أو يذكروه كالشافعي وسيبويه والكسائي والأخفش والفراء. أما أول من تكلم في المجاز (وكان قد سماه المثل) الذي هو مقابل الحقيقة فهو الجاحظ المعتزلي (159 هـ-255 هـ) فكان بحق مؤسس البيان العربي وجاء من بعده ابن قتيبة الدينوري في كتابه (مشكل القرآن) والمبرد في كتابه الكامل وجميعهم فى نفس القرن الثالث الهجري. أما القرون اللاحقة فحدث ولا حرج بدءًا بـالآمدي والرماني وابن رشيق القيرواني وأبي هلال العسكري وعبدالقاهر الجرجاني والسكاكي وغيرهم. (1)
رأى الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي تحت عنوان “الأعرابي صانع العالم العربي” أصالة وأولوية اللغة العربية فى دراسة مكونات العقل العربي، وأن فيما تم من تدوين اللغة وجمعها وتقعيدها تلك الفترة، ما يمكن أن نسميه بمعجزة العرب اللغوية نظير معجزة اليونان الفلسفية وهل هناك – كما يقول- خرقًا للعادة أبلغ وأعمق من تلك السرعة التي تم بها الانتقال من لغة لا يمكن فهمها ولا تعلمها إلا بالعيش وسط القبائل التي تتحدثها في صحاري العرب إلى لغة وفصاحة قابلة لأن تكتسب وتعلم بمناهج ومقدمات ومنهجية صارمة؟ بل لم يكن ذلك مجرد إنشاء علم جديد وهو علم اللغة العربية من لا علم بقدر ما هو لغة جديدة هي اللغة العربية الفصحى. (2)
لكن كان لطه حسين من قبله رأي آخر، ففي مقاله “البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر” يسخر من الجاحظ (رغم اعترافه بفضله على البيان العربي) في حديثه عن أصالة العلوم البلاغية العربية في زمانه وصفائها من التأثر ببلاغات الأعاجم وآدابهم، بل حتى احتقاره لها إلى حد قوله في كتابه “البيان والتبيين” أن اليونان لم يظهر منهم من يستحق أن يسمى خطيبًا ويصف أرسطو بأنه بكئ اللسان، وذلك كله فى رأي طه حسين إنما ناشئ من نزعته المناهضة للشعوبية.
يحاول طه حسين في مقاله المذكور الكشف عن العامل الثقافي المستجد الذي شارك بجدية في تنامى ظاهرة التقعيد للبلاغة العربية لتبلغ ذروتها أواخر القرن الثالث الهجري فيحصر تلك المستجدات إلى أمرين أولهما كون جل كتاب الدواوين والمتكلمين من الأعاجم، وأما السبب الثاني ولعله أقوى من سابقه وهو تأثر البلاغيين بترجمة السريان لكتابي الشعر والخطابة لأرسطو الذي شرحه ابن سينا في الشفا قبل أن يلبسه عبد القاهر الجرجاني لباس البلاغة العربية تمامًا (وما هو إلا فيلسوف يجيد شرح أرسطو والتعليق عليه كما يصفه)، حتى كان تصورهم للبيان من تشبيه ومجاز قريبًا مما نجده عند أرسطو، ثم إنهم تحاشوا أن ينقلوا عنه جميع الأمثلة التي كان يمثل بها -كما يقول- ليس لشيء أكثر من أنهم لم يفهموها، فعندما يقرر أرسطو أن المجاز يقوم على التشبيه، يقول على قولة هوميروس في حديثه عن أخيل “أخيل كرّ كالأسد” فهذا تشبيه، وعندما يقول “كر هذا الأسد” فهذا مجاز. خذ أي كتاب من كتب البيان العربي فستجد فيه نفس هذا المثال سوى أنه قد استعمل فيها لفظ زيد المألوف في شواهد البلاغة العربية والنحو بدلًا من أخيل، وإذًا لا يكون أرسطو هو معلم المسلمين الأول في الفلسفة وحدها ولكنه إلى جانب ذلك معلمهم الأول في علم الييان أيضًا -كما يقول- (3)
ولعل أقدم من تحدث عن تأثير لغة اليونان على فلسفتهم ما يحول دون القول بموضوعيتها وحيادية منطقهم هو أبو سعيد السيرافي المعتزلي، ولعله لم يخطر بباله يومها أن المنطق الذي يقارعه بحجج اللغة سيأتي اليوم الذي ينزل فيه على أحكامه مثلما نراه أيامنا هذه -كما أراد- وقد نقل لنا حديثه أبو حيان التوحيدي في كتابه“الإمتاع والمؤانسة” في مناظرته الشهيرة مع أبي بشر متى بن يونس المنطقي، يقول فيها أبو سعيد: صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل.. إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذونه قاضيًا وحكمًا لهم وعليهم وما شهد لهم به قبلوه وما أنكره رفضوه؟
أنت إذًا لست تدعونا إلى علم المنطق إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها.. وأنت تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟ (4)
اهتم الدكتور طه عبد الرحمن بهذه المناظرة في أطروحته الصادرة بالفرنسية “الفلسفة واللغة” بصفته أول تطبيق للمنعطف اللغوي أو اللساني الحديث على الفلسفة العربية. (5) وبيَّن فيها أن فعل “الكينونة Being” غير الموجود في اللغات السامية كالعربية والتي استنتج منها أرسطوطاليس مقولاته وحاول الفلاسفة العرب حمل اللغة العربية عليه حملًا أحدث إشكالات مغلوطة لا تحترم أصول العربية ولا تداولياتها، فضلًا عن سوء ترجمتها بما يحول دون فهم ربطها بمنطق لغتها الأصل. (6)
نقد ابن تيمية للمنطق
رأى ابن تيمية أنَّ المعرفة الحقيقيَّة إنَّما تقوم على إدراك القضايا (الجزيئات) أو ما يُعرف في المنطق بالتصديق، وليس على إدراك المفردات أو ما يُعرف بالتصوُّر؛ وذلك لأنَّه ليس في الخارج شيء موجود خاليًا من كلِّ قيد، وبأنَّ تلك الكليات التي يتحدث بها المناطقة ما هي إلّا عمليَّة تجريدٍ ذهني يعزل فيها الجزئي عن العوارض المخصصة له؛ فالعالم عنده إذن ما هو إلّا قضايا مُقيَّدة بأوصافها (اللَّونية أو الحجمية أو العددية…)، أو بعلاقاتها مع غيرها (كالتشابه أو التضاد أو الفوقية أو التحتية…)؛ وإنْ جاز لنا فلنقل أنَّ الماهية ما يرتسم في الذِّهن من الشيء، والوجود ما يكون في الخارج منه.
ولأنَّ الذهن قادرٌ على تصور أشياء ليست موجودة في الخارج، كان المقدر في الأذهان أوسع من الموجود في الأعيان، وهذا سبب الغلط والضلال عندهم وكان لا بدَّ للحكم بصحة شيء في الذهن النظر إلى الخارج وإلّا فليس هناك في الخارج شيء ثابت يدَّعي الماهية؛ وإنَّما هناك الوجود المعين والماهية المعينة والحقيقة المعينة وليس الكليات أو الماهية التي يدَّعون. (7) ومن ضمن هذه المقيدات، الصفات المرتبطة بالذوات؛ حيث لا يمكن -وفقًا لابن تيمية- فصل الذَّات عن صفاتها، إذ ليس في نفس الأمر ذاتًا مُجرَّدة حتّى يُقال أنَّ الصفات زائدةٌ عليها، بل لا يُمكن وجود الذَّات إلّا بما تصير ذاتًا من الصفات، ولا يمكن وجود الصفات إلّا بما تصير صفات من الذَّات وإلّا كانت كالمعدوم، فتخيُّل وجود أحدهما دون الآخر ثم زيادة الآخر عليه تخيُّلٌ باطل، وهو بذلك يدعم معتقداته الكلاميَّة ومن أبرزها اعتقاده بأنَّ للّه وجودٌ خارجيٌّ حقيقي مع صفاتٍ حقيقيَّة، اعتمادًا على فكرة أنَّه لا شيء يمكن أنْ يُعدَّ موجودًا وجودًا حقيقيًّا دون أنْ يُوصف بصفاتٍ معينة، فهو يرفض بقوةٍ كلام الرَّازي وابن سينا فيما يسمونه المُطلق المحض الذي يراه كأيِّ كلي ما هو إلّا مفهوم ذهني ليس له وجودًا حقيقيًّا في العالم الخارجي. (8)
دلالة السياق مقابل الدلالة الوضعية عند المناطقة:
يتمنى المناطقة مفهوم المفردة الوضعي وضرورته للعلم اليقيني ذلك أن المطلب الأقصى لنظر المناطقة هو البرهان المحصل للعلوم اليقينيَّة، ولما كان البرهان نوعًا من أنواع الاستدلال وكان كلُّ استدلالٍ لا ينتظم إلّا بمقدمتين، وكانت كلُّ مقدمةٍ لا تنتظم إلّا بخبرٍ ومخبرٍ عنه كلاهما دالٌ على معنى، كان مطلب المناطقة مطلبًا مُركَّبًا وككل مرکب لابدَّ للناظر فيه أنْ يُحلله إلى المفردات. (9)
“وكلُّ مفردٍ فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ، فيجب ضرورة أنْ ننظر في المعاني المفردة وأقسامها، ثمَّ في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها، ثمَّ إذا فهمنا أنَّ اللَّفظ مفردةٌ، والمعنى مفردة ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة وننظر في حكم المقدِّمة وشروطها، ثمَّ نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانًا وننظر في كيفيَّة الصياغة الصحيحة، وكل من أراد أنْ يعرف البرهان بغیر هذا الطريق فقد طمع في المحال”. (10)
يعترض ابن تيمية على الأسبقيَّة المنطقيَّة والنظريَّة للمعنی المفرد ليحل محلها الأسبقية الطبيعيَّة للقول المرکَّب، لأنَّه لما كانت اللغة الوسيلة المستعملة للتعبير عن العالم الخارجي كان لا بدَّ للَّفظ المستعمل أن يكون مقيَّدًا كالأشياء في الخارج بحيث ينعكس المعنى الخارجي باللغة، فيقول: “فإن أردت كون اللَّفظ مطلقًا عن القيود فهذا لا يوجد قط فإن النظر إنَّما هو في الأسماء الموجودة في كلام كلِّ متكلمٍ كلام الله وملائكته والجن وسائر بني آدم والأمم، لا يوجد إلّا مقرونًا بغيره إمّا ضمن جملةٍ اسميَّةٍ أو فعليةٍ ولا يوجد إلّا من متکلمٍ ولا يُستدل به إلّا إذا عرفت عادة ذلك المتكلم في مثل ذلك اللَّفظ، فهنا لفظ مقیَّد مقرون بغيره من الألفاظ ومتکلمٍ قد عرفت عادته ومستمع قد عرف عادة المتكلم بذلك اللَّفظ فهذه القيود لابدَّ منها في كلامٍ يفهم معناه فلا يكون اللَّفظ مطلقًا عنها”. (11) “فلا يوجد في اللغة لفظ السواد والبياض والطول والقصر إلّا مقيَّدًا بالأسود والأبيض والطويل والقصير ونحو ذلك، لا مجرَّدًا عن كلِّ قيد”. (12)
ولأجل ذلك لا يمكن أن يكون اللَّفظ مفيدًا إلّا إذا نُظِّم مع آخرٍ في جملة، فإذا ذكرت كلمةٌ ما دون قصدِ المتكلم معنى ما دلَّ عليه السياق، فليس ذلك من استعمال اللغة في شيء؛ فلفظ الأسد والبحر دون قصد الحيوان وبحر الماء مثلًا وبغير أن يدل السِّياق على مقصد المتكلِّم ليس بكلامٍ ولا جزء کلام ولا يفيد فائدة أصلًا، وهو صوت ينعق به إذ ليس هناك لفظٌ مطلقٌ أو معنی مطلق عدا التمثلات الذهنية للألفاظ والمعاني الحقيقيَّة التي ليست إلا بنيات مجرَّدة ليس لها تحقق في العالم الخارجي ولذا فإنَّه -وفق كلام د.محمد محمد يونس علي – يدعو إلى اتباع منهجٍ عمليٍّ (واقعي) empirical approach يأخذ في حسبانه الموقف التخاطبي بكامله، ويرجع خطأ معارضي ابن تيمية حسب رأيه إلى خلطهم بين العالم في حدِّ ذاته وافتراضاتهم عنه؛ فهم يعتقدون خطأ أن ما يتصورونه في أذهانهم يُمثِّل الواقع الخارجي، مع أنَّ تمثلاتهم الذهنية معزولة عن السياق وخالية من التنوعات الفردية للأشياء الخارجية التي تنشأ نتيجة تشخصها وذلك التشخص -بحسب رأي ابن تيمية- هو علامة وجودها الحقيقي في العالم الطبيعي. (13)
وبذلك يؤسِّس ابن تيمية لنظرية سياقية تراعي تداوليَّة الخطاب بين المتكلم والمستمع، وعرف الاستعمال بعيدًا عن نزعة الفلاسفة والمتكلمين القائمة على المطلق والتَّجريد، فقد يكون طالب التعريف متصوِّرًا للمعنی جاهلًا بدلالة اللفظ عليه، فهذا جوابه الترجمة إن كان الاسم لا يوجد في لغته وبالتفسير إن كان موجودًا. وأمّا إن كان طالب التَّعريف متصوِّرًا للمعنی عالمًا بدلالة اللفظ عليه فجوابه يكون حسب الغرض الذي يهدف إليه من سؤاله بذكر الخصائص التي لم يطلع عليها. وأمَّا إن كان غير متصوِّرٍ للمعنى وجاهلًا بدلالة اللفظ عليه، فهذا جوابه يكون إمّا بالتعيين وإحضار المسمى نفسه، وإما بذكر صفاته ليميِّزه عن غيره لا للدَّلالة على الكنه أو الماهية كما يدَّعي المناطقة (14).
المجاز عند ابن تيمية
بعيدًا عن أكثر النظرات السطحية لخصومه والتي تدَّعي أنَّ في إنكار ابن تيمية للمجاز غرضًا تحكميًا، فإنه يظهر للمتأمِّل في إنكاره لوقوع المجاز في القرآن واللغة تطبيقًا صريحًا وعميقًا لمنهجه الابستمولوجي واللساني.
يرى ابن تيمية أنَّ المجاز ليس استعمالًا بالإجازة المؤقتة التي تسوغها القرينة كما يراها الجمهور، بل هو استعمال مشروع متأصِّل مثله في ذلك مثل الحقيقة، وليست تسمية اللفظ بالحقيقي بأوْلى في الاستعمال، بل هما متساويان في أحقيَّة اللفظ الدال عليهما، كما أنَّ جناح الطائر وجناح الذل تنوعان مختلفان للجناح (المطلق) الذي له وجود ذهني وليس له وجود فعلي؛ أي أنه مثلما يدل اللفظ المشكك أبيض -في السياق المناسب- على بياض الثلج وبياض اللبن، ويشير اللفظ المتواطئ الرجل إلى زيد وعمر بالتساوي، وكذلك الجناح لفظ عام يشمل جناح الطائر وجناح الإنسان وجناح الذل ونحو ذلك؛ وذلك لأنَّ الألفاظ لم توضع بمعزلٍ عن المقامات التخاطبية حتى يقال إنَّ كلمة الجناح تعني جناح الطائر على سبيل الحقيقة مثلا وقد أوضح ابن تيمية ذلك بقوله: “لا ريب أنَّ الذل ليس له جناح مثل جناح الطائر كما أنَّه ليس للطائر جناح مثل أجنحة الملائكة، ولا جناح الذل مثل جناح السفر لكنَّ جناح الإنسان جانبه كما أنَّ جناح الطير جانبه، والولد مأمور بأنْ يخفض جانبه لأبويه ويكون ذلك على وجه الذل لهما لا على وجه الخفض الذي لا ذل معه”. (15)
تحدَّى ابن تيمية خصومه أنصار نظرية المجاز بأن يقدِّموا أيَّ دليل نميز به بين ما يسمونه الحقيقة والمجاز وهذه ردوده على تعريفاتهم (16):
1- يقولون: إنَّ الحقيقة تفيد معناها دون الحاجة إلى القرائن، وأمّا المجاز فيحتاج إلى القرائن. وقد كان رده على هذا المعيار واضحًا انطلاقًا من نظريَّته في الاستعمال التي تقضي بأنَّ اللفظ لا يستعمل إلّا مقيدًا إمّا بقرائن لفظية أو حالية، ومنها كلمة الرأس التي يرى أنصار المجاز أنَّها حقيقة في رأس الإنسان ومجاز في غيره، وجوابه عن هذا الادِّعاء أنَّ لفظ الرأس لا يأتي في أيِّ مقامٍ تخاطبي مجردًا من القيود، لأنَّ المتكلِّمين إمّا أن يتحدثوا عن رأس الإنسان أو يتحدثوا عن رأس الدرب لأوله أو رأس القوم لسيِّدهم.
يقول أ.أ.ريتشاردز في كتابه فلسفة البلاغة: “السبب الرئيس في سوء الفهم كما سنرى هو خرافة المعنى الخاص Proper Meaning ،Superstition أي ذلك الاعتقاد الشائع -الذي تغذِّيه الكتب المدرسيَّة المتخلفة- بأنَّ للكلمة معنى ثابتًا محدَّدًا (هو مثاليًا معنى واحد) مستقلًا عن شروط استعماله، بل إنَّه يتحكَّم في الاستعمال وفي السبب الذي يجب أن يقال من أجله، وهذه الخرافة إنَّما هي إقرار بنوعٍ من الثبات في معاني بعض الكلمات ولا تكون خرافة إلا حين تنسی (وهذا ما تفعله دائمًا). إنَّ ثبات معنى الكلمة ينشأ عن استقرار السياقات التي تضفي عليها معناها فالثبات في معنی الكلمات ليس شيئًا يجب افتراضه بل شيئًا يجب تفسيره دائمًا، وحين نجرِّب تفسيرًا معيَّنًا فإنَّنا نكتشف بالطبع أنَّ هناك أصنافٌ عديدة من الثبات طالما أنَّ هناك أصنافٌ متعدِّدة من السياقات المستقرة”. (17)
2- يقولون: إنّ المعنى الحقيقي متبادرٌ إلى الذهن في حين أنّ المعنى المجازي غير متبادر، فعندما يطلق لفظ الجناح فإنّ المتبادر هو جناح الطائر وليس جناح الذل مثلًا. والجواب أنّ التبادر ليس مقصورًا على الحقيقة إزاء المجاز لأنَّ بعض الحقائق تتفاوت في تبادرها أيضًا، فعندما تقول أكلتُ بيضتين مثلًا؛ فالمتبادر للذهن هو أنَّ المقصود بيضتا دجاج مع أنَّ لفظ البيض يطلق حقيقة على بيض النمل والنعام والبط ونحوها، وهي معانٍ غير متبادرة وإنَّما بادر لأنَّ ذكره أكثر في هذا والسِّياق عليه أدل.
3- يقولون: إنّ المجاز يصح نفيه دون الوقوع في تناقضٍ خلافًا للمعنى الحقيقي، كأن يقال في نحو رأيتُ أسدًا يخطب على المنبر والأسد لا يخطب على المنبر، في حين لا يجوز هذا النفي في الإنسان، والجواب عنده أنَّ جواز النفي من عدمه مرتبطٌ بمعرفتنا السابقة بأنَّ اللفظ من قبيل الحقيقة أو المجاز، فإنْ كنَّا نعتقد أنَّ اللفظ حقيقة فلا نقبل نفيه وإن كنَّا نعتقد أنَّه مجاز قبلنا وهذا دور.
4- يقولون: إنَّ الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له والمجاز هو المستعمل في غير ما وضع له، وجواب ابن تيمية على ذلك أنَّ هذا يحتاج إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال وهذا يتعذَّر، ومقصوده بذلك أنَّه من المتعذر تاريخيًّا في غياب المصادر أنْ نثبت هذا الوضع.
وفي هذا يقول د.إبراهيم أنيس في كتابه دلالة الألفاظ: “وأبرز نواحي الضَّعف في علاج القدماء للحقيقة والمجاز أنَّهم وجهوا كل عنايتهم إلى نقطة البدء في الدلالة، وركَّزوا نظرتهم نحو نشأتها، فتصوروا ما سموه بالوضع الأول، وتحدَّثوا عن الوضع الأصلي كأنَّما قد تمَّ هذا الوضع في زمنٍ متعيِّنٍ وفي عصرٍ خاصٍّ من عصور التاريخ، ولم يدركوا أنَّ حديثهم عن نشأة الدلالات ليس في الحقيقة إلّا خوضًا في النشأة اللغوية للإنسان؛ تلك التي أصبحت من مباحث ما وراء الطبيعة، والتي هجرها اللغويون المحدثون بعد أن يأسوا من إمكان الوصول في شأنها إلى رأي علی مرجع، وأصبحوا الآن يقنعون ببحث اللغة وتطورها في العصور التاريخيَّة التي خلَّفت لنا آثار لغوية مدونة أو منقوشة” (18).
بل ادَّعى غيرهم أسبقيَّة المعاني المجازية، ولعل رأيهم أقرب للصواب. يقول د.لطفي بديع في كتابه التركيب اللغوي للأدب: “واللغة في أصل الوضع لا تنفصل عن اعتقاد الإنسان في الأشياء، وهو اعتقادٌ أسطوري الغلبة فيه للمجاز لا للحقيقة، ومن ثم كان المجاز أسبق من الحقيقة والصفة الأسطوريَّة للتراكيب اللغوية والمفردات اللفظية من المسلمات التي يعوِّل عليها العلم الحديث في أصل اللغة”. وفي ذلك يقول هردر:
“ولم يكن عجبًا والطبيعة تدوي أن تكون في نظر الإنسان الحسَّاس حية تتكلم وتعمل فالإنسان المتوحش ينظر إلى شجرةٍ عظيمةٍ لها تاج كبير ثم يتعجب قائلًا: التاج يزمجر! الآلهة غاضبة، ويجثو على ركبتيه ويصلي! وهذا تاريخ الإنسان الحسَّاس”. (19)
سلم اللغويون والفلاسفة عامةً منذ أرسطو حتى الآن بالتفريق التقليدي بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي، بيد أنَّه في الحقبة الأخيرة هناك نزعة نامية عند البراغماتيين وفلاسفة اللغة والباحثين في الذكاء الاصطناعي نحو التشكيك إمّا كليًّا أو جزئيًّا، في هذا التفريق فـسبيربر Sperber وویلسون Wilson مثلًا يصرِّحان: بأنَّه “من الممكن أنَّه قد قدر لفكرة الاستخدام المجازي tropes بأكملها، وكذلك تصنيفها أن تذهب بالطريقة نفسها التي سلكتها فكرة السوائل الفاعلة humors في الطِّب … وهي الاعتقاد بوجود أربعة أنواع من السوائل الأساسيَّة تحدِّد حالة الشخص العضوية والنفسية.. وبقطع النظر عن وجود التجاهل ثمة أُسس قوية لرفض فكرة المعنى المجازي”. (20)
وفي النهاية فإنه لا شك عندي أن اللغة ليست مجرد هوية فحسب بل أكثر من ذلك بكثير إنها منطق الناطقين بها تفكيرهم وتنظيرهم وواقعهم وتاريخ خبراتهم.
ولا شك أنها ظاهرة حية تتغير وتتقدم وتتسع معاني وألفاظ وتراكيب وقد تتقهقر بل وقد تتلاشى لكن أن نلبسها -غصبًا- منطق لغة أخرى، فلا أرى ذلك إلا حجرًا على قواها العقلية ووأدًا لخيال ناطقيها وقطعًا مع ماضيها الذي هو خبرات أبنائها هويتهم ومنطقهم.
المراجع:
(1) كتاب علم البيان، د.عبدالعزيز عتيق، صـ7، دار النهضة العربية.
(2) كتاب تكوين العقل العربي، د.محمد عابد الجابري، صـ75، مركز دراسات الوحدة العربية.
(3) مقدمة كتاب نقد النثر لأبي الفرج قدامة بن جعفر، تمهيد فى البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر بقلم د. طه حسين، دارالكتب العلمية، لبنان، بيروت.. انظر أيضا “مناهج تجديد فى النحو والبلاغة والتفسير والأدب ” لأمين الخولى ص146,147.
(4) كتاب الإمتاع والمؤانسة أبو حيان التوحيدي، ص88، راجعه هيثم الطعيمي، المكتبة العصرية صيدا، لبنان وانظر أيضا كتاب التركيب اللغوي للأدب (بحث فى فلسفة اللغة والاستطيقا) د. لطفي عبدالبديع ص 22.
(5) يطلق المنعطف اللغوي الحديث على تلك التطورات التى اعترت العلاقة ما بين اللغة والفلسفة فى القرن العشرين والانتقال من التفكير باللغة الى التفكير فى اللغة ذاتها والنظر اليها كحل للمشكلات الفلسفية خاصة نظرية المعرفة ومن أبرز ممثليها اللسانى الفرنسي بنيفست والمنطقي النمساوي فتجنشتاين.
(6) طه عبدالرحمن قراءة فى مشروعه الفكري , د.ابراهيم مشروح ,الفصل الثانى :المنعطف اللغوي المنطقي وسؤال الفكر,صـ59 ,مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي.
(7) مجموع الفتاوي، ابن تيمية، 106 :7 , 216 :14.
(8) علم التخاطب الاسلامي دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص، د.محمد محمد يونس على، ص130، دار المدار الاسلامي.
(9) المنهجية الأصولية والمنطق اليوناني، حمو النقاري ص116، الشبكة العربية.
(10) المستصفي من علم الأصول، أبوحامد الغزالى ص29-30.
(11) مجموع فتاوي، ابن تيمية 20 :450.
(12) مجموع الفتاوي، ابن تيمية 109:7.
(13) علم التخاطب الإسلامي دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص،مرجع ساب، ص298
(14) السياق عند ابن تيمية نظرة جديدة د.فريدة زمرد ، مجلة الأحياء وللكاتبة كتاب صدر حديثًا بعنوان “الأبعاد التداولية لنظرية المجاز عند ابن تيمية” مركز تفسير للدراسات القرآنية.
(15) مجموع الفتاوي، ابن تيمية، ج20 ص465.
(16) علم التخاطب الاسلامى دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص، مرجع سابق، ص151 وبعدها.
(17) كتاب فلسفة البلاغة، تأليف أ.أ.ريتشاردز ص20، ترجمة سعيد الغانمى و د.ناصر حلاوي، دار افريقيا الشرق.
(18) كتاب دلالة الألفاظ، د.ابراهيم أنيس، ص128، مكتبة الأنجلو المصرية.
(19) كتاب التركيب اللغوي للأدب (بحث فى فلسفة اللغة والاستطيقا)، د.لطفي عبدالبديع، ص37 و38، دار المريخ للنشر.
(20) علم التخاطب الإسلامي دراسة لسانية لمناهج علماء الأصول فى فهم النص، مرجع سابق، ص147 وبعدها.