الإلَه الفَنَّان: جماليَّة القُدرَة الإلهيَّة في الأساطير والفِكْر
يُوصَف الإلَه فيما يتمثَّل في النزعة التأليهيَّة (Theism) أو الرُبوبيَّة (deism) بالخالِق، الذي أظهَر العالَم وأخرجه من العدم، وهذا ما تتَّفق عليه الأديان الإبراهيميَّة، على وجه المِثال: في موضوع الكوسموغونيا وأحداث الكَوْن. بالمُقابِل نجد فكرة الصَّانِع الذي قام بتشكيله من مادةٍ أَزَليَّة موجودة قبلًا، كانت في حالة فوضى أو شكل بدئيّ، فيما نكتشفه عند عِدَّة فلاسفة ومُعتقدات تُقِرّ بقِدَم العالَم.
وحتى لو اعتَبَرنا الإلَه خالِقًا أوجَد مادة قديمة من لا شيء أم صَانِعًا يلعب في مادة أوَّليَّة، لكن لا بداية لها؛ فإنّ فكرة الخَلْق أو الصُّنْع وتشكيل العالَم لا تتضمَّن فحسب عمليَّة وجوديَّة واعية يُنفّذها العقل الكُّلي، بل إنّ لها قِيمَة جماليَّة وفنّيَّة تسكُن الأذْهَان، وإن كانت على أرض الواقع لا ترتكز على قاعدة حقيقيَّة.
يذكر رالف إمرسون: “إياك أن تُفوِّت أي فُرصة لمُشاهَدة أيّ شيء جميل، لأنّ الجَمَال خطّ بيد الله”، ويصف هنري ديفيد ثورو السماء ونُدَف الثَّلج، ويُؤكِّد أنّ الطبيعة هي إنجاز إلَهي عُمِل بطريقة فنّيَّة بارعة(1)، أما تودوروف فهو يشرح بأنّ الله: “أوَّل الفَنَّانين”. (2) وهو ما يحثُّ الكثيرين إذن في هذه الرُّؤية المليئة بالأحاسيس والتجارب الرُّوحيَّة؛ على أن يجعلوا الإنسان إلَهًا آخر بفضل قُدرَته على الإبْدَاع وإجادة الفَنّ.
ونتيجة لما سبق فهذه الصُّورَة الرومانسيَّة التي تَتَملَّك مشاعر المرء، تجعل الإلَه هو الفنَّان الأعظم وأصل كل جميل، وحسب أحد الاتّجاهات التي تتنافس على تعريف الفَنّ وتأويله، فإنّه صَنيعَة تصدر من الإنسان، ومُحاكَاة لإبْدَاع الإلَه، والفُنُون الكبرى التي قام بها، أو لنظام الطبيعة.
الإلَه الصَّانِع والخَالِق
يقول برتراند راسل في حديثه عن الإلَه الصَّانِع الذي كان يُنادي به أفلاطون: “إذا تحدَّث أفلاطون عن الخَلق، تصوَّر مادة قديمة أزليَّة تناولها الله بالتَشْكِيل، وقُلْ ذلك أيضًا في أرسطو، فالإلَه عندهم أقرب إلى أن يكون فنَّانًا أو مهندس عِمَارَة”(3). أما عبد الرحمن بدوي الذي يشرح أفكار أوغسطين، فهو يختصر حديثه عن الإلَه الخالِق بهذا الشكل: “الله كالفَنَّان الذي يُرتِّب الأشياء حسب الغاية التي يَنْشُدها، فإذا كُنَّا نفترض في الفَنَّان أنّه عاقلٌ وهو يصنع الأشياء، فلا بُدَّ لنا بالأوْلَى أن نصف الله في خَلقه للكَوّن بأنّه عاقلٌ”(4)؛ هذا الإلَه حسب أوغسطين الذي خلق العالَم عن حُبٍّ(5).
حيث في وسعنا أن نُمَاهيه مع الفَنَّان الذي يُمارِس إبداعه لحاجة داخل نفسه في سبيل عاطفة محدَّدة أو تعبير يصدر من رغبة ما، ولو كان عمل الإلَه الإبراهيميّ غير مشروط بهذه الحاجة. والإلَه إلى جانب هذا يُوصَف في معظم الأديان المُشخَّصة بالخيريَّة المُطلقة، كما أنّه يُكرِّس قُدرته للجَمَال ويدعو له، سواء الأخلاقي أم الطبيعيّ، لاسيما إذا عُدنا إلى التصوّرات الجماليَّة القديمة التي اعتادت على أن تُحيل الجَمَال إلى الخير ولا تفصلهما عن بعض.
فالإلَه فاعلٌ ومحرِّك، يجعل من مُجرَّد العدم أو الفوضى وجودًا قائمًا بذاته يتجلَّى في كلّ العالَم، ويُطالعنا الدليل الكوسمولوجيّ (Cosmological Argument) القائم على العِليَّة في هذا الشأن، فمعرفة وجود الله في حالته الذي تنتهي عنده كلّ المُسبِّبات، لأنّه عِلّة المَعلولات؛ مِن وجود هذا العالَم الجميل موضوعيًّا.
نقرأ أيضًا عن الدليل الغَائيّ (Finality) الذي يُؤكِّد حقيقة وجود تنظيم وتخطيط غَائيّ في هذا العالَم، لا يُمكن أن يكون صادرًا عن العُشوائيَّة أو من دون إلَه -التصميم الذكي- ولا تعنينا هنا أي فلسفة تُدْحِض مِثل هذه الادّعَاءات.
والإله عند الكثيرين هو المهندس الأعظم للكَوْن الذي يُسيّره ويُنظّمه، مثلما اعتقد بذلك إسحاق نيوتن.
وإلى جانب ذلك فهو عالِم بالحساب والهندسة، كما كان يؤمن بعض الفلاسفة(6). ولقد اعتبر الفيثاغوريِّون علاوة على ذلك أنّ العالَم “صندوقٌ موسيقي إلَهيّ”، أو آلة موسيقيَّة، وربطوا بينه وبين الموسيقى، وتحدَّثوا عن موسيقى مُقدَّسة تأتي من السماء ليس في وسع البشر سماعها(7). هذه المُعتقدَات التي تُشَبِّه الله بفَنَّان عِمران ومُصمِّم، لكن لا يَنحت مجرد جمادات، بل كَوْنٌ بأكمله من جزئيَّاته إلى كُليَّاته.
الإلَه يَخلِق الإنسان
تبدو الآلِهة في المُعتقدَات القديمة، في مِثل ما نجدها في الشرق الأدنى، أكثر قُربًا من هذه الفكرة، كونها شَبِيهةً بالبشر، فهي تَلْبِس الصفات الإنسانيَّة التي تَمَّ إصْبَاغها بها، أما داخل هذه الأساطير، فإنّ ذلك يكون مُعَاكِسًا، لأنّ الإنسان في الحقيقة هو الشَّبِيه بالآلِهة وعلى صُورَتها -هذا موجود أيضًا في الأديان الإبراهيميَّة مع عِدَّة اختلافات ومُفارقات -ناهيك عن صًورَته الشَكليَّة في هذه المرويات.
نذهب إلى أساطير بلاد الرافدين، التي تتحدَّث عن خَلْق البشر بطريقة يَدويَّة تُمَاثِل تَشْكيّل الصلصال أو العجينة وإعطائها مَلامِحًا(8)، فمِثل هذا الخَلْق لا يكون عبر الكلمة ولا نثر البذور على الأرض، بل يكون تكوينًا عبر الفعل للإنسان الأوَّل، والنصوص المسمارية تضع مكانًا لهذه العملية تُسمَّى: (Uzu-mu-a)، وتعني “مصنع الأجساد”(9)، يشابه ورشة لفَنَانين مَهَرَة. نجد كذلك في مَلحَمة جلجامش، أنّ الإلهة “أرورو” تتخيَّل صُورَة في ذهنها حول الإلَه “آن” لتخلِق عَبْرَه “إنكيدو” أحد أهم الشخصيات في الملحمة (10)، مما يجعل هذه العملية العقليَّة، جَمَاليَّة تقوم على الخيال والعقل، فالفَنَّان لا يعتمد على خياله فحسب وإنَّما فكره أيضًا.
أما الأُسْطورة المِصريَّة، فتجعل الإلَه خنوم خالِق البشر، مِثل فَنَّان حِرفيّ يصنع الفَخَّار ويجلس على دولابه ليخلقهم(11)، وتُصادفنا أُسْطورة من الهند، تذكُر أنّ الإلَه عندما انتهى من خَلْق الإنسان، نفذت مقادير الخلق لأجل المرأة، من هنا اعتمد على عددٍ من مظاهر الطبيعة، فأخذ من الشمس ضياءها، ومن القمر شكله، والورود رائحتها، والسُحُب مياهها(12). نكتشف في هذه القصة جَمَاليَّة الخَلْق، الذي أخذ من مظاهر الطبيعة وصُورها لأجل أن يُشَكِّل صُورَة أُنثَى جذابة مثل القمر والشمس، بصرف النظر عن هدف هذه الأُسْطورة التي تقدِّم تفسيرًا للاختلاف الواقع بين الرجل والمرأة حسب منظور أتباعها.
ويتناقل السُّكَّان الأصليون للقارة الأمريكيَّة، أساطيرًا تختص بهذا الشأن، وتُكَرِّس للعِرقيَّة في ذاكرتهم الشعبيَّة، فيسرد البعض أنّ الإلَه قام بتشكيل الإنسان من عجينة وأدخلها الفرن، وكان من لهفته أن أخرج أوَّل عجينة قبل أوان نضجها والتي صارت بعدها الإنسان الأبيض، بينما نضجت الثانية وهي ما يعرف اليوم بـ الإنسان الأسمر/الملوَّنون، بينما تَمَّ نسيان الثالث وحدث أنّ الإلَه استَغرَق في تأمُّل جَمَاله حتى احتَرَقت العجينة الثالثة، ومن هنا ظهر الإنسان الأسْوَد(13).
نُلاحِظ أنّ حماسة الإلَه، بما في ذلك تسَرُّعه، صارت عاملًا في خَلْق الإنسان الأبيض، غير أنَّ صبره وحكمته هي سبب الأسْمَر، الذي يُمَثِّل جنس راوي الأُسْطورة، أما الإنسان الثالث، فسَبَبه إعجابه بنفسه وقُدرَته التي أنسته خَلْقه، فالله فَنَّان تَعتَمْر ذاته دواخل عاطفيَّة ووجوديَّة يَخلِق عَبْرَها الإنسان.
ونجد الله في الدين الإسلاميّ، يُصوِّر الجنين في الرَحِم، بمِثل ما هو موجود في العهد القديم بنفس التعبير. نقرأ: “قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرَحِم قدَّستك”(14). تُستخدَم الكلمة العِبريَّة بصيغتها (yaw-tsar’)، التي تُرجمَت إلى الفعل يُصوِّر، في العديد من الآيات، التي تَدُل على الصُّنْع الإلهيّ أو البشريّ للعالَم والأشياء، بما في ذلك الفَخَّار. والتصوير في الأرْحَام هو البناء والتشكيل والخَلْق وجعل الإنسان في صُورَة مُعيَّنة.
ونرى استعمالًا آخر في هذه النَّظْرة للإلَه في الأدب العِبريّ، حين يجعل يدا “يهوه” -مجازياً/حرفياً- هما من كوَّنا الإنسان(15)، فالآلهة لا تَخلِق فحسب، بل تستخدم يديها ومشاعرها في إنجازها للمُهِمَّة، مما يمنح الخَلْق بُعدًا فنّيًّا وحِرفيًّا مُحمَّلًا بالعواطف، وليس فقط أنثروبوجونيًّا.
الإلَه الذي يَرْسُم ويَعْزِف
إنّ هذه النَزْعة الجَمَاليَّة لا نلمسها فقط في خَلْق الإنسان، وإنّما تتجلَّى بشكلٍ واضح أكثر في خَلْق العالَم، هذا العالَم الذي يبدو للبعض مثل لَوْحَة فنّيَّة، قامت بإنجازها آلهة أو عقل أعظم.
إنّ عِدَّة نصوص كوسموغونية وأدبيَّات دينيّةَ وشعريَّة، تَصِف الإلَه وهو يَخلِق العالَم، بمنظوراتٍ ساحرة؛ مِثل فَنَّان يَرْسُم الشمس والقمر، ويُسقِط الضِياء على العالَم، ويجعل الطبيعة مُخضَّرة وينثر عليها الألوان، ليس بالأسلوب الشعريّ، بل حتى الحِرفيّ.
نجد في النصوص المسماريَّة الأكدية، كلمات تُذكَر لوصف وسرد عمليات خَلْق الله للكون، مثل كلمة “إصرو” (16)، وهي تُقابِل كلمة “صوَّر”، ومعناها رسم، أو كلمات أخرى تُحيل إلى البناء والتلميع والتزيين. ولا يتوقَّف الموضوع هنا، فالإلَه يتفاخر بصُنعه للأشياء، مثل ما نكتشفه في نص خَلِق الفأس، الذي أمعَن الإلَه الرافدي إنليل النَّظر فيه؛ مَزهُوًّا به، ووصِفت أجزائه المصنوعة من الذهب واللازورد والفضة(17).
أما في إحدى الأساطير، فإن الإلَه إنليل يَرْسُم صُورَة في السماء على شكل تنين. يذهب بعض الباحثين إلى القول: إنّه تشكيل لمَجَرَّة درب التبانة(18). يقول عالِم الآشوريات جورج كونتينو: “إنّ الإلَه الخَالِق يعرف ذهنيًا الطبيعة، التي ستكون لخلقه، حين يكون الشكل النهائي في خياله ويكون قد منحه اسمًا، يرسم شكله، وهكذا يكتسب حياة كاملة تقريبًا”(19).
أضف إلى ذلك أنَّ الآلهة في المُعتقدَات التعدُّديَّة (polytheisme) تُوكَل إليها مَهَام تتقاسمها فيما بينها، بالتالي نجد الآلهة المُختصَّة بالفُنُون، من إلَه الموسيقى، والشعر، والصُّنع والغناء، الإلَه إنكي رَبّ الفُنُون والحِرف في بلاد الرافدين مع الآلهة الصغيرة للفُنُون، والإلَه كوثر حاسيس في أوغاريت، وأوزير وإيزيس مع تحوت في مِصر القديمة.
تعترف الآلهة في بعض الأساطير والمُعتقدَات، فيما تُصَدره لنا من سِيَرٍ إلهيَّة، حول تعليمها البشر الغناء ونقل المُقدِرة الخَلاقَة إليهم. فالموسيات رَبَّات الفُنُون، تُلهِمن الشعراء(20)، وأثينا إلهة الفُنًون والحكمة، علّّمت أهل جزيرة رودس صناعة التماثيل مع زوجها هيفايستوس، الذي نقل مقاليد الحِرف والفُنُون إلى البشر، الذين عاشوا في الكهوف من دون معرفة أي شيء يخصها (21). إلى جانب اختراع الآلهة الآلات الموسيقية؛ فعلى سبيل المثال صنع الإلَه هرمس أوَّل قيثارة وهو لا يزال طفلًا رضيعًا مع الإلَه “بان” صانع المزمار(22)، فالفنّ الإلهيّ هنا والمهارة، وليس البشريّ، ليس فنَّا محاكاتيًا، وإنّما صنيعة أوَّليَّة خَلاقَة، تجعل من تكوين الإنسان الحَسَن والكون إطارًا ذات أبعاد جميلة، بالإضافة إلى الفُنُون الصُغْرَى المُتعلِقة بالموسيقى والحِرف التي تُجيدها الآلهة.
الإلَه وجَمَال صَنَائِعه
يَزعُم بعض العلماء والفلاسفة، مثل عالِم الفيزياء النَّظَريَّة جورج ستانسيو، وروبرت أغروس، المُتخصِّص في فلسفة العلم، في كتاب “العلم مِن منظورهِ الجديدِ -وهو يُعتبَر عملًا قديمًا مقارنةً بـ يومنا- أنَّ هناك أشياء في الطبيعة لا يُمكن للعلم ودَعَاويه تفسيرها، فإذا كان كل شيء مُنقاد وراء الضَّرُورة والصُّدْفة أو آليَّة غريزيَّة ما، فإنّنا نعثُر على أشياءٍ لا يًمكن لمثل هذه المفاهيم تبرير وجودها، مِثل جَمَال الطبيعة: ورق الشجر، ونُدَف الثَّلج بأشكالها الهندسية الجذابة، والنبات، وما شابه ذلك.
ويضربان مِثالًا في كتابهما حول خَنْجَر أنيق، فإذا كانت الضَّرُورة تجعل لهذه الأداة نَصْل ومَقْبِض حتى يُمسَك، فإنّ الزَخْرَفات على معدنه ومَقْبَضه، والجواهر المُزيَّن بها، ليس لها عَلاقة بالضَّرُورة ومُهِمَّته الأسَاسِيَّة، بالتالي هذا يَدلنا على أنّ هناك فَنَّانًا قام بتزيينه بإرادته ورؤيته وحِسِّه. هذا المِثال ينطبق على الطبيعة أيضًا، فالكثير من مظاهر الطبيعة تبدو مُتناسقة وخَلَّابة، من غير أن تتقيَّد بوظيفة أو دَوْر مُعيَّن تُحَتّمه الضَّرُورة.
ولا يدل الأمر هنا، في نظر هذين الباحثين والكثير ممن يحملون نفس الأفكار، إلَّا على وجود إلَه فَنَان يقوم بتجميل عالَمه، لكن فيلسوف الإلحاد فيورباخ، يَرُدّ على مِثل هذا الكلام قبل أكثر من مئة سنة، فيدَّعي أنّ هذه الخصائص الجميلة مجرد حماية للصفات الوراثيَّة(23).
يَخلُص فيورباخ إلى أنّ كل صفات الإلَه وسيرته منذ ما قبل الزمن، مجرد إسْقَاطات لحالات الإنسان وصفاته عليه، أو فقدانه لصفات مُعيَّنة يتخيَّلها، فالإنسان يتخيَّل الإلَه على أنّه فَنَّانٌ، لأنّه فَنَّانٌ، ويتخيَّله قويًّا، لأنه ضعيفٌ.
يتمثَّل كلّ هذا الإسْقَاط عند فيورباخ في الجوهر الأنثروبولوجيّ، فمعرفة الإلَه هي معرفة الإنسان نفسه، لأنّ الإلَه هو الإنسان، وفيورباخ يجعل الدين في الأصل يَعبُد البشر، لأن كلّ أفكار الآلهة ومشاعرها وقُدُراتها، هي في الأساس موجودة فينا، وكيفما كان الإنسان يكون إلهه مثله.
وقبل فيورباخ، رأى الإغريقيّ أنطيفون، أنّ الطبيعة جاءت عن طريق مفهوم المُصَادفة الطّبيعيَّة وليس الفَنّ(24)، فلا وجود لإرادة إلهيَّة تُحْدِث كونًا مُتناغِمًا، ولا لقوَّة رُوحيَّة وعقل واعٍ خلقها. أما الآلهة ومفاهيمها عند الإنسان، كما يَظنّ أنطيفون، فهي التي جاءت عن طريق الفَنّ(25).
وختامًا تتَضَارَب آراء الأشخاص في كلِّ ما سبق، بين مؤمن بالآلهة وغير مؤمن، إلا أنّ أهم فكرة يجدر بنا إدراكها، هو أنّ الإلَه حَاضِرٌ دومًا، سواء تجلَّى ذلك في الأفكار النَّظَريَّة، المُجرَّدة والعلميَّة، أم داخل الحِكَايَات، والمَنظومة الأخلاقيَّة والمُتخيّلة للإنسان، فالعديد من الفلاسفة والشعراء والبسطاء لا يزالون يرون الإلَه فَنَّانًا كبيرًا.
———————————————–
مراجع: 1- روبرت م.أغروس، جورج ن. ستانسيو،العلم في منظوره الجديد، ترجمة: كمال خلايلي (سلسلةعالم المعرفة، الكويت، عدد 134، 1989) ص77، 78. العنوان الأصلي: the New Story Of Science 2- تزفيتان تودوروف، الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي (دار توبقال للنشر،المغرب، 2007) ص 24 3- براين مورلي، المفاهيم الغربية عن الله، ترجمة وتعليق:محمد سيد سلامة (مركز نماء للبحوث والدراسات،بيروت، 2018) انظر إلى الهوامش، ص 37. 4- المرجع نفسه، ص 37. 5- المرجع نفسه، ص 37. 6- المرجع نفسه، ص 26. 7- رمضان الصباغ،الأحكام التقويمية في الجمال والأخلاق (دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر،الإسكندرية،1998) ص 133 لم تكن أفكار الفيثاغورثيين رغم ذلك عن الآلهة أفكار واضحة أو مشخصة لأنّهم قدّسوا الأعداد واعتبروها الأصل. 8- توجد عدّة نصوص مسمارية تتضمن خلق الإنسان، مثل ما يوجد في الإنوما ايليش وطوفان اتراحسيس أو أسطورة ننكي وننماخ التي تختص بخلق البشر وغيرها. انظر: - ديوان الأساطير، سومر وأكد وآشور، الكتاب الثاني: الآلهة والبشر، نقله إلى العربية وعلق عليه: قاسم الشواف، قدم له وأشرف عليه: أدونيس (دار الساقي،بيروت، 1997) ص 98، 186، 240. - ديوان الأساطير، سومر وأكد وآشور، الكتاب الأول، مرجع سابق، ص 65. 9- فيما يخص كلمة مصنع الأجساد، انظر: الجزء الثاني من ديوان الأساطير، ص93، 97. 10- انظر: ملحمة جلجامش، الوراق، طه باقر ص 91. 11- انظر: روبرت آرموار، آلهة مصر القديمة وأساطيرها، ترجمة: مروة الفقي (المجلس الأعلى للثقافة،المشروع القومي للترجمة،القاهرة، 2005) ص 49 12- انظر: مونيس بخضرة، العقل المؤنث في تاريخ الفلسفة: قراءة في فلسفة إمام عبد الفتاح إمام النسوية (مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، المغرب، 2020) ص 13 13- انظر: عيسى الشماس، مدخل إلى علم الانسان "الأنثروبولوجيا" (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2004) ص 101 14- سفر إرميا [1:5] انظر إلى الآية https://biblehub.com/interlinear/jeremiah/1-5.htm انظر إلى الكلمة الأصلية وأين وردت حيث استعملت بعدة صيغ (الصانع، المصوّر، الفخاري، الجابل، يجبل، يصوّر) : https://biblehub.com/hebrew/3335.htm 15- انظر: سفر أيوب [8: 10] 16- انظر: كلمتي: قصارو، شوفو: - ديوان الأساطير، سومر وأكد وآشور، الجزء الثاني،مرجع سابق، ص 109, 110. 17- انظر: المرجع نفسه، ص 97. 18- The Babylonian Genesis, The University Of Chicago Press, Alexander Heidel, p.142. للاطلاع على الأسطورة في كتب أخرى ينظر: - ديوان الأساطير، سومر وأكد وآشور، الجزء الثالث،مرجع سابق، ص 231، 232. - أسامة عدنان، الآلهة في رؤية الإنسان العراقي القديم، دراسة في الأساطير (اشوربانيبال، بغداد، 2005) ص 196. 19- غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبويّ، ترجمة: أسامة إسبر (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2013) ص 292. 20- أحمد عتمان، الشعر الاغريقي تراثًا إنسانيًا وعالميًا (عالم المعرفة، الكويت، عدد 77، 1984) ص 59. 21- عبد المعطي شعراوي،أساطير إغريقية، الجزء الثالث (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2005) انظر أسطورة أثينا، 253. انظر هيفايستوس ص:473. انظر أيضا:
- عصام حسن الزعبي، الأساطير الأوغاريتية في الألف الثاني قبل الميلاد دراسة وتحليل، رسالة دكتوراغير منشورة (كلية الآداب والعلوم الإنسانية،جامعة دمشق، قسم التاريخ، 2014) ص 46. 22- عبد المعطي شعراوي،أساطير إغريقية، الجزء الثاني (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1995) انظر أسطورة هرمس، ص 476، 473. وأسطورة بان، ص 615، 620. - عبد المعطي شعرواي، أساطير إغريقية، الجزء الثالث، مرجع سابق،انظر أبولو،ص 351، 361. 23- فيورباخ،أصل الدين، دراسة وترجمة: أحمد عبد الحليم عطية (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،بيروت، 1991) ص 102. - لودفيغ فيورباخ، جوهر المسيحية، ترجمة: جورج برشين ( دار الرافدين، بيروت، 2016) 24- شرف الدين عبد الحميد، الفيلسوف اليوناني أنطيفون: الدّين والطّبيعة(مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 21 يوليو، 2017) 25- المرجع نفسه