الإسلاموية: المعنى والتاريخ والأيدولوجيات السياسية
الإسلاموية قـد تعـرف أيضـًا بالإسـلام السياسي، هي مجـموعة واسـعـة مـن الأيديولوجيات السياسية التي تأخذ إلهامها من الرموز والتقـاليد الإسلامية سعيًا لتحقيق هدف اجتماعي سياسي. تختلف أهداف وغايات هـذه الحركات اختـلافًا واسعًا، وكذلك تفسيراتها للتقاليد والممارسات الإسلامية، وعلى هذا النحو فإن النطاق الدقيق لتعريف هذا المصطلح يبقى محل شك.
من بين المجموعات العديدة والمتباينة التي تعتبر إسلاموية يوجد حركات إصلاحية كالإخوان المسلمين، كما يوجد حركات جهادية عابرة للحدود كتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، ويتم تطبيق هذا المصطلح أحيانًا على نظام ولاية الفقيه الإيراني الذي نشأ عقب الثورة الإيرانية وعلى سلالة سعود الحاكمة التي تعد استمرارًا للوهابية في المملكة العربية السعودية، وعلى طالبان في أفغانستان، وعلى الرغم من أن ما ذكر عادةً ما يعتبر حركة أصولية مختلفة تمامًا.
خلفية تاريخية وقاعدة نظرية
على الرغم من أن العـديد من المنظّـرين الإسلامويين اعتمـدوا على أعمال لاهوتيين قدماء كابن تيمية، إلا أن الأسس النظرية التي قامت عليها الحـركات الإسلاموية تجـذرت في أواخر القرن التاسع عشر، وهي فترة تحوّل تصارع فيها العالـم الإسلامي مع الانخـراط المتزايد في الحداثة والتنوير من جهة وانحدر في وجه الاستعمار الغربي من جهة أخرى. تصاحبت هذه الفترة مع توسع تقنية الطبـاعة وازدياد محـو الأمية، هذا ما سهّـل انتشار الأفكـار الجديدة وقـدّم وصولًا أعظم للمواد الإسلامية، وخصوصًا القرآن، وقوّضت القدرة المتزايـدة للعامـة على قراءة القرآن سلطة علماء الدين باعتبارهم حراس بوابة التفسير، ومكّنت غيـر المتخصصين من الانخراط في تفسيراتهم الفردية للقرآن ما أدى بدوره إلى زيادة الفهم الحرفي له، أي الاجتهاد.
حاول المفكرون الحداثيـون التوفـيق بين الاضمحـلال في العالـم الإسلامـي (الذي كان رائـدًا في الإنجاز العلمي والسعي الفكري سابقًا) مع نجاح الغـرب.، جادل جمـال الديـن الأفغـاني -الذي ربما يعتبر أكثر شخصية مؤثـرة في زمانه- بأن العقـلانية التي كانت سائـدة في أوروبـا آنـذاك تكمن أيضًا في جوهر الإسلام النقي، الجوهر الذي حمّل البشرية مسؤولية إدارة العالم المخلوق هذا باستخدام المنطق والعقل.
وضع تلميذه محمد عبده الكثـير من أفكاره في حيز التطبـيق، مما أدى إلى نشوء حركـة فكـرية لإحداث إصلاحات في المؤسسات الإسلامية، وقد سـاوى بين الإسـلام والحداثـة إلى درجـة أن تلاميـذه كانـوا قادرين على أن يقدمـوا ميزات متباينة في أعمالهم الخاصة، وبعض أتباعـه كأحمـد لطفي السيد مثلًا قد طوّر أفكـاره إلى أيديولوجيات علمانية فعّالة من خلال تسليط الضوء على حججه الحداثية، وأكد آخرون مثل رشيد رضا على الحاجة إلى العودة لجوهـر الإسـلام النقـي من أجل تجديد المجتمع الإسلامي والتنفيذ المثالي لممارسات السلف.
وقد جرى تطور موازٍ بين مثقّفي الهند المسلمين في فترة الراج البريطاني، فقد أظهر عمل سيد أحمد خان توافق الإسلام مع العقـلانية والعلـم الحديـث، وسعى محمد إقبال بنشاط إلى تطبيـق الإصلاح في المجتمع الإسلامي، أما أبو الأعلى المودودي فقد أعطى الأولوية للعـودة إلى شكـل مثالي للإسلام، وصاغ نظرية سياسية متـينة للحكـومة الإسـلامية في شبه القارة الهندية (تركز بشكل خاص على باكستان بعد التقسيم).
الحركات السياسية الاجتماعية المحلية
بينما كانت هذه الأفكار الإصلاحية تتغلغل في الخطاب العام للهروب من الانحـلال والاستعـمار، تلقّت الحركات الإسلاموية المنظمة لحظة فاصلة في تاريخها عند تأسيس الإخوان المسلمين عام 1928 من قبل حسن البنا في مصر، متأثرةً بفكرة أن الإسلام يدعـم الحداثـة و الازدهـار، وبنَت المنظمة شبكات شعبية في جميع أنحاء مصر لتعزيز الرفاهية الاجتماعـية والتنمية والتعليم في التجمهرات التي فشلت الحكومة المصـرية المستقلة حديثًـا في الوصول إليها، وعلى الرغم من أن التنظيم لم يدخل المجال السياسي في البداية إلا أنه سرعان ما تحول إلى وسيلة للتعبئة الشعبية ضد حزب الوفد الحاكم والملك فاروق الأول والتأثير البريطاني في مصر.
في هذه الأثناء في الهند، وبينما ضغطت رابطة مسلمي الهند من أجل إنشاء دولة علمانية ذات أغلبية مسلمة فيما يعرف الآن بباكستان، فقد قاوم المودودي وأتباعه ذلك، فوفقًا للمودودي فإن دور أي دولة في العالم هو تطبيق سيادة الله وشريعته وبالتالي تحقـيق مجتمع يوتوبي، وبذلك فقط يمكن للمسلمين العـودة لازدهـارهم السابق. إن الدولة العلـمانية حتى لو كانت تحـت سيطرة إسلامية ستقوض بشكل غير ملائـم هذا النظام من الكمال، وستعيد المجتمع حتمًا إلى حالة من الإهمال والانحلال كالجاهليـة. على هذا النحو أسس المودودي الجماعة الإسلامية عام 1941 لتكون طليعة لنظام سياسي إسلامي ضد نجاحات رابطة مسلمي الهند، وعلى الرغـم مـن أن الإخـوان المسلمـين كانوا أكثر شعـبـيةً وبُعـدًا عن السيـاسة في نشأتهـم من المثالية السياسية للجماعة الإسلامية في الهند إلا أن أعضاءهم احتضنـوا ثنائيـة المـودودي بين أولئك الذين أيدوا الحاكمية وأولئك الذين علقوا في الجاهلية.
وبعد تعاون الإخوان مع جمال عبد الناصر وحركة الضباط الأحرار لإحداث ثورة مصـر عام 1952 اختلفوا مع النظام الجديد، مما أدى إلى دورة من القمع والعنف، وقُدمت التبـريرات الأيديولوجية للعنف فيما بعد من قبل سيد قطب، الذي ناصر فكرة أن الكثير من المجتمع المسلم كان اسميًا فقط، وأن هؤلاء المسلمين الذين وقفوا في طريق سيادة الله هـم أهداف مشروعة أيضًا لجهاد السيف، وتم نبـذ العنـف من قبل الإخوان في السبعينيات لكن تصوّر سيد قطب للجهـاد كان ذو أثر في الحركات الإسلاموية العابرة للحدود.
انتشرت الحركات الإسلاموية في العالم العربي بعد أن خاب أمل العديد من العرب بفشل القومية العربية في تحقيق الازدهار وكانوا يبحثون عن بديل أيديولوجي، فنمت فروع للإخوان المسلمين في جميـع أنحاء الشـرق الأوسط، بما في ذلك سوريا والأردن والعراق والسودان والأراضي الفلسطينية، وأُسست حركة مشابهة في تونـس من قِـبل رشيد الغنوشي وعبد الفتاح مورو سُميت بالنهضة، امتلكت هذه المجموعات سمات مشتركة فيما بينها أهمها قبولهـم للدولة القومية القائمة، واستعـدادهم العام للمشاركة في الإطار القانوني القائم، والتفاني في المبادئ الديمقراطية، وقبولهم بمجتمع تعددي يضم غير المسلمين.
حملت مجموعات أيديولوجية أخرى السلاح في بيئات ذات استقرار سياسي أقل، فقد تشكّل حزب الله عام 1982 خلال حرب لبنان الأهلية وبقي الميليشيا الأقوى في البلاد فيما بعد، بينما انبثقت حماس من الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين عام 1987 وسط الانتفـاضة الفلسطينـية الأولى، وفي التسعـينيات بعـد أن قامت الحكـومة الجـزائـرية بقمع جبهـة الإنقـاذ الإسلامـية التي فـازت بأغلبية الانتخابات المحلية والوطنية حملت عدة مجموعات منشقة السلاح في الحرب الأهلية في البلاد، وعلى الرغم من الطبيعة المسلحة لهذه الجماعات بقي استخدامها للقـوة محصورًا في سياقاتها المحلية، لكن مع صياغة خطابهم بمصطلحات التحرر الوطني بدلًا من عرض أصولية إسلامية شوفينية.
الحركات الجهادية العابرة للحدود
وحيث أن فترة التقارب بين الإخوان المسلمين والحكومة المصرية تحت رئاسة أنور السادات دفعتهم إلى نبذ العنف، فقد بقي أولئك الإسلامويين المتعاطفين مع أفكار قطب غير راضين عن سياسات الحكومة، وتم تشكيل مجموعات صغيرة عدة عبر البلاد دعت إلى الإطاحة المتشددة لها، واندمجت العـديد من هذه المجموعات في تنظيم الجهـاد الإسلامي في مصر، الذي عمم رئيسه محمد عبد السلام فرج مكتوبًا في عام 1981 بعنوان الفريضـة الغائـبة، مشيرًا إلى جهـاد السيف عند قطب، وبنفس العام اتهم فرج وأربعة أعضاء آخرين من التنظيم باغتيال السادات.
في غضون ذلك اندلعت الحرب الأفغانية (1978-92) بين الحكـومة الشيوعية الأفغـانية التي لم تكن تحظـى بشعبـية وبين المجاهـدين الذين كانوا عبارة عن مجموعات منفصلـة من مقاتـلي العصابات، واستمدوا إلهامهم من الإسلام كعامل موحد لهم، وقدم الآلاف من المسلمين حول العالم لينضموا لهـذا القتـال، والعديد منهـم كان منخـرطًا مسبقًا في حركات إسلاموية، كعضو تنظيم الجهاد في مصر أيمن الظواهري.
تشكـلت شبكـة لتنـظيم المقاتـلين الأجـانب برعـاية أسامـة بـن لادن سُميت بالقاعدة، أصبح الظواهري قائدًا مهمًا فيها خصوصًا بعد موت بن لادن في 2011، مع استمرار دعم الحكومة من قبل السوفييت، خلص العديد من الإسلامويين إلى أن الجهاد ضد الحومات الوطنية لا يمكن أن ينجح إلا باستهداف القوى العالمية التي تدعمهم أولًا، وبعـد انسحاب السوفييت وإسقاط الحكومة الأفغانية خاض تنظيم القاعدة الجهاد العابر للحدود في التسعينيات.
في العقود اللاحقة جذبت فكرة الجهاد العابر للحدود بعض المجموعات الإسلاموية الموجودة، كتنظيم الجهاد في مصر، وقد ألهمت تشكيل خلايا إرهـابية صغـيرة في أنحاء العـالم، غالبًـا ما كانوا يعملـون تحت اسـم “القاعـدة”، بما في ذلـك تنظيم القاعدة في العراق وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، لكن اتصالاتهم التنظيمية كانت ضئيلة إلى حدٍ كبير إن لم تكن معزولة، وهكذا كان باستطاعة تنظـيم الدولة الإسلامية في العراق والشام تجاهل قائد تنظيم القاعـدة في 2014 والعمـل بشكـل مستقل، وبالمثل فإن العـديد من الأفـراد الذين نفّذوا هجمات تحت اسم تنظيم الدولة كان لهـم اتصالات قلـيلة معهم والبعض لم يكن يملك أي اتصال بالتنظيم على الإطلاق.
ومن الجماعات الأخرى التي تدّعي الانتماء لتنظيم القاعدة وتنظـيم الدولـة حركة الشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا، أما بالنسبة لطالبان في أفغانستان فبالرغم من اعتمـادهـا المبكر على القاعدة في تمويلهم، وعلاقاتها المستمرة معهم ومع الجماعات الأخرى التي تملك فكرًا مماثلًا، فهي لم تتبنى أيديولوجية الجهاد العابر للحدود مثلهم.
ما بعد الإسلاموية
كما رأينا التحولات الفكرية في بعض التنظيمات الإسلاموية الموصوفة سابقًا، فإن هذه الحركات الإسلاموية عادةً ما تكون ديناميكية، تستجيب وتتأقلم مع حالتها الراهنة، وفي كثيرٍ من الحالات جاءت الحركات المتجذرة في الإسلاموية لتعطي أولوية للحداثة والتطور على الهوية الإسلامـية، هذا التحول الذي كان واضحًا في أنشطتهم وخطاباتهم، فعلى سبيل المثال عمل حـزب النهضة التونسي بشكل عملي مع العلمانيين في أعقاب الثورة التونسية 2011، وفي 2016 أعلن الحزب رسميًا أنه سيركـز أنشطتـه على ضمان ديمقراطية مستقـرة في تونـس وأنه لن يشارك بعد الآن في بناء أو تعبئة المؤسسات الإسلامية، فقد قال قادة الحـزب أن دعمهـم لهـذه المؤسسات لـم يعـد ضروريًا، نظرًا لقدرة المؤسسات والأفـراد المتدينين على القـيام بممارساتهـم بحرية تحت ظل الحكومة التونسية الجديدة.
حدث تحول مماثل في تركيا، فانبثق حزب العـدالة والتنمية من حزب الرفاه الذي قد تم حظره عام 1998، على الرغـم من أن عضويته تضمنت أعـضاء سابقين في حـزب الرفـاه، واستمر الحـزب في الضغـط لأجل إلغـاء العلمنة -إلغاء قانـون حظر الحجاب في الأماكن العامة مثالًا-، وكان الحزب الجديد لا طائفيًا ومتحررًا، واستطاع أن يصعد إلى السلطة عام 2002، وسعى بدايةً إلى دعم العلّامة الإسلامي فتح الله غولن وحركته ضد العلمانيين والمتطرفين، وفي 2010 بدأ حزب العدالة والتنمية استخدام سلطته لقمع حركة غولن، وبنهاية العقد أصبح الحزب أكثر بروزًا بسبب سياساته الاقتصادية وخطابه القومي أكثر منه لمواقفه الاجتماعية، حتى أنه شكّل تحالـفًا مع حزب متطرف في انتخابات 2018.
المصدر