إضاءات حول كتاب دفاعًا عن الجنون لممدوح عدوان

عندما تحطّم العقلانية زجاج نفسها لتتكسر هائمة في فضاء من الجنون والرأي والانفعال. يستهّل ممدوح عدوان كتابه دفاعًا عن الجنون بمقدمة مفادها:
طوبى طوبى للبطن الرافض حملًا كي لا يبقر طوبى للعاقر لم تنجب طفلًا يذبح فوق الركبة طوبى للثدي الناضب لم يرضع طفلًا يغتصب الأُخوَّة كي يفخر طوبى للميت في سنوات الجوع فلم يقتله أخ مغلول الرقبة ولنا طوبى… ولمن أتقن أن يتوازن في المشي وكان العالم مقلوبًا.
يحملنا ممدوح عدوان معه في رحلة شاقة تتموج تفاصيلها بين الرأي والانفعال، بين الكلمة المشوبة بالشعر والفن والحس الطليق أمام إفراغ العقل من مكنونه المعرفي، واتزانه غير اللائق بمحيط يضج بالقلق والتوتر والكوارث. ويقلب الكاتب المفاهيم بصياغة عصبية شديدة الحساسية، موجهًا الوعي العام نحو الغاية النهائية لكل فرد ومجموعة. حيث لابدّ من سبب وجيه يفجر زنبقة النار في قلوب تتعطّش للنهاية، ولابد للجنون أن يفصح عن الحقيقة التي لابد أن تجرّد النفس من اعتدالها ومكوثها الطويل في قمقم العرف والعادة والانسياق.

إذن، ما يحاول الكاتب افتعاله من حقيقة هو خلق شفيف للنقيض الذي يشكّل الجانب الآخر من السكون المتبلد. خلق حر لفضاء يتمثل بالتحرر والتجرد من القوالب والاستغراق عميقًا في دهاليز الجنون التي يمكن أن نصنع من طينها صلصال المعرفة والفن والإبداع.
يذهب الكاتب عميقًا بنا إلى غاب كثيف الرؤى والتأويل، حيث يصر على أنّ شيئًا من الجنون الرائع مكتنز بشكل مخيف بداخل كل فنان حقيقي، ولابدّ لهذا الجنون أن يتفجّر إذا ما عاش هذا الفنان عيشة مُرّة حقيرة وإذا ما أجبر على الوجود في الزمان والمكان الخطأ. وكلما ازدادت سعة اللا انتماء لدى الفنان نقصت عنده الرغبة بالاحتكاك الواقعي و تضاعفت لديه نار الجنون منبثقة من أبعاده جميعها معبرة عن صراخها بالرأي والانفعال.
وقد كان جليًا أن نرى وبوضوح القيمة الفنية التي جعلها الكاتب محور حديثه عندما تحدّث ضمن مؤلفه عن الفنان لؤي الكيالي، مصرحًا بأنه يريد الاحتفال حقيقة بمجنون وفنان حقيقي اسمه لؤي الكيالي.
إعلان
لؤي الذي كان مجنونًا لمدة سبعة أعوام متتالية، وهذا ما اعتبره ممدوح عدوان هبة تضج باللامحدود بحيث لا يمكن لأحد أن يعتبر هذا حالة عصابية أو نفسية بالقدر الذي يمكنه من اعتباره حالة فريدة، يحتويها فنان فريد من نوعه يترجمها في أعماله و صياغاته الفنية ورسوماته المبهرة.
لقد تأثًر لؤي الكيالي جدًا بالواقع آنذاك، فعندما بدأ يكتشف الحياة جيدًا من حوله، حياة مليئة بالفقر والتشرد واليأس والدماء، شعر وكأنه استيقظ فجأة ليرى صباحاته كلها قد تحوّلت إلى جحيم دنيوي، فلم يستطع عندها تقبّل ما يجري مسلمًا روحه للجنون والذهاب بعيدًا أبعد بكثير من عمر الأرض و بؤسها. وبحسب ممدوح عدوان حال لؤي الكيالي حال الكثير من الطاقات الحيويه الشبابية المهدورة في عالمنا العربي خصوصًا، التي لا تستطيع النفاذ من ستائر الممكن نحو مقارعة المستحيل على مسرح يسمى الواقع المر.
مات لؤي كيالي محترقًا بالنار نفسها التي اشتعلت بداخله منذ سنين، التهمت روحه قبل جسده مُعلنًا عن نفسه بأنه المجنون الحقيقي الذي لابد للعالم أن يحتفل به.
وينقلنا ممدوح عدوان إلى رتبة أعلى من حالات الجنون التي لابد أن يتأملها جيدًا كل شغوف بالمعرفة والحكمة ألا وهي كيف نصنع قارئًا حقيقًا، لا كيف نصنع أديبًا أو شاعرًا أو مفكرًا.
ولابد للكتابة أن تحضر هنا من باب النار التي لا تنطفئ، ولابد للأدب ألا يعير المحيط انتباها حين يصبّ نفسه على عتبات الأرواح متلمسًا الغواية و الرواية و القافية البعيدة، أن تصنع قارئًا هذا يعني ألّا تسمح للضغط الواقعي المحيط بك أن يؤثر ولو للحظة على ما تقوم به من جنون وإبداع بحق قارئك مهما كان مستواه المعرفي، أن تنظر إلى نفسك ثم تمزّقها كلها على أوراقك التي تصرخ أمامك، لا تحاول تعديل الرؤى ألقها للقارئ ولا تقل له شيئًا وانتظر يومًا أن يولد قارئ نهم يشاركك الجنون والسحر.
يستطرد ممدوح عدوان آنفًا بإصراره الشديد على الحاجة الماسة لخلق الشعر من أبوابه جميعها بما أننا نعيش في عصر يضجّ بالكوارث والأزمات والحروب والخيانات، فنحن بحاجة إلى الشعر كوسيط روحي يقلم الأيام والأحوال، ويسقينا لازورد الحقيقة حتى لو كانت إلهاء روحيًا أو نفورًا أو شعوذة تخرج النفس عن إطارها الزمكاني. ثم لا بدّ للحب أن يغلف كل هذا، ولا بدّ للأنثى أن تحضر بسكينتها، ولابدّ للذكر أن يلقي بنشاطه كله لتتآلف هذه الثنائية الفريدة خالقة جنونًا فنيًا وحالة شعرية فريدة من نوعها.
يسهب ممدوح عدوان في دفاعه عن الجنون بدفاعه عن جنون الأدب و صياغاته اللامحسوسة، خارج حدود المألوف والاعتيادي وتغليفه بالتجربة الإنسانية التي تعري كلا الطرفين الخائضين لهذه التجربة وهو عري يستثير الروح ويفجرها و يصنع من الحكمة جنونًا وأدبًا.
ويقدّم لنا اعترافًا جليًا حول عدم شهادته الكافية بالعدوان والاعتداء الغاشم الذي كان ينفّذه جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الجولان السوري، ومناطق في لبنان وفلسطين إلّا أنه ينطلق من شهادة أكثر أهمية ومن منطلق إنساني حول الكوارث التي كانت تحصل ولا تخفى على كائن من كان بفعل قوات الاحتلال وعملائها في المنطقة، حيث قال هنا «لقد رأيت شعبي يقتل بطرق عديدة، يقتل بهدوء وصمت».
ويقارن بعدها ما يسمى العالم الحر متمثلًا بالغرب جميعًا وبين العالم المأسور المكبوت تحت وطأة الاحتلال وتصرفاته غير الإنسانية التي كانت تهدف في كل لحظة إلى كبح جماح الأرواح التي تتوق إلى الحرية والجنون الحقيقي في واقع أحوج ما يكون لهم ولإبداعهم ككل.
يحاول عدوان استثارة الضمير الإنساني من خلال هذا الاعتراف الذي ربما خرج به قليلًا عن سياق الجدل القائم حول ماهية دفاعه عن الجنون وتأكيده أنه لابدّ من الجنون حلًا.
وأخيرًا ومن خلال هذه المقتطفات المبسطة حول كتاب «دفاعًا عن الجنون» نستطيع القول أن محاولات عدوان باستشفافه ذاته الأخرى كانت شرارة أولى انطلق بها مسهبًا في حديثه ورأيه وانفعاله حول قضية الجنون وأبعداه الروحية منطلقًا من تجاربه الفردية وشهاداته على الوقائع والأحداث وصيرورات الأدب على مدى عقود.
كانت محاولاته ليست فقط بالدفاع عن الجنون إنما بالحفاظ على حلم خُلِقَ عظيمًا واضمحل بمرور الزمن وتعاقب الأزمات، محاولات لوقف النزيف بالجنون، دفاعًا عن الجنون هو حق الذين تعذبوا حتى استنفذت أرواحهم وغارت قلوبهم في حنايا الهزيمة واليأس والألم.
نرشح لك: قراءة في كتاب الجنون في الحضارة
إعلان