كيف يتم خداعنا؟
نتعرّض يوميًا، نحن البشر، لكمّية خداع كبيرة من من السياسيين والإعلاميين في الدعاية والإعلام، وحتى على مستوى الحياة اليومية نتعرّض لأساليب تدفعنا لقرارات غير عقلانية من قِبَل مندوبي المبيعات وعروض السوبرماركت وغيرها.
ولكي نعرف كيف يتمّ خداعنا، يجب أولًا أن نفهم أنفسنا. ونجد أنّ الأمر يتوقّف على جانب نفسي وعقلي، فتعالوا لنقترب من المشكلة أكثر.
خيالات:
يشرح أوليفر ساكس في كتابه الشهير «الرجُل الذي حسب زوجته قبعة» حالات من المرض النفسي، وهو يحاول من خلالها أن يفهم الأشخاص الأصحّاء. أحد الحالات التي يعرضها علينا هو مرض الخيال، والخيال بالمعنى الذي يستخدمه علماء الأعصاب هو صورة أو ذكرى لجزء من الجسم (أحد الأطراف عادة) تدوم لشهور أو سنوات بعد فقد الطَّرَف.
عُرفت الخيالات من خلال عالِم الأعصاب الأمريكي سيلاس وير ميشل. يذكر ساكس، من بين بعض الحالات من قسم «تحفة سريرية» في المجلة الطبية البريطانية، قِصّة البحار الذي قَطعَ دون قصد سبّابته اليُمنى وبقي لأربعين عامًا بعد ذلك مُبتلىً بخيال الإصبع. كلّ مرّة كان يحرّك فيها يده نحو وجهه ليأكل أو يحكّ أنفه كان يخشى أنّ هذه الإصبع الخياليّة ستنخس عينَه.
بل الأكثر من ذلك كما في حالة وصفها الطبيب وهي لرجل بترت ساقه عند أعلى الركبة . يقول الرجل أن القدم الشبحية التي يتخيلها تؤلمه أحيانا إلى حد لا يطاق . حيث تلتف الأصابع أو تتشنج وأسوأ مايكون هذا بالليل أو حين تكون الساق البديلة منزوعة . ووصف الدكتور جوناثان كول متخصص بالفسيولوجيا العصبية الشوكية ، كيف أدى تخدير الرباط الشوكي بالغنوكائين لامرأة تعني من ألم دائم في رجل خيالية إلى تخدير الخيال (واختفائه فعليًا) لفترة وجيزة .
وفي حالة مرضية أخرى وهي عدم الانتباه النصفي بعد تعرض سيدة لسكتة دماغية خطيرة ، يصف الطبيب مضاعفات هذه الحالة بأنها فقدت إدراك الجانب الأيسر من مجال رؤيتها فهي لاترى أي شيء على الجانب الأيسر وتأكل نصف طعامها الأيمن فقط حتى أنها لاتضع أحمر الشفاة والمكياج إلَّا على نصف وجهها الأيمن فقط. ولكن مع مرور الوقت أدركت السيدة المشكلة وابتكرت استراتيجيات للتعامل مع نقص الادراك مثل أنها تستدير لليمين بشكل دائرة. وهنا نجد في هذه الحالة نقص إدراك أصاب العقل ولكن نجد أيضا استراتيجيات دفاعية للتغلب على نقص الإدراك هذا.
مرض الحُبسة ومرض العمه النبري وعلاقتهما بخداع السياسيين:
أحد أهمّ الحالات لموضوعنا في فصل تحت عنوان «خطاب الرئيس» في كتاب أوليفر ساكس، يصف لنا مرض الحبسة، فيقول إنّه عندما زار جناح مرضى الحُبسة وهم يستمعون لخطاب الرئيس وجدهم متحمّسين جدًا، وكانت تعليقاتهم كالتالي: «ها هو الفاتن العجوز، الممثّل، بلغته المنمّقة وتمثيله الهستريائي وجاذبيته العاطفية»، وكان المرضى يهتزّون من الضحك. ويقول ساكس أنّ خطاب الرئيس الذي رآه هو بنفس أسلوبه الذي اعتاد عليه، ولكن يسأل نفسه يا ترى فيمَ يفكّر هؤلاء المرضى ويجعلهم يضحكون ويسخرون من كلمته؟
لفهم هذه الحالة يجب أنْ نعرف أنّ مريض الحُبسة لا يفهم الكلمات ولهذا فهو لا ينخدع بها، ولكن ما يفهمه بدقّة لا تخطئ هو التعبيرات المرافقة للكلمات. تلك التعبيرات والإيماءات العفوية اللاإراديّة التي لا يمكن أبدًا محاكاتها أو تزييفها خلافًا للكلمات التي يمكن تزييفها بسهولة. وبذلك لا يستطيع المرء أن يكذب على مرضى الحُبسة. يمكن للمصابين بالحبسة أن يكتشفوا الكذبة أو المكر أو النوايا المريبة وأن يعرفوا من يمكن الوثوق به ومن يتمتّع بالنزاهة ومن يتّسم بالعقلانية، بينما نحن الحسّاسون جدًا للكلمات يسهل خداعنا. يقول نيتشه «يمكن للمرء أن يكذب بفمه، لكن مع الكشرة المرافقة فإنّه يقول الحقيقة».
وعندما نرى حالة أخرى معاكسة لمرضى الحُبسة وهي حالة «العمى النبري»، مثل حالة إميلي، وهي موجودة أيضًا في جناح مرضى الحُبسة، وفي هذه الحالة لا يفهم المريض إلا الكلمات ولكنّه لا يفهم مطلقًا التعبيرات والإيماءات وتغيُّر نبرة الصّوت. ولذلك فإنّ إميلي لا تفهم سوى الكلمات فقط ولها قدرة عالية على تحليلها. وكانت قدرتها ضعيفة جدًا على فهم المجاز والتلميح والتشبيه في كلام الناس. كيف نظرت إميلي إذن إلى خطاب الرئيس؟ استمعت إميلي إلى خطاب الرئيس، لم يؤثر فيها الخطاب عاطفيًا، ولم يعد أيّ خطاب يؤثر فيها، وبعكس المتوقع، لم تنخدع مطلقًا وقالت «ليس مقنعًا. لا يتكلّم بطريقة جيّدة، واستعماله للكلمات غير صحيح. وهو إما متلف الدماغ أو لديه شيء يريد إخفاءه».
وبالتالي فإننا نحن الطبيعيّين يتمّ خداعنا بغاية المكر؛ لأنّنا نجمع الكلمة الخادعة مع النبرة الخادعة بحيث أنّ متلَفي الدماغ فقط بقوا سالمين ومحرَّرين من الأوهام.
الحيَل الدفاعية اللاشعورية:
يواجه الفرد في حياته مواقف مختلفة تتنازع فيها دوافع متضاربة، وصراعات بين رغبات مختلفة، أو بين فعل رغبة غير مرغوب بها سواء إجتماعيًا أو دينيًا وبين عدم فعلها. ينشأ لدى الفرد بسبب الدوافع المتضاربة والصراعات قلقٌ نفسيّ بسبب عدم إشباع الفرد لرغباته، ولكي يتخلّص الإنسان من هذا القلق تظهر أساليب لاشعورية وظيفتها تشويه ومسح الحقائق، حتى يتخلّص المرء من حالة التوتّر والقلق الذي يهدّد أمنه النفسي.
وتنقسم الحيَل الدفاعية اللاشعورية إلى ثلاثة أقسام:
1 – حيل خداعية؛ كالكبت والتبرير والإسقاط والتكوين العكسي والعزل.
2 – حيل هروبية؛ كأحلام اليقظة والنّكوص.
3 – حيل استبدالية؛ كالتعويض والتحويل والتقمّص.
وسنشرح الآن بعضًا من هذه الحيل لنرى كيف تخدعنا وتضلّلنا:
الكبت: هو استبعاد مادّة ما مثيرة للقلق، كالأفكار الشعورية المؤلمة المخيفة والمخزية، وطردها لحيّز اللاشعور، ولكن عملية الاستبعاد هذه لا تنفي وجود الدّافع الذي وصل إلى اللاشعور، بمعنى أنّ الفكرة لم تمُت وإنّما تمّ الاحتفاظ بها وبقوتها، ثمّ تبدأ بالتعبير عن نفسها في صورة الأحلام أو أخطاء وزلّات اللسان أو الشعور والإحساس بالذنب.
الإسقاط: وهو أن ينسب الشخص إلى غيره من الناس أفكاره وأفعاله غير المرغوبة ويتّهمهم بها. مثل أن يقول طفل عن أخيه أنه هو الذي يتسبَّب في الفوضى في المنزل.
التكوين العكسي: وهي حيلة يُبدي فيها الشخص أحاسيس مغايرة لمشاعره، ومثال ذلك، شخص يحبّ الأكل ولكنه يسبب له التخمة وزيادة الوزن، ولكنه لا يستطيع القيام بحمية غذائية، فيقوم بعملية مهاجمة وسخرية لاشعورية من كلّ شخص يراه يحبّ الأكل أو يأكل أو شخص بدين آخر.
النكوص: يلجأ الفرد إلى مرحلة سابقة من مراحل العمر وممارسة السلوك الذي كان يحقق له النجاح في تلك المرحلة العمرية، ومثال على ذلك، امرأة تصل للعمل متأخرة وعندما يراها المسئول فإنها لاشعوريا تجهش بالبكاء.
التقمص أو التوحد: وهي حيلة شعورية يقوم الشخص خلالها بالتقمص اللاشعوري لأفكار وقيم ومشاعر شخص آخر ناجح أو مشهور، أو شخص حقّق أهدافًا يشتاق هو إليها .
التسامي: من أفضل الحيل وأهمها وأكثرها انتشارًا لخفض التوتر كما ذكرنا سابقًا. ويلجأ إليها الفرد للتعبير عن الدوافع غير المرغوبة من قبل المجتمع بصورة تجعلها أمرًا محببًا ومرغوبًا يحوز على إثْرها كلّ تقدير واحترام. فبواسطتها يستطيع الإنسان أن يرتفع بالسلوك العدواني المكبوت إلى فعل آخر مقبول اجتماعيًا وشخصيًا. فمثلًا النتاجات الأدبية والفكرية والشعورية والفنية ما هي إلا من مظاهر التسامي. ومثال آخر على ذلك، المرأة التي تكون مطالَبة بعمل حمية غذائية فتظهر اهتمامًا بالرّسم وترسم العديد من اللوحات الفنية الجميلة وقد تكون معظمها رسومًا للفواكه.
بعد أن مررنا على بعض الأمراض النفسية والعقلية التي نحاول من خلالها فهم أنفسنا، وبعض الأساليب النفسية اللاشعورية التي توجهنا بدون إرادة منا، تعالوا لنتعرف على كيفية التلاعب بعقولنا عن طريق الأفكار.
هل يستطيع المنطق تقويم أفكارنا وحماية عقولنا؟
حاول الفلاسفة منذ قديم الأزل اختراع قواعد لتنظيم عمل العقل والفكر حتى لا يضّلان، وهي محاولة لتوحيد العقول على الحقّ، وكانت من أبرز هذه المحاولات محاولة أرسطو عندما قام بصياغة قواعد المنطق الصوري التي افترض أنها لازمة لأيّ شخص لكي يختبر مدى صحّة أفكاره وفرضياته. وظلّ المنطق الصّوري لأرسطو مسيطرًا على العلماء والفلاسفة وقتًا طويلًا، ولكن بدأت في عصر النهضة محاولات لنقض هذا المنطق، وأشهرها محاولة ابن تيمية في كتابه «الرّد على المنطقيين»، وفرانسيس بيكون في كتاب «الأرجانون الجديد». كان ابن تيمية يرى أنّ المنطق اليوناني لا فائدة منه ولا يوصل للحقيقة، وقد كتب:
لو كان صحيحًا ويوصل إلى حقيقة يقينية أو يحسم خلافًا لما بقي في النّاس قضيّة يختلفون فيها، ولما شاعت الفِرَق والمذاهب الفلسفية المتضاربة التي يهدم بعضها بعضًا.
أما بيكون فقد وضع أوهامًا أربعة تضللنا، فيقول في كتابه الأورجانون الجديد:
ثمة أربعة أنواع من الأوهام تُحدِق بالعقل البشريّ، وقد قيّضتُ لكلٍّ منها اسمًا بغرض التمييز بينها. فأطلقتُ على النوع الأول “أوهام القبيلة” وعلى النوع الثاني “أوهام الكهف” وعلى الثالث “أوهام السوق” وعلى الرابع “أوهام المسرح”.
ويشرح ذلك كالتالي:
1 – أوهام القبيلة (أوهام الجنس)
يتحدّث فيها عن الحواسّ، ويقول أنّ الرأي القائل بأنّ الحواسّ هي مقياس الأشياء إنما هو رأي خاطئ؛ فالإدراكات جميعًا، الحسّية والعقلية، هي، على العكس، منسوبة إلى الإنسان وليس إلى العالَم. والذهن البشري أشبه بمرآة غير مستوية تتلقّى الأشعّة من الأشياء، وتمزج طبيعتها الخاصة بطبيعة الأشياء فتشوِّهها وتفسدها.
2 – أوهام الكهف:
هي الأوهام الخاصة بالإنسان الفرد. فلكلّ فرد كهف يعترض ضياء الطبيعة ويشوّهه، وهذا يحدث بسبب الطبيعة الفريدة لكلّ إنسان أو بسبب تربيته وصلاته الخاصة، ونفوذ أولئك الذين يُكنّ لهم الاحترام والإعجاب.
3 – أوهام السوق:
وهي أوهام تنشأ عن تواصل الناس واجتماعاتهم بعضهم ببعض. فالناس تتحادث عن طريق القول والكلمات التي يتمّ اختيارها بما يلائم فهم العامّة. وهكذا تنشأ مدوّنة من الكلمات السيئة تُعيق العقل إعاقة عجيبة. إعاقة لا تجدي فيها التعريفات ولا الشروح التي دأب المثقفون على التحصّن بها أحيانًا.
4 – أوهام المسرح:
يعتبر بيكون كلّ الفلسفات التي تعلمها الناس وابتكروها حتى الآن هي أشبه بمسرحيات عديدة جدًا تُقدَّم على المسرح، خالقةً عالَمًا من عندها، زائفةً وَهميّةً. وهو لا يقصد الفلسفات السابقة فقط، ولكنّه يقصد كلّ فلسفة ظهرت تقوم بنفس الطريقة المصطنعة ولا يقصد الفلسفات الكليّة فقط، بل يقصد حتى العناصر والمبادئ الخاصّة بالعلوم والتي اكتسبت قوتها الإقناعية من خلال التقليد والتصديق الساذج والقصور الذاتي.
بعد أن ذكرنا نقد ابن تيمية للمنطق وحديث بيكون عن أسباب الضلالات الفكرية، نتحدّث الآن عن بعض الخدع التي يستخدمها الناس لكي يكونوا دائمًا على صواب، وهو عنوان الكتاب الذي ألّفه آرثر شوبنهاور ووضع فيه الحيل التي تُستخدم لتضليل الآخرين، ويمكن أن نسمّيها مغالطات منطقية، كما هي موجودة في كتاب «مغالطات منطقية» لعادل مصطفى، أو تُسمّى أغاليط الاستدلال كما هي موجودة في كتاب «طرح الأسئلة المناسبة» لنيل براون وستيوارت كيلي، ونذكر منها؛ إخفاء القصد والحجج الكاذبة والمصادرة على ما ليس مبرهنًا عليه والحصول على التأييد بواسطة الاستجواب وإغضاب الخصم وطرح الأسئلة بترتيب مختلف وغيرها ممّا سنشرحه في مقالات لاحقة.
وبعد ما ذُكر، هل توجد طريقة لتجنّب هذه الخدع النفسية والعقلية الخدع التي يقوم بها عقلنا لفعل ما يراه في مصلحتنا، والحيل التي يقوم بها الآخرون بغرض حمايتنا مرّة وبغرض خداعنا والتحكم فينا مرّات؟. وهل توجد خدع أخرى؟ وكيف نفهم هذه الخدع لنتجنبها؟
المراجع:
1- الرجل الذي حسب زوجته قبّعة، أوليفر ساكس، ترجمة رفيف غدار، الدار العربية لعلوم الناشرين، 2009.
2 – فن أن تكون دائمًا على صواب، آرثر شوبنهاور، ترجمة د. رضوان العصبة، منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، 2014
3 – طرح الأسئلة المناسبة، نيل براون وستيوارت كيلي، ترجمة نجيب الحصادي ومحمد أحمد السيد، المركز القومي للترجمة، 2009
4 – الرد على المنطقيين، تأليف ابن تيمية، مؤسَّسة الريان- بيروت، 2005
5 – المغالطات المنطقية، عادل مصطفى، المجلس الأعلى للثقافة، 2007