أن تعيش في الحجر الصحي.
تتألم وحيدًا وتفكر في كل السيناريوهات الممكنة. تتوق للمساعدة، عالمًا بأنك ستتسبب في إيذاء كل من يحاول مساعدتك دون قصد. تريد أن ترى عائلتك ، ولكن ذلك يعني تعريضهم للخطر، لذلك تحجم عن الفكرة.
لمنع انتشار فيروس كورونا المستجد تمَّ وضع الآلاف من الأشخاص في جميع أنحاء العالم في الحجر الصحي -بعضهم طوعًا- في منازلهم الخاصة، والبعض الآخر في ثكنات مؤقتة مع حراس مسلحين، أو في الفنادق أو على متن السفن السياحية.
إن خطط حياتهم قُلَبتْ رأسًا على عَقِب والمستقبل غير مؤكد، بغض النظر عن مدى عقلانيتنا حول المخاطر المحتملة، بغض النظر عن مدى الهدوء الذي نتخيلُ أننا سنكون فيه، فإن مجرد وجودك داخل عزل صحي هي وصفة للذعر.
ستسألني كيف أعرف؟ لقد كنت هناك.
في يونيو 2009، سافرنا أنا وزوجي إلى “بكين” مع أطفالنا الثلاثة ووالدتي لتبني ابنة أخرى. لقد خططنا للتأقلم بضعة أيام قبل السفر إلى منزل حاضنة ابنتنا الجديدة، ولكن في يومنا الثاني هناك -بعد زيارة للحدائق في منتزه “بيهاي”- رنَّ “بلاك بيري” زوجي، كان ممثل الحكومة الصينية يطلب منا العودة إلى غرفتنا في الفندق على الفور.
اتضح أن الأسرة التي جلست في الصف الذي أمامنا على متن الطائرة قد ثَبت أنهم مصابون بفيروس إنفلونزا الخنازير H1N1 . ما يعنيه ذلك، هو أنه سيتم اختبارنا نحن أيضًا، ومن ثم إما دخول المستشفى أو نقلنا إلى منشأة الحجر الصحي.
لم نكن الأمريكيين الوحيدين في هذا الوضع -لقد سمعنا شائعات بأن عمدة “نيو أورليانز” وزوجته كانوا ضيوفًا عند الحكومة الصينية، إلى جانب فرقة موسيقية كاملة من كاليفورنيا- ولكن وفقًا للسفارة الأمريكية، كنا العائلة الوحيدة التي لديها أطفال صغار. لم يعرف المسؤولون الأمريكيون كيف سيتم التعامل مع ذلك، ولكن طُلب منا التعاون، وقد فعلنا ذلك.
أنا أستخدم الفعل “طُلب” رغم عدم دقته، وأنا أقول: تعاونَّا. وهذا غير دقيق أيضًا، لأني لا أجد الكلمات المناسبة لوصف قلة حيلتنا، لم تكن هناك بدائل، وفعلنا ما تعين علينا فعله. كنا خائفين على صحتنا وعلى صحة أطفالنا، وكنا غاضبين من أقدارنا.
كان زوجي مصابًا بالأنفلونزا، وتمَّ عزله عنا في غرفة المستشفى. جلسَ البقيَّةُ منا فيما كان في السابق منتجعًا فخمًا لكبار المسؤولين الشيوعيين، والآن أصبح مجرد أطلال محاطة بالحراس المسلحين عند المدخل.
لم نكن نتحدث لغة “الماندرين”، وكان علينا أن نخمَّنَ ما يحدثُ حوْلَنا. أطْلعَتنا شَابتان ذاتا وجوه جادة على غرَفِنا. قاموا بفتح باب لطفلي -البالغ من العمر 7 سنوات- وآخر لوالدتي، على ما يبدو توقعوا أن ينفصلَ كلُ فردٍ منْ أفْرادِ الأسرة.
ولكن لم يعترضْ أحد عندما احتفظت بالأطفال الصغار بين ذراعيّ وسرت إلى غرفتي. أعطوني مفاتيح وأشاروا إلى زجاجات المياه ثم غادروا. في اللحظة التي اختفت فيها خطواتهم في القاعة، هُرِع طفلي االأكبر إلى غرفتي وهو يبكي. قمت بسحبه قبل أن يتمكن أي شخص من ملاحظتنا. كان خائفًا، وكذلك كنت.
هل قلتُ خائفةً؟ كنت مرعوبة!
لم أفهم ما يفترض بنا القيام به، لم أكن أعرف ما الذي سيحدث، هل يمكننا ترك غرفنا؟ هل سنقع في مشكلة إذا وجدونا كلنا هنا معًا؟ ماذا لو مرضت؟ ماذا لو مرض الأطفال؟ هل سيأخذونهم مني؟ كم من الوقت حتى نتمكن من العودة إلى المنزل؟
غادرت غرفتي، لم أستطع البقاء ساكنةً، أتذكر أنني بدأتُ بملاحقة أحد المسؤولين الناطقين بالإنجليزية في مكتبه وحاصرته، مُحاوِلةً إجباره على السير في جميع أنحاء المبنى معي، كل ما أردته هو معرفة أين أنا، ومعرفة الأشياء بمسمياتها.
هز رأسَهُ رافضًا الإجابة، نهض وغادر أخيرًا، مستنكرًا تلك السيدة المجنونة التي لم تستطع قبول أننا كلانا تحت رحمة الأحداث التي لا يمكن لأي منا السيطرة عليها. على وجهه كانت نظرة موحية، كأنه يتسائل: كيف وصلتُ إلى هذا السن دون أن أتعلم قبول أن الرياح تسير -أحيانًا- بما لا تشتهي السفن؟
الحجر الصحي هو أحد غرف الانتظار العديدة في الحياة، ولكنها الجحيم بالنسبة للأشخاص الذين نشأوا معتقدين أنه يمكن التغلب على أي شيء صعب إذا حاولنا بجهدٍ كافٍ، وأننا مسؤولون عن كل ما يحدث في حياتنا.
لا توجد محاولات في الحجر الصحي، لا خيار سوى الجلوس، وإذا كنتَ ترغبُ في الاحتفاظ بعقلك فيجب عليك تعطيله وعدم التفكير بعض الوقت، وإلا ستجن.
كل ما ستفكر فيه هو: ماذا بعد؟ لا أحد يعرف. لهذا السبب تمَّ وضعنا في الحجر الصحي في المقام الأول.
بحلول اليوم الرابع، توقفتُ عن ملاحقة المسؤول الناطق بالإنجليزية، وتوقفت عن الاتصال بالسفارة بشكل محموم. كان الجواب على كل سؤال طرحته هو “الأمر يعتمد”، والشيء الوحيد الذي لم استطع الاعتماد عليه هو نفسي.
بدأنا في اتباع طريقة الناس من حولنا، وجميعهم من الصينيين. كنا نرتدي أقنعتنا، ونتناول الوجبات، ونمشى في أنحاء الفناء في المساء، ونحافظ على بعدنا عن النزلاء الآخرين. (لا مكان للتعاطف في الحجر الصحي، حتى لو كنا نتحدث نفس اللغة)
مع مرور الأيام ببطء، اندمجنا في الروتين: الاستحمام البارد كل يوم، فحص الحمى مرتين يوميًا، وبقية اليوم نحاول فك رموز الرسوم المتحركة على شاشة التلفزيون.
“لماذا تطفو هذه اللوحة في الهواء فوق الأغنام؟” يسأل أحد الأطفال، و نفكر في ذلك، كان هذا لغزًا آخر من أسرار حياتنا الجديدة.
تعافى زوجي من الأنفلونزا وعاد إلى الفندق، ولكن كان علينا أن ننتظر بصفتنا “حاضنين محتملين للمرض”.
بدأ المسؤول الناطق باللغة الإنجليزية -بمجرد أن توقفت عن محاولة ملاحقته- بمحاولة التعاطف معنا. كل يوم كان يجلب لكل منا زجاجة “كوكاكولا” باردةً بالثلج، وتمَّ السماح لأحد معارفنا بإرسال إمدادات من “برينجلز” بنكهات غير متوقعة: الروبيان، السلطعون، ونكهات أخرى من “هونج كونج”. والدتي التي سَرقتْ النسكافيه الفوري من الفندق في الليلة التي جاءوا بها لاحتجازنا، اكتشفت كيفية صنع القهوة المثلجة بالأدوات المتاحة.
أخيرًا، بعد 10 أيام تَبيَّن خلونا من الأعراض، قِيل لنا أنه يمكننا المغادرة. سيارة الأجرة تنتظرنا في الخارج، ناديت ابني الأكبر ليلحقني في الرواق. قلت له: “أحضر برينجلز”.
مشينا صعودًا وهبوطًا. وراء كل باب كان هناك شخص في منتصف نفس الرحلة غير المؤكدة التي قطعناها للتو، مِيزَته الوحيدة أنه على الأقل يمكنه فهم الرسوم المتحركة حول الأغنام التي تُعرض على التلفاز.
أردت أن أعطي شخصًا ما شيئًا ليتذكرنا.
همس ابني: “اسمعي، توجد عائلة معها الأطفال”، وأشار إلى باب.
وضعنا علبة “البرينجلز” أمام الباب وطرقناه، ثم أمسكت يده وخرجنا.
لم نعرف أبدًا ما إذا كان زملاؤنا في المعاناة قد أعجبتهم “البرينجلز”. تشير التقديرات إلى أن ما بين 11 و 21 في المائة من سكان العالم أصيبوا بالفيروس أثناء الوباء، وأن أكثر من 284000 شخص ماتوا. تمَّ تطوير لقاح، انخفضت الحالات الجديدة، وتعافى العالم.
لقد كنا محظوظين، لقد تمَّ عزلنا، ثم خرجنا. ولم يكن هناك أي شيء يمكنني فعله حيال ذلك في أي لحظة من ذلك المشوار.
المقال الأصلي