أمِّت أو أن تأكل قلبك.
(1)
تلك هي المرة الثالثة هذه الليلة التي يستيقظ فيها مرتاعًا بقلبٍ مُنقبض، فكيف للنوم أن يحط فوق جفنيه وتلك الروح الشـريرة الآثمة هامدةٌ بجواره؟ تلك الروح التي هي جزءٌ منه، التي هي جزءٌ يرفض التصديق أنه منه، تلك الروح التي هي ابنه.
يذكر ذات مرةٍ أنه صادف تاجرًا من منف، وحدّثه ذلك التاجر عن خلق حتشبسوت. أخبره تاجر منف أن آمون-رع قد تشكّل على هيئة الملك آنذاك، ومن ثمّ تسلل إلى غرفة الملكةِ وعاشرها، فكانت حتشبسوت هي نتاج هذه المضاجعة المقدسة. هل يُعقل أن يكون سِت، الإله الأحمر الطاغية، قد تسلل إلى غرفة نافا في غيابه فضاجع امرأته وبثّ في رحمها ذلك الأشهب الصغير الهامد بجواره؟
ظل يُحدق في الطفل الأشهب دقيق القسمات النائمِ بينه وبين امرأته، وأحس بنفس أبوفيس*[1] الثعبان يُهسهس في أذنيه، يفحُّ في أذنيه طلاسم غامضة تُكبّله وتشلّ حركته. كيف لامرأته أن تلد شعرًا بهذه الحمرة وما كان شعر زوجها يومًا بأحمر؟ كيف لنسل نافا أن يكون أبيضَ كالحليب وهو الأسود قاتم السواد؟ وإن كان الإله سِت قد تسلل بالفعل إلى غرفته فعاشر امرأته، ماذا يجدر به أن يفعل؟ هل يكيل اللعنات إلى سِت مفصحًا عن سخطه؟ وهل لنافا قوةٌ بسِت، قاتلِ أوزيريس وفاطرِ قلب إيزيس ونِدِّ حورس؟ إذا كانت هذه الآلهة مُجتمعة لم تستطع قهر الإله الأحمر إلا بشقّ الأنفس وسحّ الدموع، أيستطيع هو، عامل البناء الحقير، أن يتحدى الإله دون أن تُطقطق عظامه كطقطقة الهشيم إذ يداعب النار المتراقصة؟
نظر لامرأته التي ضمتْ الصغير إلى صدرها، راقب العرق وهو يتفصد عند منبت رقبتها فيتخاتل باتجاه نهديها، وانبثقت في ذهنه صورة الوزير الأشهب خادم فرعون الذي أهداه خنجرًا من العاج بلا مناسبة، إذ ظلّ الوزير يراقب المشهد نفسه بينما كانت هذه النهود نفسها تُلوّح بالمنجل بين حقول القمح أثناء موسم الحصاد. دمدمت أفكاره في رأسه كقرع الطبول، وظلّ يتأرجح كالبندول بين رغبةٍ جامحةٍ في جز عنقها وتعاطف حنونٍ مع ضعفها وانسحاقها المماثل لضعفه وانسحاقه. تحسس نافا بأصابعه ملامح ابنه كأعمى يحاول التعرّف على غريب، وشد بيديه على العضد البض البريء، ومن ثمّ وقعت عيناه على فخذي الطفل فإذا بهما قد صارا فخذي فرس نهر.
تقهقر نافا على السرير في فزع، أخذ يزحف على ظهره وأطرافه تتشنج فكان كالصرصور المنقلب، أغلق عينيه بعصبية وهو يستجدي آمون أن يُنجده، وظل يُرنّم حتى أحس بجسده كله يتردى من فوق السـرير ليرتطم بالأرض. فتح عينيه وأنفاسه تتسارع. ثبّت كفيه وراءه كعكازين فنهض بجذعه بينما ظلّت قدماه في شبه شللٍ تام. ولمّا رفع رأسه، لاح له وجه الصغير وقد استحال وجهَ تمساحٍ بأعين تستشيط كرهًا وحقدًا. سقط قلبه وتدحرج، ودمدمت الدماء في عروق قدميه فهبّ واقفًا. أدار وجهه محاولًا الركض، لكنه تعثّر في قلبه القاتم الثقيل. ارتطم بالأرض. وفي لُجّة الهلع، مضـى يحبو بينما كانت أقدام آميت*[2] تُزلزل الأرض من تحته، آميت الذي هو ابنه. مضـى يزحف باتجاه المنضدة. تناول سكين العاج الذي أهداه له الوزير. سحب نفسًا عميقًا صكّ صداهُ أذنيه بعدما اختلط بفحيح أبوفيس وعواء آميت. وفي قفزةٍ واحدة، انقضّ فوق آميت الذي كان لا يزال يعوي فوق السـرير، فزلزل صراخ آميت المرعب الغرفة. أحس نافا بتشنج لذيذٍ يغمره فأغمض عينيه، مُستمتعًا أخيرًا بانتصاره على سِت بخنجره نفسه، وتدريجيًا، تحوّل العواء المرعب إلى نحيب امرأةٍ منسحق. فتح عينيه، فألفى الخنجر مغروسًا في ذراع امرأته الذي غمر الطفل ليحول بينه وبين خنجر العاج.
(2)
لا شيء يدفع الرجل إلى الجنون كنظرةٍ ترنو بها امرأةٌ يشتهيها إلى آخر هو أشد منه قوةً وأبهى جمالًا، ذلك ما فكّر به حورس بينما كان يُطل من مركبة الشمس على المسلّات الباسقة أمام معبد جَدّه*[3] بهليوبليس مراقبًا ابتهالات العباد واحتفالاتهم. يلغط الحشد أمام المعبد الفسيح وتشيع في أيديهم أوانٍ فخارية مملوءة بالخمر، يصدح صوت: “اسكروا! اسكروا! من أجل حتحور*[4]! من أجل حورس! فالآلهة تبتهج لسكركم. نحتفل اليوم بانتصارِ حورس على سِت فاسكروا!”. يتخاتل صوت الليرا*[5] في الهواء بأنغامٍ عذبة، يجتمع رهطٌ عند المذبح المرفق بالمعبد، منهمكين في ذبح الخنازير الحمراء -التي هي رمز سِت- وشواء لحومها. ويلتف جمعٌ من الناس حول آمون-رع المتواري عرشه في صندوقٍ ذي ستارٍ أحمر. محمولًا على أكتاف الكُهّان الذين ارتدوا كتانًا أبيض مُزركشًا وحريريًا، يستقبل آمون أسئلة الفقراء السكارى ذوي الكتّان الخفيف الرث، ويقف كاهنٌ آخر فوق نضدٍ طويلٍ وفي يده ما يشبه مُكبّر الصوت، ليكرر على مسمع الجموع سؤال العبد وجواب الإله. يتقدم رجلٌ في وسط الدائرة ليمثل بين يدي رع، يسأله إن كان ابنه سيعود من عباب الحرب الغامضة، فيميل الصندوق إلى الأمام كبادرة إيجاب، وتهلل الجموع. تتقدم إمرأةٌ أخرى عاريةُ الصدر تلبس إزارًا قصيرًا وسترةً ذات حمالات، تجثو على ركبتيها وتسأل رع إن كان زوجها سيعود بعد أن هجرها، يميل الصندوق إلى الوراء كبادرة نفي، تتعلق الأبصار على الصدر العاري، وتهلل الجموع.
لا شيء يدفع الرجل إلى الجنون كنظرةٍ ترنو بها امرأته إلى آخر، وكان نافا قد أوشك على الجنون وامرأته بجواره، حاملةً طفلها فوق ذراعٍ ورابطةً ذراعها الأخرى بضمادةٍ بيضاء، مُحدقةً في شيءٍ مجهول، أو ربما في رجلٍ مجهول.
ولكن ذلك الرجل ظل مجهولًا بالنسبة إلى نافا الذي مكث واقفًا بجوار امرأته وأمنيته الوحيدة هي أن تلحظه. ظل يرقبها بحبٍ وهم صبيةٌ ولم تلحظه، تزوجها ولم تلحظه، مد يده فقبلها، أرسى بإحليله في رحمها وبث هناك بذور نسله، شاهد طفلهما وهو يرضع فيحبو فينطق أولى كلماته، ولكنها ظلت لا تلاحظه؛ وكثيرًا ما نعيش العمر بأكمله متشبثين بأشياء قد علمنا أنها لن تلحظنا أبدًا. انحـسر وجوده في عينيها الشاردتين دائمًا، اللامباليتين دائمًا، الحزينتين دائمًا، والبعيدتين دائمًا وإن كانتا تنظران إليه. طالما خيّل له أنها تنظر من خلاله، وأنه معها فقط يكتسب لا لون الماء، وتدهمه رغبةٌ غاشمةٌ في إثبات الحضور، توقٌ رهيبٌ لأن يكتسب لونًا ما.
ظل يحدق في دماء الخنزير الأحمر المنسالة على الرمال الذهبية عند المذبح. ها هو سِت يُذبح اليوم مرةً أخرى، فلماذا ترافقه الأرواح الشـريرة أينما ذهب؟ لماذا لا يخر الطفل الأشهب ميتًا الآن إذ يُذبح الخنزير؟ تحسس سكين العاج الذي يدسّه في إزاره أينما ذهب، أيعقل أن يكون الوزير هو سِت ويكون الطفل ابن الإله؟ وإذا كان كذلك، فأنى له أن يُحكم قبضته على الوزير الذي لم يره سوى مرتين في حياته؟
مزق حبل هواجسه صوتُ الكاهن الجهوري يصك الآذان:
-“يسأل العبد الإله المهيب خالق الشمس وواهب الحياة: أيحق للعبد أن يعشق امرأةً متزوجةً إن هي أحبته وكرهت زوجها؟”.
تهسهس الجموع مستنكرةً، يزدرد نافا ريقه بصعوبة ويحدج امرأته بنظرةٍ تستعر جنونًا، ويخيّل له أنها تبتسم. يعود الصوت صادحًا:
-“خالق الشمس وواهب الحياة قد أومأ بالإيجاب!”.
يسود الصمت لبرهة، ومن ثمّ تهلل الجموع. يتحرك محجر عيني نافا في جنونٍ بين الإله البعيد وبين امرأته. ترتعد فرائصه ويصير حلقه كالعلقم. يخرج السائل من بين الدائرة ليدخل مدى بصر نافا، فإذا بالرجل أشهب اللون يلبس كتانًا مُزركشًا. يُحدق نافا لامرأته بحنق. يشدها من عضدها ويصـرخ:”إذًا فهذا هو أيتها الساقطة!”. تحدقه زوجته في ارتيابِ وعدمِ فهم، فيلطمها بشدةٍ على وجهها. يستلّ سيفه ويركض بين الحشد وهو يحس دبيب آميت يتعاظم في أذنيه، يصطدم برجلٍ فيقع إناء خمرٍ ويُكـسر، يعـتصر أبوفيس حلقه، يجرح سكينهُ المشرّع امرأةً فتصرخ باكية، يطارد الإله الأشهب، ها هو ذا يلوح في الأفق بضحكته المقززة، سيقبض عليه الآن ويجز عنقه، ها هو قد اقترب منه.. قد اقترب الثأر، الشرف الذي لن يُغسل سوى بالدماء، ينقض عليه، يسحب نفسًا عميقًا مغمض العينين ويغرز السكين في عنقه، وتساوره اللذة نفسها. يفتح عينيه بهدوء، فإذا به ماثلٌ أمام الصندوق الأحمر وسكينه مغروزٌ في الرمال. يحاول احتواء الموقف فيجثو على قدميه. ينظر إليه الكاهن فوق النضد منتظرًا سؤاله. يُسلّم نافا لجام لسانه لأول ما يطرأ على ذهنه، فينظر إلى الإله ويسأل:
-“يا إله الكون، هل للإنسان مفرٌ من هواجسه؟”.
يميل الصندوق إلى الوراء نافيًا، وتهلل الجموع.
(3)
شهورٌ وهو يستجوب امرأته ويقرّعها بلا فائدة، حتى أيقن أن تلك الروح الشريرة لن يقتلها إلا السحر، فانتظر لتُفتح أبواب الكهّان السحرة في الخريف حتى كاد الانتظار يُهلكه. يجلس بين يدي الكاهن وتحت أنظار الآلهة المعلقة على الجدار: رأس صقر حورس على يمينه، ولبؤة سخمت على يساره، وأمامه رأس بقرة حتحور، وتدلى شمسُ رع الملتفة بالكوبرا من السقف الواطئ. ينظر نافا برهبةٍ إلى الكاهن حليق الشعر مُكحّل العينين، ويفصل بينهما نضد صغيرٌ عليه قلمٌ وحاويةٌ وورقة بردي، وتماثيل شمعٍ ومسامير خشبية. يهدهد على سمع نافا الصوت الرصين:
-وماذا تُريد له؟
-لا أريد له الموت، بل الجِذام*[6] والجنون. أريدها أن تراني أخيرًا أجمل منه.
-وهل تعرف له اسمًا؟
-لا أعرف له من اسمِ ولكني أوقن أنه ألدُّ أعدائي، أجل، اكتب في خانة الاسم:”ألد أعداء نافا ابن سنفرو”.
يغطس الكاهن القلم في الحاوية، ويخطّ به حروفًا بالهيروغليفية. يتناول أحد تماثيل الشمع ويغرز بها المسامير وهو يتمتم بتعاويذ غامضة. ينقبض قلب نافا إذ يُترّع الجو برهبةٍ وريح مهيبة. يستحيل صوت الكاهن فحيحًا مُرعبًا بينما يغرس المسمار في التمثال بشدةٍ أكبر. يحس نافا بوخزٍ شديد في جلد ذراعه، فيحك جلده حتى يكاد يمزقه. تخرج من رأس الكاهن رؤوس أخرى، وتنسلخ كلّها أفاعِ ذاتَ أنيابٍ طويلة. يداهم الهلع نافا، يقلب النضد ويجول في الغرفة بخطى متخبطةٍ كالمجنون. تنشق الأرض ليخرج منها طفله الأشهب، برأس تمساح يعوي مُكشرًا عن أنيابه. تتخلل صوت العواء كلماتٌ خافتة: “وفي القيامة حين تُبعث ستكون أنت من يأكل قلبك الآثم، ستكون أنت نفسك آميت”. تُبث الحياة في الحيوانات على الجدران فتحاوطه من كل اتجاه. تقترب منه سخمت بأنيابها، ويحوم فوقه حورس. تختلط صوت حيوانات الآلهة لتمزق أذن نافا، ينقض عليه آميت بمخالب الأسد فيعتليه. يُشرّع آميت فكيه بوحشية وقد استحالت عينيه حمراء. وفي أوج الضجيج المرعب، يستسلم نافا للجنون، بينما يتلاشى الصوت الرصين:
“ذلك أنك أنت الثعبان.. ذلك أنك.. وحدك.. ألدّ أعدائك…”.
[1] أبوفيس : ثعبان شريرِ كان يرمز للشر. [2] آميت أو أمِّت أو عاميت: آكل الموتى. كان يُعتقد أنه يوم الحساب توضع القلوب في ميزان قبالةَ ريشة ماعت، فإذا طبت كفة القلب كان القلب ثقيلًا آثماً والتهمه آميت. كان أمِّت يُصوّر برأس تمساح وأقدام فرس نهرِ وجذع أسد. [3] الإله رع إله الشمس عند المصريين القدماء. [4] إلهةٌ كان يُعتقد أنها كثيرة السُكر. وكانت تُصور على شكل بقرة. [5] آلة موسيقية. [6] مرض الجرب.