أثر الشعوبية في ظهور الفرق
تمهيد
لما اتسعت الدولة الإسلامية ، ودخلت جماعات الشعوب المختلفة في الدين الإسلامي، كان لتلك الشعوب عوائدهم ومللهم من المسيحية واليهودية والمانوية والزرادشتية وغيرها، وقد جاء الإسلام مصحّحًا لتلك العقائد، متوّجًا لها، ويوافق عوائد الأمم بما لا يختلف مع قواعده ومبادئه.
وقد أرسى الدين الإسلامي قاعدة عامة بين البشر جميعًا؛ وهذه القاعدة تنطق بأن البشر كلهم من آدم، ولا خيرة بينهم عند الله إلا بالتقوى. وكانت هذه القاعدة روح الإسلام، لا خلاف في ذلك إلا بأعمال الملوك والسلاطين، وأهواء الفكر الشاذة. يقول تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم.” (1)
وقد خرجت منازع قومية في ظل الحضارة الإسلامية، تنادي بروح حضاراتهم ودينهم، وتجذّر هوياتهم، وذلك عبر الأشكال الأدبية، والمقالات الفكرية، والفرق المختلفة. وقد كانت تهدف ابتداءً إلى “إدخال النظم والأساليب الساسانية في الإدارة، وتشجيع الأفكار والآراء الأعجمية في الثقافة.”(2)
ويظهر أن هذا المنزع القومي ابتدأ بكونه مناديًا بالتسوية بين الموالي والعرب، وقد كانت هذه الحركة الاجتماعية ابتداءً شأنها شأن الفقهاء والفرق الإسلامية مثل الخوارج، ينادون بالمبدأ الإسلامي وهو العدل والمساواة، وقد انضمت هذه الحركات الاجتماعية في الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية.
ثم تطور هذا المنزع إلى شكل متطرف، يقوم على أساس الزندقة الفكرية، والانحلال القيمي والاجتماعي، مثيرًا للجدل والشك، موهنًا لعقائد الناس، وينتقص من شأن العرب ولغتهم.
إن هذا المنزع الحركي سُمّي تاريخيًا بالحركة الشعوبية، وقد احتدم الصراع بينها وبين العرب والمسلمين، وكانت لظهورها عوامل مختلفة؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. ويرمي هذا المقال للكشف عن هذه الحركة وفهم سياقها التاريخي الذي نشأت فيه، والدور الأيديولوجي الذي قامت به في الواقع الإسلامي.
الشعوبية ما هي؟
لقد سادت في المائة الأولى من الحكم العباسي ثلاثة منازع؛ النزعة الأولى تذهب إلى أن العرب خير الأمم، أما النزعة الثانية فتقول: أن العرب ليسوا بأفضل الأمم، ولا يوجد أمة أفضل من أمة، والناس من طينة واحدة، أما النزعة الثالثة فتذهب إلى الحط من مقام العرب، وتفضيل غيرهم من الأمم عليهم.
ويراد بالشعوبية كما يذكر أحمد أمين النزعتين الأخيرتين، في حين أن النزعة الثانية هي الأحق بالتسمية؛ ذلك أنها تنادي بالتسوية بين الشعوب، وأنه لا فرق بين العرب وغيرهم في الشرف والخسة.
إلا أن الذي ساد تاريخيًا هي النزعة الثالثة، والتي تعني أن الشعوبية: “حركة فكرية اجتماعية، قامت بها جماعات غير عربية، بهدف ضرب الكيان العربي من خلال ثقافته وإرثه الحضاري، وذلك بالتقليل من شأن العربية، ومهاجمة التراث العربي الإسلامي …مقابل الاعتزاز بالإرث الحضاري الأعجمي.”(3)
ولفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب: وهو جمع شعب، وهو جيل الناس. وذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى: “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”، وقالوا: المقصود بالعرب هم القبائل، والشعوب: بطون العجم، وهذا المعنى غير صحيح ؛ إذ إن الطبري نقل آراء جمع من الصحابة والتابعين في تفسير الآية وخلاصة ما تدور حوله تفاسيرهم أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون، والقبائل دون ذلك.
ويذكر ابن قتيبة أن رجلا من العجم كان يذهب في تفسير الآية بكون المقصود من الشعوب هم العجم، والقبائل هم العرب، وقد قدم الله ذكر الشعوب على ذكر العرب وهذا فضل لهم، إذ المقدم أفضل من المؤخر. إلا أن ابن قتيبة غالطه في تفسيره على وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل، وبأن العجم ليست أولى من العرب، فكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبًا.(4)
ويبين الدكتور الدوري في كتابه (الجذور التاريخية للشعوبية) أن مفهوم الشعوبية شديد التعقيد، ويمكن أن نسمي الحركات السرية التي تتظاهر بالإسلام، وتعمل على هدم السلطان العربي والإسلامي، أو الحركات التي تروم هدم الإسلام والعرب من الداخل باسم الشعوبية، وكذلك الجهود التي بذلت لمسخ التراث العربي وتشويه صورته، تكون طرفًا مهمًا من الحركة الشعوبية.
وقد قامت معظم الحركات الشعوبية على أرض العراق؛ ذلك أن العراق ساحة اجتذاب عسكري وثقافي، فقد شهدت احتكاكًا للساميين والفرس منذ أقدم العصور.
كما أنه من البين والواضح أن الموقع الجغرافي للعراق يعد باب الحضارة العربية والإسلامية، وتقع على أرضه طرق المواصلات الرئيسية بين الشرق والغرب.
وتجدر الإشارة إلى آراء بعض الكتاب والمفكرين المحدثين، مثل بندلي جوزي، والذي عمل على تفسير التاريخ الإسلامي وفق المنهج المادي الجدلي، إذ يذهب إلى أن العرب كانت تنظر إلى أهل البلاد المغلوبة في الإسلام بعين الاحتقار خلافًا لمبدأ النبي وصحابته، وقد كان يُنظر إليهم بوصفهم مصدرًا للإثراء، كما هو حال اليهود في أوروبا في العصور الوسطى، أو في أنحاء روسيا قبل الحرب.(3)
وقد ذهب السيد الكاتب في تفسيره للشعوبية بمثل هذا المسلك، فقد فسر الشعوبية بمنحى طبقي؛ حيث يرى أنها نتاج صراع الشعوب المغلوبة ضد التسلط الأموي والعباسي، وضد التعصب الشوفيني، كما يشير إلى أن أغلب بلدان الأمم المفتوحة كانوا مستغلين ومحرومين، وحتى من أسلم منهم كان محرومًا من الامتيازات التي تمتع بها العرب.
وبمزيد من الاطلاع على التاريخ الإسلامي يتبين قصور المذهب المادي الجدلي لتفسير حالاته، فقد كان الموالي يحظون بنظرة دونية من الولاة والبدو، إلا أنهم حظوا بنظرة المساواة في الأوساط العلمية والدينية، فالعالم يشرف بعلمه سواء أكان مولى أم عربي. وقد نجد الكثيرين من عمدة التابعين وهم موالٍ، أمثال الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء بن يسار، وغيرهم.
حتى أن جماعات مختلفة ساهمت في الحركة الشعوبية من التجار والوزراء والكتاب. يقول أحمد أمين: “وإنما كان معهم كثير من الطبقة المتعلمة والراقية، وإن لم يرقَ نسبها إلى الملوك والأشراف، وهؤلاء هم الذين كان لهم الأثر الشعوبي في الأدب والعلم.”(5)
كما أن الموالي حظوا بمكانة عالية في العصر العباسي، وكانت لهم مناصب بلغت الوزارة، إلا أن الشعوبية نجدها احتدمت في العصر العباسي، وهذا في الرد على من فسروا الشعوبية صراعًا طبقيًا محضًا.
تمظهر الشعوبية في العصر الأموي والعباسي
كانت البدايات لظهور النزعة الشعوبية في نهاية الحكم الأموي، ثم تجلى بشكل صارخ في الحكم العباسي، وفي ما يلي تفصيل ذلك.
1- تمظهر الشعوبية في العصر الأموي.
كانت الحركة الشعوبية في الفترة الأموية غير منظمة، وكانت تسمى باسم “أهل التسوية”، وهي منزع ظهر ينادي بمساواة العرب مع العجم، وأنه لا أفضلية لأمة على أمم أخرى. وهذا المنزع الثاني الذي أشار له أحمد أمين وقد سبق ذكره، وكان يشترك العرب بالمناداة بذلك المبدأ، كما يتوضح عند الخوارج، والفقهاء، الذين نادوا بالمساواة ورفعوا شعار:
ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين.
فقد ذهبت بعض الأحزاب كالخوارج إلى جواز إمامة غير العربي. ولكن هذه النظرة أخذت تتلون بذكر الأمجاد السابقة والقديمة عند بعض العجم، كالخبر الذي أورده ابن قتيبة عن العجمي الذي فسر الشعوب والقبائل بكون الأفضلية للمقدم بالخطاب، كما لا يخفى ما ينطوي عليه هذا التفسير من وحدة الشعوب وانقسام قبائل العرب.
وقد انضم بعض الموالي إلى معظم الحركات المضادة للدولة الأموية، فانضموا إلى عبدالله بن الزبير، ثم المختار الثقفي، ثم إلى عبد الرحمن بن الأشعث، وبذلك انضم الموالي إلى الشيعة والخوارج وهما أي (الشيعة والخوارج) ألدّاء بعضهم البعض، إلا أن خصومة بني أمية تجمعهم.
ويرجع المؤرخون عوامل تعصب العرب والموالي ببعضهم البعض إلى مقتل عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي، فقد عملت هذه الحادثة على زيادة العصبية العربية ضد الأعاجم، كما أن اعتزاز الموالي الفرس بالقومية الفارسية دفعهم إلى الإساءة إلى القومية العربية.(6)
ومما يذكره المؤرخون أن بعضًا من أشراف الفرس وعامتهم كانوا يكرهون العرب، وخاصة حكام البيت الأموي، وقد أنشد إسماعيل بن يسار قصيدة عند هشام بن عبد الملك يتغنى بها بمجد الفرس، فأمر هشام أن يُغطَّ في بركة من الماء حتى كاد يختنق، ونفاه إلى الحجاز، وهكذا صدّ الأمويون هذه النزعة بقوة وجبروت، فتحولت من فخر ظاهر إلى دعوة سرية.
2- ظهور الشعوبية في العصر العباسي.
في العصر العباسي كان للحركة الشعوبية بعض أمنيتها، إلا أن أمنيتها الكاملة لم تتحقق، والتي كانت تهدف إلى قيام دولة فارسية بملوكها. وقد شهد العصر العباسي نفوذًا واسعًا للموالي. فقد قامت الدولة على جهد صنيعهم، ونصرتهم، حتى قال أبو جعفر المنصور: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا، وأنصارنا، وأهل دعوتنا. وقال الجاحظ: دولة بني العباس أعجمية خراسانية، ودولة بني مروان عربية أعرابية.
وقد عدّ المؤرخون أهم خصائص العصر العباسي -كما يقول أحمد أمين- هو النفوذ الفارسي، وضعف النفوذ العربي. وقد جعل الانقلاب العباسي كفة الفرس راجحة، إلا أنه لم يعدم الكفة العربية، مما جعل الصراع مستمرًا.
ولم يُحقر من شأن العرب كما يصف المؤرخون لهذا العصر، فقد نجد أن الافتخار بالنسب العربي لا يزال قائمًا. وقد زعم أبو مسلم الخراساني أن له نسلاً عربيًا، وهو نسل سليط بن عبدالله بن عباس، إلا أننا نجد أن الفخر بالأمجاد الفارسية والذي عوقب عليه إسماعيل بن يسار في العهد الأموي، بات له صوتٌ شديد وقوي، وهذا ما نراه عند بشار بن برد ممتدحًا نفسه بكونه من خراسان:
من خراسان وبيتي في الذُّرى ولدى المسعاة فرعي قد سبقْ(7)
وقد شغل الموالي كثيرًا من وظائف الدولة؛ فكان منهم الوزراء والكتاب ورجال الإدارة والجيش، إلا أن الثنائية السياسية بين الخليفة العربي والوزير الفارسي كانت ثنائية قلقة، ودور الوزراء في عهد الرشيد كان واضحًا في بيان ذلك. فالبرامكة الذين تربعوا في الوزارة سبعة عشر عامًا قاموا بتقريب الفرس في الإدارة إلى حد كبير، وجهدوا في توسيع طبقة الكتاب الذين يتحمسون لهم، وقد تنبه الرشيد أخيرًا للسياسة البرامكية فتخلص منهم، وكانت صدمة للمطامع الفارسية.(8)
أما المأمون والذي عُدّ انتصاره انتصارًا للفرس فإنه نقل عاصمة الخلافة إلى مرو بإشارة من الفضل بن سهل، والذي كان أكثر اندفاعًا وفارسية من البرامكة، وقد كان يحجب عن المأمون الأخبار. و أدرك العرب أن هذا الانتقال يمهد ليصير الملك فارسيًا، فاشتعلت الثورة في العراق والجزيرة العربية، ولم يتبقَ للمأمون إلا العودة إلى بغداد.
ويمكن إجمال مظاهر نفوذ الموالي بأربع نقاط: أولاً: بأن قصور الخلفاء كانت مليئة بهم. ثانيًا: احتُكرت المناصب الكبيرة كالوزارة في الفرس تقريبًا. ثالثًا: نفوذ العادات والتقاليد الفارسية كالنيروز، ولبس القلنسوة. رابعًا: انتشار الثقافة الفارسية.
الأشكال التي حاربت عبرها الشعوبية ثقافة العرب ودينهم
لقد تعدّدت أفانين الحركة الشعوبية بالحط من صورة العرب وثقافتهم، وتعظيم أمجاد الفرس ومحاولة استعادتها، ومن تلك الأشكال التي كانت وسائل لتحقيق مرادهم:
1- الفكر والأدب.
هاجمت الشعوبية الثقافة العربية، وعملت على إحياء الثقافة الفارسية وبذل الجهد في سبيل ذلك، فاتخذوا من الثقافة والفكر سلاحًا ماضيًا، وقد كان كتاب مزدك مرجعهم، وكانوا يقرؤون في مجالسهم كتب في عهد أردشير وغير ذلك من الكتب الفارسية.
وقد عملوا عبر الترجمة على إحياء تاريخهم، فقد ترجم ابن المقفع كتاب “خداينامه” وهو كتاب في تاريخ الفرس. كذلك ترجم ابن المقفع عن الفارسية كتاب “كليلة ودمنة” و كتاب “مزدك”* الذي يتضمن سيرة مزدك الزعيم الديني الفارسي. وقد ترجمت من الكتب الدينية كتاب “زرادشت”، وكذلك كتاب “هزار أفسانه” ومعناه ألف خرافة، وهو أصل من أصول ألف ليلة، وغير ذلك من كتب الأدب والتاريخ والدين.
كما ظهر طائفة من شعراء الفرس، الذين وجدوا في الشعر إلهاب العواطف وإثارة الخيال، والتي تذكرهم بأمجادهم الخالدة، فيعتزون بها، ويتغنون بعظمتها. والشعراء كما يذكرهم بدوي يميلون عادة في الحديث عن الماضي سواء الافتخار به، أو البكاء عليه، فيستطيعون بخيالهم تشكيله وتركيبه على النحو الذي يبتغونه. ومن أمثال هؤلاء الشعراء: أبو نواس، و بشار بن برد، وغيرهما.(9)
2- الظرف.
عملت الشعوبية على تفسيخ القيم المجتمعية العربية والإسلامية، فجاهروا بالخلاعة والمجون، واعتبروا ذلك نوعًا من الظرف. وقد اتخذت الشعوبية وجهة خلقية تخالف القيم وحاولوا إظهارها بمظاهر خلابة، وكان ذلك تمويهًا انطلى على بعض الناس.
3- الأحاديث الموضوعة.
وضع الشعوبية الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس، وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين، ووضعوا أحاديث في فضل سلمان، وفضل أبى حنيفة، وزعموا أن النبي أشار إليه: لو كان العلم معلقًا عند الثريا، لتناوله رجل من فارس.
كما أن العرب قاموا بتعصب مقابل، فوضعوا أحاديثًا في فضل العرب كذلك، وفي ذلك طرفة حين جعلوا حديثًا عن سلمان الفارسي يأمره النبي بأن لا يبغض العرب، وإلا فبغضهم من بغضه عليه السلام.(10)
4- الاغتيال.
وقد سلك غلاة الشعوبية مسلك الاغتيال للقضاء على خصومهم من العرب، وتفننوا في ذلك بطرائق محكمة، وعرف هؤلاء الغلاة بالخناقين، وقد ظهر هؤلاء في نهايات الدولة الأموية، واستمر نشاطهم حتى أيام المهدي. وكان الخناقون يقتلون الناس بالخنق، أو بالتشميم، يعقبه القتل بالحبل أو الحجارة.
يقول الجاحظ في كتابه (الحيوان): “إن الخناقين يظاهر بعضهم بعضًا، فلا يكونون في البلاد إلا معًا، فربما استولوا على درب بأسره، أو على طريق بأسره .. وفي كل دار كلاب مربوطة دفوف وطبول، ولا يزالون يجعلون على أبوابهم معلّم كُتّاب منهم، فإذا خنق أهل الدار إنسانًا ضرب النساء بالدفوف، وضرب بعضهم الكلاب، فسمع المعلّم فصاح في الصبيان: صيحوا، وأجابه أهل كل دار بالدفوف والصنوج .. فلو كان المخنوق حمارًا لما شعر بمكانه أحد”.
ويروي الجاحظ كذلك عن أفعالهم:
لأن من الخناقين من يكون جامعًا، وبذلك يسمونه إذا جمع الخنق والتشميم وحمل معه في سفره حجرين مدملكين ملحلحين، فإذا خلا برجل من أهل الرفقة(أي في السفر)، استدبره فرمى بأحدهما آخر رأسه، وكذلك إن كان ساجدًا ..
أثر الشعوبية في ظهور الفرق
نادى معظم الشعوبيين بأن الإسلام ليس دين العرب لوحدهم، وليس للعرب فضل في نشر الدين، وتطور هؤلاء الشعوبيون في هذه المزاعم إلى محاولة تفسير الإسلام على ضوء العقائد الوثنية، فقامت حركات الزنادقة التي اتخذت في نظرهم صورة إصلاحية.
وأول من استعمل هذه الكلمة “الزندقة” هم الفرس كما يرى المسعودي، فقد كانوا يطلقون على من انحرف عن ظواهر التنزيل إلى التأويل “زندي”، نسبة إلى زند الذي قام على التأويل، وقد أخذت العرب عن الفرس هذه الكلمة، وقالوا: زنديق.(11)
وترددت كلمة زندقة في المجتمع الإسلامي كثيرًا في العهد العباسي، أما في العهد الأموي فنراها نادرة، وقد أطلقت هذه الكلمة في العهد الأموي على عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد، واتهم الجعد بن درهم بالزندقة كذلك.
ويرجع السبب في انتشار هذه الكلمة في العهد العباسي كما يبين أحمد أمين إلى سببين، أحدهما: أن الزندقة من معانيها الشك والإلحاد، وتقترن هذه الكلمة بحركة البحث العلمي، وهذا في العصر العباسي أظهر، ذلك أن علم الحديث والتفسير والفقه هو الذي شاع في العهد الأموي ومثل هذه العلوم لا تثير الشك، إنما ما يثير الشك ويلعب في الأنفس هو علم الكلام والجدال الديني في مسائل الأديان، والبحث الفلسفي، وهذا ما كان منتشرًا في العهد العباسي.
أما السبب الثاني فهو أن الفرس عندما شاهدوا انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين ولم تتحقق مطامعهم، وقد كانوا يرجون حكومة فارسية في سلطتها ودينها، ورأوا أن ذلك لا يتحقق في سلطة الإسلام، فأخذوا ينشرون المانوية والمزدكية والزرادشتية وكان من ذلك شيوع الزندقة.
وبيّن ابن حزم ذلك في كتابه الفصل، فيقول: “والأصل في خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم .. وكانوا يعدون سائر الأمم عبيدًا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكان العرب أقل الأمم عند الفرس خطرًا، تعاظم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة، ورموا كيد الإسلام.. فرأوا أن كيده على الحيلة أنجح.” (12)
ولم يكن لمعنى الزنديق عند عامة الناس مثل دلالته عند العلماء؛ فالعامة كانوا يطلقون على المستهتر الماجن زنديقًا، أما العلماء فيعنون به اعتناق الإسلام ظاهرًا، والتدين بدين الفرس باطنًا. فقد كان ثمة طائفة ترى أنه لا سبيل لنيل الجاه والسلطان إلا بالإسلام، وقوم منهم يرون أنه لا يمكن إفساد عقيدة المسلمين إلا بالانتساب إليها، وبثّ المعاني الوثنية في الأفراد أو الجماعات.
وبذلك فقد اتخذ مفهوم الزندقة دلالات عديدة مع الزمن، فبدأ يطلق على المانوية والذين يثبتون أصلين أزليين للعالم: هما النور والظلمة، ثم اتسع ليطلق على صاحب كل بدعة، وانتهى أخيرًا ليطلق على المخالف لمذهب أهل السنة، أو حتى من كان يحيا حياة المجون من الشعراء.(13)
كما أطلقت الزندقة على أتباع ديانة فارس من غير أن ينتحلوا الإسلام، وقد أثروا هؤلاء في الصوفية والنصارى، فكان منهم من يبغض الدماء، ويرون أن ذلك نوعٌ من القسوة، وأما الرحمة فهي شكل واحد، فمن لا يرحم الحيوان لا يرحم الإنسان.
كما للزندقة معنى آخر، أطلقه الجاحظ على قوم جحدوا دين الناس جميعًا، فهي بذلك مرادفة للدهرية والإلحاد، قال أبو العلاء في الرسالة: والزنادقة هم الذين يُسمَّون الدهرية، لا يقولون بنبوة ولا كتاب.
وعلاقة الزندقة بالشعوبية علاقة وثيقة، ولا يمكن فهم الشعوبية بغير إرجاع حركة الزندقة في معظمها إليها كما بين طه حسين في حديث الأربعاء. كما أن العرب والإسلام في نظر الشعوبية بينهما رباط وثيق.
وأغلب زعامة الفرق التي ظهرت في الإسلام كانوا من أصول فارسية، فالإسماعيلية أوسع الفرق الباطنية- ارتبطت بالفرس، وقام أحفاد ميمون القداح وهو أهم أتباع محمد بن إسماعيل بإرساء قواعد الدولة الفاطمية.
وقد أورد الغزالي ارتباط الباطنية بالشعوبية-والباطنية جزء من الزندقة- فيقول في كتابه فضائح الباطنية: “طائفة انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام، كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس المستطيلين، فهؤلاء موتورون، قد استكن الحقد في صدورهم كالداء الدفين ..” (14).
ونجد آثار الشعوبية والزنادقة على الفرق في مبحث الألوهية، فالقول بالإشراك ووجود إلهين في الكون ديانة الفرس القائمة على النور و الظلمة. وقد ظهر أحمد بن خابط في عصر الواثق يزعم أن للخلق ربين؛ أحدهما الخالق وهو القديم، والآخر مخلوق وهو عيسى ابن مريم، واستشهد على ذلك بالقرآن الكريم، والأحاديث لإثبات مزاعمه.
وظهر في العهد العباسي حركة بابك الخرمي، وهي من أخطر حركات الزنادقة، وعاشت هذه الحركة عشرين سنة، وغذّت تيارات الشعوبية في صراعهم مع العرب، وأنعشت عقائد المجوس والتعاليم الإباحية.
وزعمت البابكية أن الرسل جميعهم لهم روح واحدة، كما يقولون بالتناسخ، وأن الوحي لا ينقطع، وكل ذي دين مصيب، ويعظمون من أبي مسلم الخراساني، ويلعنون أبو جعفر المنصور، ويتبركون بالخمور والأشربة، ومنهم من يقول بشيوعية النساء.
ويعرض الشهرستاني آراء للرزامية*، والتي نادت بترك الفرائض، وجعلوا الدين إمامة، وأداء للأمانة، ومن حصل له الأمران فقد وصل للكمال، وارتفع عنه التكليف.(15)
وقد ظهرت كذلك فرقة القرامطة، الذين يذهبون إلى أن الله يتجسد في صورة بشرية، حتى يتمكن للبشر أداء عباداتهم إلى تلك الصورة. وبما أن العقل الكلي هو الإله، والإمام هو ممثل العقل، فإن العبادات والصفات الإلهية متجهة إليه، أما زعماء القرامطة فقد كانوا من الفرس أمثال: حمدان قرمط .
كما اتبع الزنادقة أسلوب الرسائل لبث أفكارهم الحلولية، وذلك عبر كتابة الرسائل ونشرها بين جموع الناس، وكان من بين هذه الرسائل؛ “رسائل إخوان الصفا”، وقد كانت من رسائل الإسماعيلية، وتقول هذه الرسائل بنظرية الفيض للتدليل على آرائهم في الألوهية.(16)
وقد استعملت أغلب فرق الزنادقة فكرة الحلول، وجعلوا الأنبياء والأئمة ممن يحلون بالذات الإلهية، وقد اجتروا آيات من القرآن الكريم، لإضفاء الحجة على ما ذهبوا إليه، ومن هذه الآيات قوله تعالى: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي.”(17)
ولم تكتف حركات الشعوبية والزنادقة من تغيير فكرة التوحيد الإسلامية والجدل فيها، وانتقل الكلام إلى الحديث في النبوات، فزعمت الغرابية أن جبريل أخطأ في الرسالة، فبدلًا من إرسالها لعلي أرسلها لمحمد.
وادعت الإسماعيلية أن النبوة لا تنقطع، فلا مانع من ظهور نبي في الدور بنسخ شريعة سابقة، وبذلك فانتظار نبي ينسخ عقيدة القرآن هو انتظار لفتح عهد جديد، يعطل قيامه شريعة محمد عليه السلام.
أبرز الشخصيات التاريخية المنسوبة للشعوبية
المقنع.
يسمى بالحكيم المقنع، وينسب إلى قرية من قرى مرو بخراسان، وقد كان قبيح الخلقة وأعورًا، وسمي بالمقنع لاتخاذه قناعًا يستر به قبح وجهه، فصنع قناعًا من ذهب على صورة شكل إنسان وركبه على وجهه، وزعم أن سبب لبسه للقناع لأن وجهه يشع نورًا ساطعًا يبهر الأنظار، وقد يحرق من ينظر إليه.(17)
وقد كان يعتنق الرزامية بداية أمره، وهم فرع من فروع الشيعة الكيسانية، ثم نادى بنظرية تناسخ الأرواح، كما ادعى الألوهية، وطلب من أنصاره أن يعبدوه ويسجدوا له.
وقد كانت ترى المقنعية أن روح الله قد حلت بأبي مسلم الخراساني، مما أدى إلى انتصاره على بني أمية، وينكرون أنه مات، بل يقولون أن الشيطان تمثل على صورة أبي مسلم.
وعمل المقنع على هدم أركان الإسلام، فأسقط الصلاة والصيام والحج والزكاة، وأباح لأتباعه اتباع تعاليم مزدك الداعية إلى الإباحية والفوضى المجتمعية.
ويمتاز المقنع عن غيره من الزنادقة بادعائه للمخاريق والحيل، ولم يمكن لعامة الناس من فهمها، فحملهم ذلك على الإيمان به. كما كان يستخدم آيات من القرآن ليضفي عليها الدلالات التي تتناسب مع دعوته. فقد ادعى أن قوله تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس..”، بأن إبليس استحق اللعنة لأنه لم يسجد لله المتجلي بصورة آدم، تلك الصورة التي انتقلت إلى الأنبياء وحتى محمد، ثم إلى المقنع نفسه.”(18)
نهايةً، يبدو أن فهم دواعي شيوع الشعوبية وما تحمله من زندقة مردّه إلى ثلاثة من العوامل الرئيسة: وهي أن أقوامًا من العجم أرادوا سلطانًا ومناصب ولا يستطيعون لها سبيلاً إلا إذا أسلموا، فكان الإسلام شكلاً ظاهريًا يخبّئون فيه حقيقة نفوسهم. كما كان هنالك دعوة تمجيد العقل وازدراء الأديان، والإشادة أن العقل إمام ولا إمام بعده. كما ظهر من بين العجم من أرادوا تفكيك عقائد المسلمين والعمل على تشويه فكرة التوحيد، فاتخذوا من الدين وسيلة ليلتف الناس حولهم، ويأخذوا بكلامهم وحججهم.
المصادر (1) الحجرات: 13. (2) فوزي، فاروق عمر، نشأة الحركة الدينية السياسية في الإسلام، ص 271. (3) المرجع نفسه، ص271. (4) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص56. (5) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص 63. (6) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص 29، 30. (7) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص34. (8)انظر: الدوري، عبد العزيز، الجذور التاريخية للشعوبية، ص37 -40. (9) انظر: بدوي، عبدالرحمن، من تاريخ الإلحاد في الإسلام، ص35. (10) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص75. (11) انظر: الخطيب، محمد، الشعوبية والزندقة وأثرهما في ظهور العقائد، ص11. (12) ابن حزم، أبو محمد علي، الفصل في الملل والنحل، ج2، ص115. (13) انظر: أمين، أحمد، ضحى الإسلام، ص146 (14) الغزالي، أبو حامد، فضائح الباطنية، ص 39. (15) الشهرستاني، أبو الفتح، الملل والنحل، ج1، ص 178. *الرزامية: أتباع رزام بن رزام، ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد، ثم إلى ابنه هاشم، ثم منه إلى علي بن عبدالله بن عباس بالوصية، ثم ساقوها إلى محمد بن علي. وهم من غلاة الشيعة، يقولون بإمامة أبو مسلم الخراساني. (16) انظر: الخطيب، محمد، الشعوبية والزندقة وأثرهما في ظهور العقائد، ص29. (17) انظر: المرجع نفسه، ص 30. (18) انظر: الليثي، سميرة مختار، الزندقة والشعوبية، ص 124