وهم تجديد الخطاب الديني!
سلفيون يجاهدون، وتنويريون يقرُّون في بيوتهم!
ماذا فعل دعاةُ السلفيين لكي ينشروا في المجتمع المصري قيمةً لا دورَ لها في إحداثِ التقدُّم، مثل وجوب إعفاء اللحية (حتى تشعُّثِها) وحفِّ الشارب؟ وماذا تكبَّدوا لكي يشغلوا عقولَ الناسِ بقول الرسول:
(لولا أن أشقَّ على أمَّتي أو على الناس لأمرتُهم بالسواك مع كلِّ صلاة)؟
لا شكَّ في أنهم ضحَّوا، وبذلوا جهدًا هائلًا في سبيل إذاعة هذه الأفكار، والإلحاح على أسماع الناس حتى يألفوها، ويلتزموا بها فيما بعد. وقد قال أحدُ كبار الدعاة ذاتَ يومٍ، أنه كان يذهب إلى قرى نائية، لا تصل إليها الطُّرُقُ المعبَّدةُ، فيُضطر – كلما قصد إحداها – إلى استقلالِ عربةٍ يجرُّها حمار أو حصان، لا تكاد تنتظمُ في سَيْرِها، لكثرة ما يعرض لعجلاتها من المطبات والحفر! عانوا، ومرُّوا بمعاركَ فكريةٍ، وانبروا لمناظرة من يعارضون منهجهم، وبثُّوا في كلِّ قريةٍ فارسًا جادًّا، يجِدُ في نفسه خليفةً لعبد الله بن عباس أو أبي ذر الغفاري في الدعوة إلى الله، والذَّبِّ عن الدعوة السلفية.
تواصلَت تضحياتُهم لسنين، ولم يبخلوا في الإنفاق على دعوتهم؛ فهم آمنوا بقضيتِهم، وسعوا جاهدين صوب بناء المجتمع الفاضل وفق رؤيتهم، وها نحن الآن لا نكاد نجد عائلةً في مصر تخلو من سلفيٍّ يُبغض الموسيقى وفنَّ البورتريه و(النَّصارى)، ويرى أن السواك يغنيه عن فرشاة الأسنان، وأن سن التاسعة مناسبةٌ تمامًا للبِناء بـ (الأنثى)!
على الصَّعيد الآخر، نجد المفكرين المتأنقين، يُمعنون في معاداة التيار السلفي، ويصفون مشايخه بالتخلف والرجعية، ويذيعون آراءهم في مقالاتٍ، تُنشَر في صُحُفٍ لا يقرؤها أغلب العوام، ويتحدَّثون في برامج لا يتابعُها إلا قليلٌ من الناس، بمصطلحاتٍ معقَّدةٍ، وصلافةٍ وكِبرٍ، فلا يلتفتُ إليهم أحدٌ. وإذا نودوا: فليتبرَّع منكم أحدٌ لتوعية الناس عن مخاطر الزواج المبكر، وتحذيرهم من قيمةٍ متخلفةٍ مثل (العيِّل بييجي برزقه) ارتفع استنادًا إليها معدَّلُ النمو السكاني في مصر إلى 2,56 % سنويًّا، أعرَضوا وتكاسَلوا. وهم في المشاركة السياسية، والعمل الأهلي، وتكبُّد مشقة توعية البسطاء، زاهدون.
والعجيب أن من هؤلاء (التنويريين) من يحسب أنَّ دوره ينتهي عند مقالٍ (تنويريٍّ) يكتبه على الفيس بوك، ويحصد 20 ألف لايك. أيُّ وزنٍ لرأيِ عشرين ألفًا وأيُّ تأثير؟! ألم يأتهم نبأ عدد سكان مصر في الإحصاء الأخير؟!
استطاع السلفيون في السنوات الماضية إثباتَ أنهم أشدُّ إيمانًا بقضيتهم، وأعظمُ دهاءً في الترويج لمنتجهم الفكري التراثي، وأقدرُ على تحمُّل مشقةِ الدعوة، بمخالطة الناس ومحاورتهم ومحاولة إقناعهم وإضعاف حُجَّة من ينافسهم. هذا ما فعلَه مَنْ ترونهم (رجعيين) أيها التنويريون! فَهِموا الواقعَ المصريَّ أفضلَ منكم، وجاؤوه بما يلائم الحالة الاجتماعية الراهنة من أفكار، واجتهدوا في نشرها، بالطريقة المُثلى لنشر الفكر في مجتمع غيرِ متطوِّر: الاجتماع بالناس – استمالتهم – التأليف بينهم وبين الأفكار التي يُدعَون إليها.
أصل التطرُّف
ولا يزال (التنويريون) إلى اليوم يجاهرون بالدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، غيرَ منتبهين إلى حقيقة أنَّ التطرُّفَ الذي نعاني منه الآن، وانتشارَ الفكر السلفي المنغلق، ليس مردُّهما إلى خطابٍ دينيٍّ قديمٍ خاطئ. إن هذا الظَّنَّ ناتِجٌ – وفق رأي الدكتور جلال أمين – عن فهمٍ غيرِ سليمٍ للعَلاقة بين الفكر والواقع؛ فسيطرة مجموعة من الأفكار على أذهان الناس، هي في الغالب نتيجة سيادة ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية معيَّنة، أدَّت إلى شيوع هذه الأفكار دون غيرِها.
وقد استطاع السلفيون – بدراستهم المستفيضة لملامح المجتمع المصري – أن يأتوا بالفكر الملائم لأحلام المواطنين، وثقافتهم، وحالتهم الاقتصادية، فراج مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة، وراجت السلفية الجهادية، وتراجعت تمامًا قيم التسامح، وقبول الآخر، وارتدَّ الناسُ قبائلَ تقتَتِل، وركنَ كلُّ فريقٍ إلى ما يلائمه، فمارس الجهاديون العنف، وانطوى السلفيون في جماعاتهم المنغلقة التي تتمدَّد بكل مساويها، من اتِّجارٍ في الدين، ومناقضةٍ لروح العصر.
اقرأ أيضًا: إشكالية التطرف الديني بين العصر والنص
وهم (تجديد الخطاب الديني)، والعَلاقة بين الإسلام والأميبا!
لقد أثبت التنويريون (المتأنقون) بدعوتهم إلى تجديد الخطاب الديني، أنهم شديدو الجهل بطبيعة الدين الإسلامي، ككيانٍ فضفاضٍ، سهلِ التلوُّن، وفقًا للظروف التي تعرض لأتباعِه. هذه هي طبيعة الإسلام، التي أتاحتْ له الصمودَ طوال هذه القرون. فالنص المقدَّس الذي إليه يستند الإسلام، نصٌّ مفتوح متعدِّد الدلالات والتآويل، ويناقش كثيرًا من المعضلات التي تواجه المسلم في أوان الحرب والسلم. القرآن هو (نظام تشغيل) الإنسان المسلم، ومثل كل نظام تشغيل، يمتلك القرآن أنظمة حماية، وأنظمة طوارئ، وأنظمة أمان، تؤدي في النهاية إلى تكيف المسلم مع حالاتٍ مثل الفاقة والاضطهاد والحرب والسلم والحكم الاستبدادي.
وبهذا يمكننا أنَّ نعتبر أنَّ الخطاب الديني واحد، واسمه: (الإسلام). وهذا الخطاب يتشكل مثل الأميبا، فتخرجُ منه لكلِّ متغيِّرٍ اجتماعيٍّ، قدمٌ كاذبةٌ تلائمه!
والقدمُ الكاذبةُ التي خرجت في وجه هذا العصر الذي تسوده قوة عظمى واحدة تريد أن تصبغ العالم بثقافتها، وتعتمد على الأنظمة المستبدة في العالم العربي لدعم قراراتها؛ هذه القدم الكاذبة هي السلفية الجهادية، وأختها الصغرى التي نسميها في مصر بـ (الدعوة السلفية)؛ وهي ليست خطابًا دينيًّا يمكن تقويمه، بل هي برنامج (بِلُغة الكمبيوتر!) ألجأ الناسَ إليه، تهديدٌ لنظام التشغيل الذي يحيون في هَدْيِه! فإذا تغير الواقع، وتحسنت الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فسوف نرى قدمًا كاذبةً بديعةً، تلتف من حولنا في شِبْهِ عِناق، وتجمعنا على كلمة السلام، وتشبه القدم التي اهتدى إليها السُّهروردي والحلاج وجماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء، وجعلوها وشاحًا لكتاباتهم التي خرجت بالإسلام من الظاهر السَّطحي، إلى أفقٍ أرحبَ، تغذوه فكرة راقية هي وحدة الوجود. ولا حاجة للتذكير بأن القرآن صرَّح بهذه الحقيقة الكاشفة لطبيعة عمل (السوفت وير) الإسلامي قبل أربعة عشر قرنًا في سورة الرَّعد. “إن الله (كلمات القرآن) لا يغير ما بقومٍ (من قناعاتٍ وموروثاتٍ ثقافيةٍ وأعرافٍ) حتى يغيروا ما بأنفسهم (نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية)”.