وُلدَت الديمقراطية من رحم أبوين شرعيين هما الإصلاح الديني والتنوير الفكري، فعندما تم تخليص “المقدَّس” من لوثة “المدنَّس”، أي توقّف المؤسسة الدينية عن لعب دور الوسيط بين الإنسان وخالقه وبالتالي السيطرة على حياة البشر والتفرّد بشؤون الدين والدنيا، ولما نجح المفكرون المستنيرون أمثال مونتسكيو وروسو وفولتير في تمرير أفكارهم الإنسانية، أصبحت الظروف الموضوعية مهيئة لنشوء الديمقراطية وازدهارها.
وهذا الذي حصل في الغرب وكان سببًا في تفوقه الحضاري لم يحصل في العالم العربيّ، وحتى في بعض الأقطار التي فصلت الدين عن الدولة، كما في تونس خلال الجمهورية الأولى بمرحلتيها، فإن الفكر التنويري لم يستطع اختراق الفئات الشعبية والتأثير فيها، بل وجد صدًّا عنيفًا في أغلب الأحيان تمثّل في ما تعرّض له مفكّرون مستنيرون أمثال محمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين في مصر، والطاهر الحداد والفاضل بن عاشور وسليمان بن سليمان في تونس، على سبيل المثال وليس الحصر، من عسف واضطهاد ورفض.
وحتى المحاولات “الديمقراطية” أو الشبيهة بها، التي شهدتها بعض الأقطار العربية على امتداد العقود الماضية باءت بالفشل الذريع، حيث تم اختزال الممارسة الديمقراطية في صندوق انتخاب يوفر الفرصة لتكتّل الذين لا يعلمون ضدّ الذين يعلمون، وبالرغم من مرور ثلثي القرن على هذه المحاولات، وتطوّر المستوى العامّ للشعوب العربية واندلاع ما اصطُلِح على تسميته بـ “الربيع العربي” فإنّ بوادر الخلل ذاته ظهرت مجددًا في التجارب الديمقراطية الراهنة وخاصة في بلادنا.
من هذا المنظور بالذات تصبح الإجابة واضحة عن السؤال الأزلي: “لماذا تنجح الديمقراطية في العالم المسيحي-اليهودي، وتتعثر في الربوع الإسلامية؟”.
يعرف قياديو حركة النهضة وعلى رأسهم الشيخ راشد الغنوشي أنّ الديمقراطية التي دأبوا على تأكيد اندراجهم في منظومتها والتزامهم بقوانينها ومبادئها وشروطها، لا يمكن أن تنجح في ظلّ التمسك بربط الديني بالسياسي، لأنّ القاعدة هي الفصل بينهما، فحتى مايسمى بالأحزاب “الديمقراطية المسيحية” التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية اعتمدت على قولة المسيح “ما لقيصر لقيصر وما لله لله” في التزامٍ واضحٍ بفصل الدين عن الدولة، وهو ما كان منتظرًا ، في وقت من الأوقات من حركات “الإسلام السياسي” المطاردة من الأنظمة العربية ووجدت ملاجئ في أوروبا وأمريكا بسبب ما كانت تروّج له من أنّ الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية على أساس: “وأمركم شورى بينكم”.
كانت الفرصة قد سنحت أمام حركات “الإسلام السياسي”، بعد تغيُّر الأوضاع في العديد من البلدان العربية بدءًا بتونس، للاندراج في المسار الديمقراطي على أساس تطبيق أهمّ شروطه وهو فصل الدين عن الدولة، لكنّ التجربة فشلت فشلًا ذريعًا في مصر لأنّ حركة الإخوان المسلمين التي فازت بالانتخابات الرئاسيّة والتشريعية في أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر، وبفارق ضئيل جدًا، تجاهلت النصف الثاني من الناخبين الذين لم ينتخبوها، وانطلقت في “أخونة” المجتمع المصري الذي يضمّ نسبة هامة، تفوق العشرة بالمائة، من الأقباط المسيحيين. وأكثر منها أضعافًا من العلمانيين الذين يطالبون بدولة مدنية، دينها في المساجد والكنائس والمعابد الأخرى.
هذا الخطأ التقديري للإخوان المسلمين أسقطهم في فخّ ازدواجية الخطاب، مما برّر في نظر بعض القوى الأجنبية كأمريكا والبلدان الأوروبية الانقلاب العسكري الذي قام به السيسي.
كان فشل التجربة المصرية قد أيقظ لدى صنّاع القرار في أمريكا وأوروبا رغبةً في مراجعة مواقفهم من “الإسلام السياسي”، وذهبت بعض البلدان على غرار الولايات المتحدَّة وبريطانيا إلى حد تصنيف حركة الإخوان المسلمين “منظمة إرهابية”. وبدأت الضغوطات تحاصر بقيّة الحركات الإسلامية في البلدان العربية، بما فيها تونس، للقطع مع “الإسلام السياسي” والتنصُّل من الانتماء لحركة الإخوان المسلمين، وإعلان الاندراج الكامل في المنظومة الديمقراطية وتطبيق أهمّ شروطها أيْ : “فصل الدين عن السياسة”.
قد يعجبك أيضًا
حملَ زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، أثقال كل هذه الضغوطات على أكتافه، وكان لا بدّ من مواكبة المستجدّات الحاصلة وإيجاد صيغة ناجعة للحفاظ على الحركة من جهة والتمسك بجوهر ميثاقها من جهة أخرى، وهي معادلة صعبة جدًا، وظهرت تداعيات الإعلان عنها على لسان راشد الغنوشي في افتتاح المؤتمر العاشر لحركة النهضة لتندلع شرارة الصراع المكشوف بين الإصلاحيين والمحافظين المتشددين.
كاتب وباحث ومفكر تونسي باللغتين العربية والفرنسية ، خبير في التنمية البشرية والسياسات العامة لدى العديد من المراكز والمؤسسات العربية والدولية المختصة . من تآليفه العديد نذكر بالخصوص : آفات وثقافات ، الإنسان والمبدع ، السياسات الثقافية في تونس من سنة ١٩٥٦ إلى سنة ٢٠١٠ ، fléaux et cultures.