موقفٌ إنساني من اعترافات روسو
“ولد الإنسانُ حرًّا، وهو أسير القيود في كلّ مكان“، تلكَ الجُملة التي جعلت من أهمّ كتب روسو -العَقد الاجتماعيّ- مشهورًا على نطاق عالميّ، ويُحتفل به في الغرب إلى يومنا هذا مُنذ 300 سنة في ذكرى ميلاده.
يمثّل روسو بين فلاسفة معاصريه الاختلافَ الحقيقي لجذورِ التفكير في ذلك الوقت، فقد دفعَ التفكير السياسيّ والأخلاقي إلى قنوات أحدثت ثورةَ إصلاحات لعالمه. تقريبًا، لم يخلُ الحديثُ عن روسو من أيّ كتابٍ سياسي ولا حتّى عن تأثيره على المفكرين وعلى المجتمع خاصّةً للثورة الفرنسية (1789)، وبذلك جعل الحريةَ كالطموحِ العالمي، حتى صار له هو الأثر العالميّ.
كتاب “الاعترافات” لجان جاك روسو
علامةٌ أدبيّة لعبقريّات الأدب العالمي الإبداعيّة؛ لاغتفار وتبرير ذنوبه التي تحتوي على معلوماتِ السيرة الذاتية الخاصة حوله، ولم ينشرها إلا بعد وفاته عام 1782، حيث دأبَ على العمل عليها منذ عام 1766. أما في عام 1770، تم الانتهاء منها وقراءتها أمام الجمهور في باريس قبل أن تُنشر.
إنَّ حياة أيّ شخص لكونه فردًا، تمثّل حريّة لهُ ولا يهمُّ نقدها أو التعليق عليها من الآخرين، لكنّ المفكرين -وهم رموزُ الحياة والفكر- تمثّل حياتهم نبعَ ثقافتهم وأفكارهم التي أتوا بها للمجتمع، فلهذا المَرَدّ من الأخذ والعطاء وجرأة المفكر لطرح الأفكار التي تمثّل خضوع للمجتمع أو التمرُّد عليه؛ يجعلُ التعليق على فكره وتأثير حياته عليه أمرًا طبيعيًّا خاصةً إذا كان بصورةٍ إنسانيّة.
موقفٌ إنسانيّ من الاعترافات
إنَّ أهمّ الأمور التي تمثّل وهجة الحَيْرة لقارئ الاعترافات والملاحظةُ للمتناقضِ بين من يعرفُ روسو المفكّر وصاحبَ النظرية عن التربية والفرد والمجتمع؛ كيف له أن يطرحَ بأطفاله الخمسة في ملجأ للُّقطاء؟ برز الأمر في أدبيّة اعترافاته بوضع وشامٍ يميِّز الطفل الأول لكنَّ بقيّة الأطفال اعتاد الأمر معهم على وضعهم في الملجأ، أين كانت منابع الأبويّة التي توجد بصورةٍ فطريّة لأي أبّ -أنستثني البعض-؟ نطرح هنا النقد بصورة إنسانيّة ناقضةٍ لفكره ليسَ أكثر، ليسَ بصورةِ الذي يؤنّبُ ويلومُ هذا المُفكر، فقد كانت إحدى أهمّ أهدافه في كتابه الاعترافات هو شعورُ القارىء بروسو الإنسان، ولأيّ مدىً كانت الأمور أوضح لعرضها في مذكراته ليحملَ القارئُ صورةً عن حياته ويلتمسَ له العذرَ وشعورَ الصدقِ من ناحيته.
بالرغم من محاولة الباحثين دراسةَ هذا الأمر، فيقولُ الأستاذُ محمد حسين هيكل بأنّه لم يكن هناك دليلٌ على رؤية تريز -المرأة التي عشقها وكانت مدبّرة منزله حتى تزوّجها بعد ذلك –من قبل السّيدات الراقياتِ الّلاتي كُنَّ يَزُرن روسو في داره- على أيّ علاماتٍ للحمل! وأراد بهذا الزعم أن يَرُدّ اعتباره، كونه خجولًا بينَ النساء.
وقال آخرون إنّ روسو لم يقل في اعترافاته أنه نقل أبناءه بل بشكلٍ أدق، أنّ تريز هي التي كانت تخبره بخبر الحمل وهي التي كانت تأخذ على عاتقها إيداعَ الطفل. من الجدير بالذكر أنه كان لأمِّ تريز مصلحةٌ في ذلك في توثيقِ صلته بتريز، وتحقيق طلبات تلك الأسرة -أيّ أسرةُ تريز- والغريبُ أن أطفاله الخمسة كانوا على فترات قريبة من بعضها، إلى جانب أنّها كانت عادةً المكانَ المقيم فيه حينها وظروفه في ذلك الوقت، فلم يكن الأمر مستثنى من قبله.
ورأى البعض أن تريز حملتْ خفية، ولكنْ غير جان جاك ما يجعله أقل فظاظة؛ فإنّه لم يحسَّ في أعماقه بأيّة شعور أبويّ وحنانٍ للابن، وأمّا تبريره لعمله هذا فيختلف بمضيّ الزمن بين ثنايا كتبه السابقة وتعاقب الأبناء، فحياة روسو كانت مشرّدةً وأقربَ ما تكون إلى الّلقطاء؛ وهذا هو السبب في أن الأعذار التي قدمها عند ارتكابه هذا الأمر للمرة الأولى لم يكن فيها أيّ شيء من معنى الأسف أوالألم، فشعوره تجاه هؤلاء الأبناء مثل شعورِه بنفسه وبحياتهِ التي تشبِه حياتهم ستشبهم.
ويقال أنه بلا شك يوجدُ ميلٌ واضحٌ في أطروحته عن تربية الأطفال والتي ما هي إلا محاولةٌ للتكفير عن أخطائه، فمن ناحية رسم روسو حياة معقولة لتلك الأطفال أن ترعاهم الدولة بدلًا من حياته غير المستقرّة، ومن أسرةِ زوجته التي لم يرد تربية أطفاله على يديهم، وعلاقته غير الشرعية بتريز قبل أن يتزوّجها فيكونُ الأبناءُ حينها غير شرعيينَ وهذا ما رفضه، ورأى مستقبلهم أن يصبحوا عمالًا أو تأخذهم أسرة ترعاهم على مستوىً أفضل من ذلك.
ولم نقدم من ذلك تبريرًا وتعاطفًا لاعترافات روسو ومن ذلك الموقف بالتحديد، لكن ما نتأكَّد منه هو مثاليّة روسو في فكره ورؤية العالم الواقعيّ يتحوّل في عقله إلى صورةٍ نموذجيّة “بما يجب أن يكون”؛ وهذا ما جعل فكره مختلفًا ولافِتًا للنظر، برغم حديثه عن واقعية السياسة والحياة الاجتماعية، إلا أنه كان يميل بها إلى المثاليّة ونموذج الفكر الإيجابيّ؛ لكي يقتدي الناس به، ومثالية روسو هنا ليست كمثالية أفلاطون؛ بل إنّها تتخطى حواجزها إلى الواقع؛ لكي يرسم صورة للناس مبسطة في تطبيقها، قد تكون تلك المثاليّة فرضها مع أبنائه بسبب واقعه بالصورة التي كان يراها لهم فكان مقتنعًا بما فعل فيقول:
وفي أمانةٍ تامّةٍ بيني وبين نفسي وفي اعتزازٍ مفرطِ الصدق بي، عن الرغبة في أن تكون أعمالي مكذِّبة لمبادئي، شرعت أَدْرُسُ مصيرَ أولادي وعلاقتي بأمّهم على ضوء قوانين الطبيعة والعدالة والعقل والدين، الدينُ القدسيّ الأزليّ، هذا السّلطان الذي كانت تفرضه عليّ علاقاتي بهم، وهذه الّلوعات القاسية التي كنت أعانيها إذا ما اضطررت إلى قطع العلاقات –أيّ أن روسو كان مرهفَ الإحساسِ مع الآخرين ما باله مع أولاده وما سيحدث لهم فقد كان في ظروف معيشية لا تسمح بوجود أولادٍ مسؤول عنهم– فسأكتفي بأن أقول إن غلطتي كانت على هذا النسق: إنني سلّمت أولادي إلى الدولة لتربيتهم لعجزي عن تنشئتهم بنفسي.
وبصورةٍ إنسانيّة قد لا يكون المرءُ عاشَ حياةَ هذا الشخص اليتيم، المغامرُ واللقيطِ والحسّاس، والمبغضِ الكاره لمن لا يشاطره صدقَ التعامل؛ حتى خسر بعض من أصدقائه بسبب ذلك، فيمكن أن يكون هناك أسبابٌ أخرى لا نعلمها أو أن الرّؤية غير واضحةٍ فحياة كل فرد سلسةٌ من الارتباطاتِ وخيوطٌ تتشابه مرادفاتها وليس بمعناها الحقيقي. نأخذ على عاتق الأمور جوانب إنسانية أخرى هي أفضل ما فيه فتلك المواقف لا تمثل روسو الإنسان ككل، بل ما يحمله من أخطاءٍ ليسَ كلها جوانح الجحيم كباقي نوابعه الإنسانية.
فلم يكن هذا الموقف البسيط فحسب -وضع أولاده في الملجأ– منع عنه اتهاماتٍ مجاورة وتقديم النقد له، فمنها غرامياته الكثيرة لا يدّعي أمام الناس أنه مفكّر للفضيلة فقد عاش كما عاش بتلقائيّة مغامرًا وتحدث عنها باعترفاته، فلا نقدم بين بنود كشف أسرار التبرير وعاطفة تشبعك وأنت تعيش مع الكاتب سوى إنسانيّة سرد الاستماع وكأنك صديق يسمع لا يلوم، فأثر ذلك الكاتب بين حياته وفكره تجعلك تستمر في الجلوس معه؛ للإعجاب بفكره بين هفوات التي ملأت حياته وعقباتها التي بثّت الإبداع فيه، لا تجعلك تتصور أن هذا المفكر كانت تلك حياته لذلك نقده الكثير،” فإذ نويت قراءة مؤلفات روسو وسمعت أنه وضع أطفاله في الملجأ فلا ينتابك الفصل منه إلا بالشعور به عند قراءة الاعترافات”.
إلى جانب اتهامه بالنرجسيّة والذاتية فهو صاحب تطور المدرسة الرومانسيّة في العالم الغربي بين وصفه للطبيعة وأسلوبه الأدبي، فبالتأكيد إن اعترافات أي مفكرٍ يتسم بالذاتية فهو بطلها، ولم يكن بالنرجسي البحت، فقد عاش حياة المشردين ومشردًا عن وطنه فكيف يصبح نرجسيًا فقد حرقت كتبه فيقول “ماذا كتبت وبه أخطاء، فتحدثت عن السلام الدائم، هل إميل ملتاثا ولا الأسقف سافوا كافرا ..” وأتُّهم بجنون العظمة برغم أنه في آخر حياته كان مشردًا عن الوطن وعانى من مخادعة الأصدقاء فأصبح بأحواله تلك من ليس على طبيعته بالتأكيد.
هذا الموقف الإنساني ليس لتبرير اتهامات روسو ولكن مصداقية قراءة الاعترافات جعلت الأمور إنسانيّةً أكثر في الشعور بالكلمات، فليس من المعقول أن يعترف شخص بأوقح أخطائه ويكذِب فيها، فهي ليست إلا شعورًا صادقًا تتلمَّسه عندما يكونُ الكلام صادقًا أو إنسانيًّا بأخطائه.
“هذا الإنسان الذى عاش للآخرين أكثر مما عاش لنفسه!“.
اقرأ أيضًا: روسو يفوق حرّية حي ابن يقظان
المصادر: *تحليل كتاب الاعترافات 1- الاعترافات، جان جاك روسو، ترجمة مراد حلمي، دار البشير للطباعة والنشر. 2- جان جاك روسو حياته وكتبه، د. محمد حسين هيكل. 3- جان جاك روسو، نجيب المستكاوي، دار الشروق. 4- روسو مقدمة قصيرة جدًا، روبرت ووكلر، ترجمة أحمد محمد الروبي، دار نشر هنداوي.