روسو يفوق حرّية حي ابن يقظان

ينتاب القارىء للوهلة الأولى الشَّبه بين حرّية (جان جاك روسو) في تربية الطفل وبين الحرية التي تمتع بها (حي ابن يقظان) أثناء بحثه عن الحقيقة، لكن الأمر يختلف تمامًا عندما تقرأ الأمر للمرة الثانية أو للمرة الأولى إذا قمت بربط الأمور ببعضها، لأن التربية عند روسو تمثل البداية لأشياء كثيرة متدرجة وهي متدرجات سلم الفردية وقيمتها إلى المجتمع ومدى التّكامل بينهما بقيمة أكبر، وهي قيمة إصلاحية تخدم الجميع.

يتعلق الأمر بحركة تربوية جديدة تروم التأسيس لإصلاح ديني، لا ينفصل عن تنظيرات روسو السياسية والاجتماعية، إنّه جزء من مشروع تربوي متكامل يهدف صناعة إنسان جديد على أساس ما يوحي به الطبع الأصيل والوجدان السليم، وهذا ما عرف بالتربية الجديدة في الأدبيات الحديثة التي يعد كتاب  جان روسو “إميل” علامتها المفارقة والكبرى (1) .

تتبع روسو شخصية إميل من الولادة إلى الزواج مركزًا على ما تتطلبه كل مرحلة عمرية من تدابير وما تقتضيه من أشكال توجيهية ومقتضيات تربوية، حتى إذ بلغ الطفل -إميل- سن الخامسة، فتح مع مربيه ملف العقيدة الدينية، لا ليفرض عليه اختيارًا عقديًا معينًا، ولكن لكي يضع قدميه على طريق الاختيار السليم، وحتى يتمكن من اتخاذ قراره الاعتقادي هو وحده لا بعقل غيره من الأوصياء؛ سواء كانوا مربيين أو رجال دين أو فلاسفة (2) .

والذي يقود إلى دين الفطرة وهو طريق سيثير حتمًا غضب الفلاسفة لأنه يؤدي إلى الإيمان الديني ويتسبب في نقمة رجال الدين، لأنه يذهب إلى العقيدة الدينية مباشرة في بساطتها ووضوحها (3) .
فيلخص عبدالله العروى مقولات روسو في العبارات التالية:

“الإيمان في خدمة النفس، الدين في خدمة المجتمع، المجتمع في خدمة الفرد” (4)

نرى التشابه بين ما يؤكدة ابن طفيل على قدرات العقل الحر على التفكير المنطقي واتباع منهج البحث العلمي فيما يخص تعاملة مع عالم المادة، ويؤكد أيضًا على قدرات الروح الإنساني على التواصل مع الجانب غير المرئي من هذا الوجود الغامض (5) .
فإن (حي ابن يقظان) هي قصة رمزية تتناول حياة الإنسان في بحثه عن الحكمة والوصول إلى حقيقة الوجود لتبقى روحه معلقة بالجانب الإلهي وحده(6) .

إعلان

لكن نرى هنا جانب واحد وهو الإنسان وقيمتة وقيمة التفكير والعقل لديه، فظروف حياته كانت صنع فلسفة الفكر وحريته بين ما لا يمنعه ويقيّده، وهذا ما نراه بوضوح في التربية الأولى لدى الفيلسوف روسو؛ إنسان يتمتع بحرية تجعله ناشئًا على معناها وممارستها، فهنا حدّ حي ابن يقظان في حريته كان لعقله وحده وذلك لأن الفلاسفة حينها كانوا يريدون بهذا الإنسان صنع فلسفة فكرية فطرية منه وإليه مهما اختلف السبب ولكن لمضمون واحد.
ليس علينا منع أنفسنا بمناقشة التشابة الذى كاد روسو يذهب به بعيدًا عن منحى الواقع، فهو في البداية يشبه حرية حي ابن يقظان التي لا تتأثر بالآخرين، والتي تمتع بحرية العقيدة والاختيار، استنشاق معنى الحرية حد التأهيل لتقبلها على غيره، تكوين الأفكار. 

 والتي قسمها روسو أربع مراحل في التربية : الحياة الطبيعية، الحياة العقلية، الحياة الخلقية، الحياة الدينية (7).
الحياة الطبيعية هي المرحلة الأولى التي تمتد من الطفولة الأولى إلى الثانية عشرة، فيقول في ذلك:

“فإن العادة الوحيدة التي ينبغي أن يتخذها الطفل هي ألا يتخذ عادة ما “

ومن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة يتثق الفتي بالمعارف الطبيعية بالإتصال المباشر أي بالملاحظة الشخصية فلا يسمح بمطالعة الكتب، فإنها جميعًا لا تعلمه إلا ألفاظًا وتلك الحياة العقلية، ومن الخامسة عشرة يعلم الأخلاق فتنمي فيه محبة الإنسانية وضبط أهواء وشهوات النفس، ويعلم أن له نفسنا وأن الله موجود.

وفي العشرين يمهد للزواج ثم بأسفار يفيد منها معرفة المجتمع وعاداته ورذائله؛ وتلك المرحلة الخلقية. وفي المرحلة الأخيرة يتخذ “إميل” دينا يعرضه عليه قسيس وتكون عقائد طبيعية بحت لا تستند إلى وحي باعتبار الوحي افتئاتًا على حقوق الشخصية لديه، فسنرى بعد ذلك أن هذا الدين سيخدم القانون الاجتماعي وقداسته، فالدين مقصور على العقائد الضرورية للحياة وهي عقائد القانون الطبيعي، وجود الله، والعناية الإلهية، والثواب والعقاب في حياة أجله. وتفرض كقوانين حتى لينفي أو يعدم كل من لا يؤمن بها ” لا باعتباره كافرًا بل باعتباره غير صالح للحياة الاجتماعية” (8) .

يتضح هنا أن الحرية عند روسو ذهبت إلى رونق خاص كان ملمس قيمتها الحقيقية، حيث تلك الحرية هي واقعية تخدم الإنسان في عالم الاجتماع ليس كفلسفة قصة حي ابن يقظان التي هي بالتأكيد لها رونق آخر في مكانها، هو باستطاعه خلو الإنسان أن يصل للحقائق أو كيف أننا نرى هذا الإنسان وصل لتلك الحقائق بمفردة دون الحاجة لبشر ومتدرجات السببية في أسباب الوجود والموجودات وغيرها؛ فتفوق روسو عن حي ابن يقظان في أن أعطي للحرية قيمة وجودها بين الجماعات على عكس أنها لفرد فيتمتع بها في استخدامها فقط للعقل الذى تدبر به وما يلاحقها من ارتياح الإجابات عن الشكوك التي يعاني تفكيره منها “حي ابن يقظان “.

فيقول روسو عن الحرّية:

“الحرّية هي التي تميز الإنسان أكثر من الفهم، الموجود في الحيوان إلى حد ما! إن الحيوان ينقاد لدافع الطبيعة، ولكن الإنسان يرى نفسه حرًا في الانقياد له أو مقاومته، وإنما يتبين روحانية نفسه من شعور بهذه الحرية وكان الإنسان المتوحد طيبًا تأخذه الشفقة من رؤية الموجود الحاس يهلك أو يتألم، وبالأخص إخوانه في الإنسانية”.

فكان الإنسان مساويًا لكل إنسان، وخرج الإنسان من الحالة الأولى التي كانت لنفسه والتي اضطرته إلى التعاون مع غيرة من أبناء نوعة تعاونًا مؤقتًا في الصيد إلى اضطراتهم الفيضانات والزلازل إلى الاجتماع بصفة مستديمة فاخترعت اللغة، وتغير السلوك، وبرز الحسد، ونشبت الخصومة.

وهذا هو حال الاجتماع الذي حاول معالجته بالقوانين والحكومة الصالحة وذلك في كتابه “العقد الاجتماعي” .
والذي قال عن ذلك أن يعدل كل فرد عن أنانيته، وينزل عن نفسه وعن حقوقة للمجتمع بأكمله، وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي.

فيعتمد ذلك على القانون إرادة وتلك إرادة أخلاقية ” كل ما أحسه شرًا فهو شر، الضمير خير الفقهاء” , تلك التي تتكون في ديمقراطية متكاملة الإرادة الكلية المستقيمة دائمًا (9).

هكذا كانت فلسفة روسو متكاملة الأركان من تربية حتى الاجتماع حتى الدولة الأكبر، والتي غدت بالتأثير في الثورة الفرنسية، فالمثل الإنسانية في عصر التنوير من قبل فولتير ورسو وغيرهم ساعدت على إثارة الثورة، والتي ساعدت على إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وحرية التعبير على قدم المساواة التي دعا لها روسو. الذى سُمّيَ ” ابن الشعب ” فقد عاش معاناتها كان له الأثر في إظهار عبقريته (10) .

*المراجع :-
1- مقال عقيدة قس جبل سافو بين عبدالله العروى وطه عبد الرحمن , عبد النبي الحرى , مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
2- نفس المرجع
3- نفس المرجع
4- كتاب دين الفطرة , عبدالله المعرى , بيروت , المركز الثقافي العربي ص 16 -17   وهو ترجمه للكتاب الأصلي "عقيدة قس من جبل السافوا – جان جاك روسو "
5- كتاب تأملات في قصة حي ابن يقظان لأبن طفيل , دكتور زكي سالم , دار بدائل
6- حي ابن يقظان النصوص الأربعة , تحقيق يوسف زيدان , دار الشروق 
7- كتاب تاريخ الفلسفة الحديثة , يوسف كرم , جان روسو ,ص 215
8- نفس المرجع , ص 215
9- نفس المرجع , ص 214
10 – مقدمة المترجم من كتاب العقد الإجتماعي –جان جاك روسو , ترجمة عادل زعيتر , دار التنوير 

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أماني حسن

تدقيق علمي: مجد حرب

اترك تعليقا