نظرات متعددة الاتجاهات إلى مناحي الثقافة المجتمعية والوضع السائد في المنطقة
– على المستوى الفرديّ: إن أفرادنا يعتنقون مشاكلهم البادية جليًا على المجتمع منذ الصغر في البيوت؛ غالبًا لأن الإنسان يكتسب حق الإنجاب في هذه الأرجاء قبل حق التعليم، ولكن لعب دور الإسفنجة الماصة لكل الثقافات العالمية ليس إلا اقتناعًا سببته الانهزامية التربوية في مجتمعاتنا بأننا لا نكفي، أننا قاصرون، أننا أقل، ولا يُعزى ذلك وضوحًا إلا إلى القناعة أن الوضع الراهن هو الوضع الدائم، وهي ثقافة منتشرة لدى أغلب شعوب المنطقة، حتى مضى ما يكفي من الوقت ليصبح هذا صحيحًا، وليس هناك أي تنمية بشرية وإيمان بأننا رائعون قادر على تغيير ذلك.
– في المجتمع: إن البنية المجتمعية لدينا كافية لتحيير أي عالم اجتماع مطلع حتى إن إميل دوركهايم أو أوغست كومت (الأبوين المؤسسين لعلم الاجتماع) لن يجدا العيب الأساسي فيه، ربما – وفقط ربما- لأنه كله خاطئ؛ بمعنى أنه تجلّى على ما هو عليه نتاجًا للقرون المتتابعة من غياب مرجعية واضحة للبناء المجتمعي كالفكر القومي أو أي فكر آخر لأجل حجة النقاش، فكل الحضارات بدأت من القبيلة وصولًا إلى المدنية، إلا نحن، بدأنا بالمدنية وتقهقرنا إلى قبائل (ذلك للتنويه أن أول دولة مدنية ناجعة تأسست في سوريا منذ قرابة العشرة آلاف عام)، وسنبقى قبائل لأنه لم يعد ممكنًا أن نلحق بقطار القوميات، نحن عالقون في مستنقع العشيرة التي تلبس لباس المدنية فتفقد بذلك مصداقية القانون العشائري على أقل تقدير.
– في التواصل المجتمعي: إننا واهمون، كل منا يعيش في فقاعته الشخصية من الأحلام الوردية التي غالبًا ما تتلاءم مع نوع الأفلام والمسلسلات الأجنبية التي شاهدها، أي أننا بعيدون عن بعضنا، لا لأننا جهلة نرفض أن نتعلم، بل لأننا دونكيشوتات ذوو قضايا مختلفة لا نرى أننا جميعًا نقاتل طواحين هواء ظانّين أننا نعيدُ عصر الشهامة، ينطبق هذا على أجيالنا كاملةً، ويتركّز في جيل التسعينات لأنهم مسحوقون أكثر من سواهم؛ لكونهم نشؤوا في ظل رخاء نسبي حطمه الواقع لاحقاً آخذًا معه فرصهم في المساهمة كما يُفترض بأي جيل بعد بلوغه.
– في السياسة: إن أي تحليل سياسي من دون معطيات هو ضرب تخمين، لذلك يمكن وصفنا جميعًا بالعُميان الذين يحاولون ضرب دمية بينياتا (دمية كرتونية على شكل حصان غالبًا مملوءة بالحلويات، وتُعدّ واحدةً من التقاليد المكسيكية التي ينخرط فيها الأطفال في المناسبات) لتسقط منها السكاكر في غرفة مظلمة ليس فيها بينياتا أصلًا، وذلك للقول إننا محرومون من المعطيات، لا أحد يخبرنا بشيء (على ما هو عليه) كي نعلق جميعًا في دوّامة التخمين، وهكذا فقدنا قرار مصيرنا مع تقدم التاريخ، لا نعرف كيف تقوم أو تنتهي الحروب عندنا ولا لماذا يتردّى الوضع الاقتصادي، حتى إن المطّلعين منا يتمّ صرف آرائهم باستمرار لأننا أهمّ من أن نعترف بوجود نخبةٍ تفهم بينما لا نفهم.
– في الاقتصاد: إننا اشتراكيون بالاسم فقط، من أهم ما صنعته الحرب هو أنها أطلقت علينا اقتصاد السوق الحرّ مسعورًا ينهشنها نهش الكلاب لأم عامر، ولا أحد يرضى بالاعتراف أننا نحيا في عمق الرأسمالية لأن ذلك يعني أن كل ما نادينا به خمسين عامًا هو مجرد كذب، ولكن المفارقة الجديرة بإضحاك أي اقتصادي هي أننا نحيا في سوق رأسمالي معتمدين على أجور اشتراكية، ولذلك فإنه آتٍ اليوم الذي سنموت فيه جوعًا لا محالة، إلا إذا استطعنا إيجاد صيغةٍ ما من الانضمام للسوق قبل أن يأكلنا جميعًا.
– في الفكر: إن اعتمادنا شبه التام على الأدب الروائي والشعري في ثقافتنا امتدادٌ لعروبتنا ربما، ولكنه بمصطلحات فلسفة الفن رغبة دفينةٌ في الهرب من الواقع (على الأقل في فلسفة الحداثة وما بعدها)، أي أننا لا نخوض في أو نلجأ إلى كتب الفكر والتحليل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أو ما يسمى ببساطة بالـ(Non-Fiction) لأنها ستساهم في فهمنا للحال الذي نحن فيه، وإدراكنا لعجزنا عن تغييره، ما يجعل غمار الروايات السائدة على رفوف مكتباتنا وأرصفتنا أو حتى كتابات “العظماء” من كتاب الغرب التي تُعتبر قفزةً إلى الأعلى عن أدب العصر الحديث ربما، مهربًا لا بأس به لأمّةٍ أقسى مخاوفها هو الإدراك (ولذلك يقول عن الوعي إنه منفى) تمامًا كالطفل الذي يعرف أن هناك وحشًا داخل الخزانة ولا يمكن أن يفتح بابها ليتيقّن من ذلك أو عدمه.
– في التعبير عن الرأي: عندما تم اختراع الفيسبوك، لم تعلم الجهات المعنية بأمر حرية التعبير عن الرأي (كالحكومات مثلًا) ماذا تفعل بشأنه، لكنهم شاهدوه مذعورين على مدى عشر أعوام يتحول إلى أكبر مروّج للوضع الراهن، حيث إن نظامنا الاجتماعي والسياسي كان من القوة بمكانٍ ليتغلغل حتى إلى الفضاء الإلكتروني، فترى الجميع منعزلًا خائفًا مهتمًا بالأعراف الاجتماعية والملاطفات والمظاهر والمناسبات الاحتفالية بشتى أنواعها، ومشحونًا بقطبيّة سياسيةٍ لا يعرف عنها شيئًا لأنها أصبحت تُقاد بأسلوب الصَيحة أو ال(Trend) كغيرها من الأخبار والمواضيع التي تتطلب إبداء الرأي.
قد يبدو كل هذا مثيرًا للكآبة أو باعثًا على اليأس من طبيعة الواقع، ولكنه بطبيعته ما هو إلا طلب بسيط للبدء بمواجهة الواقع أصلًا، حيث إن التغاضي عن أي مشكلة ما هو إلا إذكاءٌ لها، وبالتالي لا بدّ من التذكير بالعبارة الإنجيلية ذات المعنى المناسب تمامًا للفكرة والتي تقول:
“اعرفوا الحق والحقّ يحرّركم” (يوحنا 32:8).