معنى الموت منظور آخر لحتمية وقائع الموت (مترجم)
- يتأمل لازلو ماكاي وديفيد فاتاي وجورج ماروساي “الإبن” ما إذا كان الموت يصنع معنى جديدًا للحياة أم يُتلفها.
ليس من الغريب أن نرى الناس مهووسين بفكرة إيجاد معنى لحياتهم، يعتقد الكثيرون أنّ الموت هو نقيض الحياة، بل يرجّح البعض الآخر أنّ ذلك هو العائق الأعظم الذي يمنعنا من عيش “حياة ذات معنى”، ولكن ماذا لو كان هذا مجرد سوء فهم؟!
وعلاوة على ذلك، ماذا لو اكتشفنا أن للموت معنًى آخر (إن وُجد)، فهل يمكننا حينها أن نسلط الضوء أكثر على معضلة “معنى الحياة“؟
قد تترامى على أسماعنا كلمات مثل: “سيموت الجميع، لذلك ليست للحياة أيّ قيمة”. وهناك ممن يذهب بهذا الإستدلال لمستويات أعمق، فيتحدث عمَّ يُسمى بـ “الهلاك الحتمي للكون _الدمار الذي لا مفر منه_ مثل نظريات نهاية العالم: كالتدمير الحراري للكون، أو الانسحاق العظيم أو حتى نظرية التمزق الكبير” وبذلك يقضي على فكرة وجود الجنس البشري بأكمله!، كل هذه الإستدلالات تبدو بسيطة للذهن، لكن مخاوفنا الدفينة هي ما تساعدها على الظهور بواقعية.
تلك الأشياء ذات مغزى بالنسبة لأحدهم، لكن بمجرد أن يموت هذا الشخص لا شيء يهم بعد ذلك، لذا من المؤكد أن الأشياء التي كان لها معنًى في حياته لم يعد لها أيّ أهمية!
تبقى الاستنتاجات المتهورة في معظم الأحايين مضلِّلة، وفي هذه الحالة، الاستنتاجات خاطئة بالفعل، يمكن لبعض المعاني التي نصبغ بها حياتنا _مثل أطفالنا أو إسهاماتنا في المجتمع_ أن تستمر في الوجوذ بعد موتنا، بل أيضاً في حالات معينة، على سبيل المثال _التضحية بالنفس من أجل قضية نبيلة_ يجعل الموت ضروريًا لتحقيق حياة فردية ذات معنى.
“ماذا عن اللامعنى للحياة البشرية على نطاق كوني؟”
لا ضرر من أن نعرف بأن العلم يخبرنا أنه كلما طالت مدة التنبؤ، تضاءلت موثوقية التنبؤ نفسَه، فأيّ تنبؤ قائم على أساس بلايين السنين القادمة مشكوكٌ فيه لامحالة، إذا كنا لا نعرف ما الذي يشكل 95٪ من الكون، فلا يمكننا أن نكونَ واثقين من تنبؤاتِنا حوله، حتى أنه ليس بإمكاننا التأكد من أنّ الكون سيُدمَّر بهذا الشكل، وبالتالي، لمِنَالعبث أن نصف وجودُنا بالتافه أو باللاجوهر له ولا مضمون، لمجرد وجود بعض السيناريوهات الغير مؤكدة عن نهاية الكون والتي تحددت بمليارات السنين المستقبلية.
قضايا الموت والحياة:
“إذا أردنا أن نكون على صواب بشأنِ معنى الحياة مقابل الموت، فعلينا أولاً أن نفهم بعض الأساسيات حول الموت”
“الحياة” لديها تعريفات مختلفة باختلاف المنظورات والتصورات المتبعة، يمكن لشخص ما أن يقول بأن المعايير الأساسية لحياة كريمة هي الاستفادة من الطاقات الحُرّة والتكاثر وقياس قدرة ومعدل الأيض لدى الإنسان، ولكننا مع ذلك لا يمكننا أن نعتمد تعريف وحيد للحياة، فالفلسفة والبيولوجيا حتى علم الفلك لديهم تعريفات متفاوتة فيما يخص تلك القضية.
الحال مع الموت مماثل أيضاٌ، فحتى الآن يُعتبر كل من توقف عن التنفس ميت، لكن هذه المعيارية لم تكن موثوقة إلى حد أن الدفن حيا كان شائعاً بما يكفي للحصول على مسمًّى خاصٍ به وهو “التافوفوبيا”، لكن الآن المناهج التجريبية العلمية للبحث في عملية الموت أصبحت أكثر أماناً من ذي قبل، كالقيام بعملية إضعاف النبض أو ضربات القلب، ومن ثُمّ مراقبة توقف وظائف الدماغ.
في حين أنّ علم الأحياء والعلوم الطبية لهما تعريفات مختلفة للموت والحياة، علينا أن نتعمق أكثر لمعرفة وجهة النظر الفيزيائية، في نهاية المطاف تقوم البيولوجيا أساسًا على الكيمياء، وتقوم الكيمياء على الفيزياء، ففي جوهر الفيزياء نجد قانون الحفاظ على الطاقة والمادة الذي لا يسمح بالفناء بالمعنى الحرفي، لكن يسمح بتحويل المادة والطاقة إلى أشكال أُخرى، فالطاقة/ المادة لا يُمكن تدميرُها أو اختفاؤها، بل فقط يُمكنها أن تتغير.
إذا لم يكن هناك أي تجلٍ واضح للموت على أسس فيزيائية، فكيف لنا حينئذٍ أن نفسر هذا المفهوم؟
وفقًا لعلوم البيولوجيا والفيزياء ونظرية الأنساق معًا، يكونُ للموت مسمًّى آخر داخل أنظمة الحياة أو المحيط الحيوي، وهو “الظاهرة الناشئة” فعلى سبيل المثال، يمكن تفسير الموت على أنَّه التوقف التام للأعضاء الحيوية للكائن الحي، لذلك لن يكونَ هناك موت بدون حياة بيولوجية، وبالتالي فإن الموت عملية تحتاج إلى الحياة أولاً.
للطبيعة أقوال أخرى:
الموت حسب الفيزياء ليس ضرورة! نعم، لأنّّ العلاقة أحاديّة الاتجاه، ذلك يعني أنّ الموت لا يُمكن أن يحدث بدون حياة، لكن الحياة يمكن أن توجد بدون موت، بمعنى آخر، يُمكن لجميع الكائنات الحيّة تجديد أجسامها باستخدام الطاقة الحُرّة في بيئتها، كالعديد مِنَ الكائنات وحيدة الخلية المتكاثرة مثل (خط خلايا هيلا الخالدة)، التي لا تموت بسبب “الشيخوخة” بل بسبب التأثيرات البيئية أو الحوادث، إنّ كائنات الخلية الواحدة التي تعيش اليوم هي نفسها التي بدأت بالانشطار منذ مليارات السنين، ولا زالت تنقسم باستمرار وتعيش.
الخلود، أو بمعنى أدق _نقص أعراض الشيخوخة لدى الكائنات الحيّة_ والتي يمكن أن تظهر أيضًا في حالة الكائنات متعددة الخلايا مثل الهايدرا التي لا تتقدم في العمر.
تعيش معظم الكائنات الحية المعقّدة مثل الأشجار لآلاف السنين، وبالطبع على المدى الطويل تكون احتمالية موت هذه الأنواع مرتفعة إلى نسبة 100%، بفعل الحوادث والكوارث والأمراض والحيوانات المفترسة، إلا أنّ هذه العملية قد تأخذ وقتاً طويلاً نسبياً، ولا تُفسَّر على أنها عملية الموت الطبيعي لأسباب الشيخوخة المتعارف عليها عند معظم الكائنات الحية.
لكن يمكننا القول إنّ هناك شيئًا غريبًا فيما يتعلق بالشكل المشترك للموت الحتمي من خلال الهرم والشيخوخة، فعلى سبيل المثال، الكائنات الحية لديها أعمار افتراضية مختلفة عن بعضها البعض، يختلف التوقيت الطبيعي للموت “الذي لا يمكن تجنبه” لذبابة مايو والفأر والفيل والشجرة، باختلاف الأنواع على نطاق واسع للغاية من أيام حتى آلاف السنين.
لذلك فإنّ الموت من الشيخوخة ليس نتيجة لكونك على قيد الحياة بشكل عام، بل هناك عوامل خاصة بكلِّ نوع، بتعبيرٍ آخر، الموت الطبيعي ما هو إلا وظيفة ضمن الهيكل البيولوجي، والسلوك، والبيئة المحيطة، يُتيح الموت بعد طقوس التزاوج (عند بعض الأنواع) إمكانية التكاثر، أو تساعد زيادة العمر على تحقيق وحفظ النسل.
حكمة حتمية الموت:
تتضح نفعية دورة الحياة والموت للكائنات الحية حين يبدأ الموت في إظهار فوائده التطورية من خلال تحرير الموارد الطبيعة في الوقت المناسب والمبرمج تطوريًّا، فإنّ النسل الذي يحتاج إلى مساحة معيشية وموارد تَظهر قدرته على حدوث الطفرات والتغييرات والتكيف التطوري، فإذا بقي جميع الأسلاف على قيد الحياة، سيكون ذلك مقيّدًا للنسل بشكل كبير، بعبارة أُخرى، سيؤدي نفاذ الموارد والمساحة على المدى القصير، إلى إعاقة التكيف على المدى الطويل، وهكذا على النطاق الأوسع فإن الموت يخدم الحياة بدلاً من أن يكون هادمًا لها، فالمنافع والمزايا التطورية للموت المبرمج أثبتت أنّ لها آثاراً مفيدة، وهذا ما نشهده بالضبط في الطبيعية، فهناك كائنات فانية في الأنواع متعددة الخلايا أكثر بكثير من الكائنات الخالدة.
إذن، فالموت لا يحدث بدافع الضرورة الفيزيائية أو الكيميائية أو البيوكيميائية، بل بسبب آثارهُ المفيدة، لا يعتمد الموت على الحياة بل على عمليات التطور التي تُسَيِّرُ الموت من أجل “أهدافها”، مع ذلك، نحن كأفراد نعتبر الموت كارثة لأسباب شخصية تتعلق بالفقد والخوف، ويمكننا أن نرى الموت قادمًا لكن لا يمكننا رؤية آثاره المفيدة بعد زوالنا.
إعادة النظر في الحياة والموت:
إذن، فما معني الموت؟ المساهمة في النجاح والبقاء والتكيف وتنمية الحياة، فحقيقة أن الحياة موجودة في كل مكان تقريبًا على كوكبنا في مثل هذا التنوع الكبير اليوم أصبحت ممكنة فقط عن طريق الموت، وفي الوقت نفسه نجد أن الموت أيضًا قد ساهم في ظهور البشرية.
بالإضافة إلى ذلك، فالخلود في حد ذاته لن يعفي الحياة من اللامعنى الظاهر، وفي الواقع، فإن الافتقار إلى الموت سيجعل الحياة لا تطاق على المدى الطويل فضلاً عن عدم تحملها، ومن المرجّح أن يؤدي الخلود إلى اكتظاظ الأرض بمجتمعات تملؤها عدم المساواة في الفرص وانفجار التوترات الاجتماعية في ظلّ نظام بيئي مُنهار. وسيتبارى الحكام الأقوياء والأفراد ذوو الثروات الهائلة للزيادة من نفوذهم وثرواتهم، وستقل أعداد العقول المفكرة الجديدة مما يقلّص حجم الإبداع، وبذا فإنَّ تأثير الخلود على مواردنا الطبيعية و بيئتنا المستنزفة سيكون كارثيًا.
هل يساعد اكتشاف معنى للموت إيجاد معنى للحياة أيضًا؟
لقد رأينا أن الموت ليس بعائق أمام حياة ذات معنى، إلى جانب ذلك، لها معناها الخاص من خلال المساهمة في الحياة، فبذلك يكون للحياة معنًى أيضاً، أليس هذا صحيح؟
لسوء الحظ، فإن الموت الذي له هدف لا يعطي معنى للحياة تلقائيًا، وإذا تبين أن الحياة بلا معنى، فإن الموت حتى لو كان ذا قيمة تطورية، سيكون بلا معنى أيضًا، نحن هنا قمنا ببساطة بإزالة بعضًا من المفاهيم الشائعة الخاطئة فيما يتعلق بالموت ومُدخلاته على معنى الحياة.
ووفقاً لذلك قللنا إلى حد ما من الإجابات التشاؤمية – السلبية رداً على سؤال ما إذا كان للحياة معنى. ولكن بأن نوفر إجابة شافية لهكذا سؤال عتيق،
إن أمكن ذلك،من الأساس، فهو ما يتطلب بحث يسبر أغوار القضية.
مراجعة وتدقيق: سحر سمحان
*هذه ترجمة لمقال الكاتب لازلو ماكاي وجورج مورسان وجورج فاتاي*