كوخ هايدجر ومنزل فتغنشتاين (مترجم)
لودفيج فتغنشتاين ومارتن هايدجر، اثنان من أعظم الفلاسفة في القرن العشرين، ومن الجدير بالانتباه أنهم قد وُلدوا في نفس العام (1989). كان هايدجر على الأقل في كتاباته أكثر اهتمامًا من فتغنشتاين في الهندسة المعمارية. كتب في العشرينيات: “إنَّنا نصل للمُستقَر فقط عن طريق البناء.” وكان كوخه الخشبي الصغير في الغابة السوداء في مدينة تودتناوبرغ المأوى الوحيد لهايدجر آنذاك، حيث إنَّ هذا البيت يمثل بالنسبة لهايدجر تعبيرًا عن الفعل الوجودي والوجود في العالم.
لم يكن هايدجر المُصمم لهذا الكوخ، الذي كان عبارة عن حجرة جبلية متواضعة تقع على تلة خضراء، ويحتوي على نوافذ صغيرة ومربعة وجدران خشبية وسقف مائل. لقد كان الكوخ يبدو وكأنه رسمة تقديرية ومتواضعة لطفل ما، كانت مكونات المنزل الداخلية متناثرة مثل: الجدران المطلية، وعدد قليل من أرفف الكتب، وزوج من المواقد الحديدية للحطب. لقد كان بيتًا عمليًّا للمزارعين، الذين كانت تهمهم الأرض أكثر من المناظر الخلابة والمُزينة، وكانت حياتهم بسيطة مقارنةً بالحياة الفاخرة والبرجوازية في ماربورغ وفرايبورغ، حيث درس هايدجر. يبرهن هذا الكوخ الخشبي على أنَّه المكان المناسب والمثالي لتشكّل تفكير هايدجر في الروابط الأساسية بين الأرض والسماء، وبين المسكن والبناء والوجود.
عانَت سمعة هايدجر بشكل كبير بسبب ارتباطه بالنازيين الذين كانوا يفكرون في شيء يشبه كوخ هايدجر في الغابة السوداء، حيث إنَّها تمثل فكرة عن النقاء الآري، مباشرة من التربة غير المُدنسة ومُشبع بالعرق الألماني الخالص.
كان لدى فتغنشتاين فكرة كذلك عن الأكواخ، حيث قام بأحد أبدع أعماله في حجرة خشبية في جبال النرويج، وفي وقت لاحق قام ببناء منزل بسيط على شواطئ إيرلندا. لكن ما أريد الإشارة إليه هنا في هذا المقال هو المنزل الذي صمّمه فتجنستاين لأخته مارغريت في فيينا. قبل توجهه إلى كامبريدج لدراسة الفلسفة، درس فتغنشتاين الهندسة في برلين وجامعة مانشستر، وعندما قررت شقيقته مارغريت بناء منزل، انخرط فيه وتولّى بعدها الأمر بالكامل. ينتمي فتغنشتاين إلى أغنى عائلات أوروبا، لكنه لم يكن مهتمًا بالمال، حيث تنازل عن ميراثه لأشقائه ومجموعة متنوعة من الفنانين والشعراء.
كان مُلهم فتغنشتاين في بناء المنزل هو المهندس أدولف لوس، الذي قرر فتجنشتاين استخدام بعض أفكاره في تصميمه لمنزل أخته. نشأت عائلة فتجنشتاين في منزل فخم، وكان براهمز وستراوس وماهلر زوارًا منتظمين، ليعزفوا مقطوعاتهم في غرفة خاصة للموسيقى في منزل العائلة. لكن منزل فتجنشتاين كان مختلفًا تمامًا.
كانت الأبواب مع المقابض مُصممة من قبل فتغنشتاين الذي تعاون مع بول إنجلمان تلميذ أدولف لوس، وكان أحد المهندسين المعماريين الشباب في فيينا. تشير الدراسات المعاصرة إلى أن فتجنشتاين كان يعتبر نفسه مُهندسًا معماريًا، حتى أنَّه وضع مسماه الوظيفي على رأس ترويسة له. كان المنزل الذي بدأ بناءه في 1926 واضحًا ويتميز بالبساطة الصارمة، ولكنه كان منزلًا جميلًا أيضًا. لقد أولى فتجنشتاين اهتمامًا دقيقًا بنسب وقياسات الغرف والنوافذ، كانت تركيبة المنزل تعكس نوعًا من النقاء. صرامة زاهدة تذكرنا بفتجنشتاين نفسه.
لقد طبَّق فتغنشتاين مهارته الهندسية على أصغر تفاصيل المنزل بحيث عمل كل شيء بشكل جميل وكان كل شيء يبدو مُنسجمًا وأنَّه جزء من المنزل.
يتم ثقب الفتحات في الحائط الأبيض بشكل بسيط، وكانت الأعمدة في المنزل متوجهه بشكل مستقيم وحوافها حادّة، ولا يوجد أي قوالب وتصميمات للزينة. مع كل سطح ومفصل في المنزل، لم يكن هناك هامش للخطإ في التصميم. تذكر أحد القصص أن أحد عمال المعادن قد سأل فتجنشتاين إذا كان ملليمتر واحد قد يحدث فرقًا حقيقيًا، وقبل أن يكمل العامل سؤاله ردّ عليه فتجنشتاين بصرامة “نعم!”.
ما يلفت النظر في المنزل هو تصميم الأبواب المُكوّنة من الهياكل المعدنية والزجاجية ذات التصميم الهندسي العالي والدقيق الخالي من أي نوع من التزيين والزخرفة، كانت تلك الأبواب عبارة عن المرشد الداخلي لك في المنزل. تغريك الأبواب للتحرك في المنزل ومن خلالها يبدأ تكشّف تعقيد الخطة التي تم بناء المنزل وفقًا لها.
وهناك الكثير من الروايات الغريبة عن بعض الأعمال التي قام بها فتغنشتاين أثناء تصميمه للمنزل، مثل أنَّه أصَرَّ في اللحظة الأخيرة على رفع سقف غرفة المعيشة بمقدار 30 ملم للحفاظ على النسب الأصلية للمنزل، وهذا يَدُلُّنا على تفاني فتجنشتاين ودقته وصرامته مع نفسه، هذا ما يحدث عندما يقرر أحد الفلاسفة المنطقيين بناء منزل.
وجد كل من هايدجر وفتجنشتاين الكتابة في الأماكن البسيطة المُحيطة بحجراتهم المعزولة أمرًا أفضل. عاد إلى كامبريدج بعد الانتهاء من بناء المنزل، وكان قد كتب “تحقيقات فلسفية” في كوخه الخشبي في النرويج.
تمثّل الحجرة الخشبية نوعًا من المثالية التي كان يحاول الحداثيون الأوائل تحقيقها، حيث كل عنصر ضروري وكل جزء يمثل شيئًا مهمًا. ومن الأمثلة على ذلك حجرة والتر جروبيوس والتي كانت أول منزل له، وكان البيت الوحيد الذي بناه كوربوزييه على الإطلاق، حجرة خشبية صغيرة على الساحل بالقرب من مينتون عام 1951.
كتب أدولف لوس الذي أثَّر في فتغنشتاين عن أنَّ المزارع يمكنه إنشاء منزل جميل لا يمكن لمهندس معماري القيام به، والمهندس المعماري ليس لديه ثقافة مثل كل سكان الحضر تقريبًا. يفتقر المهندس إلى اليقين عند المزارع، الذي يمتلك الثقافة. يعني أدولف لوس بالثقافة ذلك التوازن بين الإنسان الداخلي والخارجي الذي يضمن التفكير العقلاني والعمل. وهذه الفكرة الخاصة بالثقافة عند أدولف لوس هي السبب في أن كلًا من هايدجر وفتغنشتاين كانا يشعران براحة أكبر في أكواخ لم يمسها أي من المهندسين المعماريين.