لوحة “الأمثال الهولندية”…فن تصوير حياة البسطاء
يتيحُ أسلوب الرسم البانورامي مساحةً واسعةً لنقل المَشاهد والأحداث، ويجعل من اللوحة ملحمةً تزخرُ بالتفاصيل. وأحدُ الرسامين الذين عُرفوا بلوحاتهم البانورامية هو الرسام الفلمنكي بيتر برويغل الأكبر (1530- 1569م)، حيث نقف هنا على واحدة من لوحاته البانورامية الجميلة التي تدعى “الأمثال الهولندية”.
هذه اللوحة التي تم رسمها في عام 1559، حيث جمع بيتر برويغل الأكبر من خلال مشاهد متفرقة ما يقارب من 112 مثلًا هولنديًّا تمثل جزءًا من الثقافة المحليّة. إن موضوع اللوحة هو أول ما يميزها، فقد اعتدنا أن نجد في الموروث الثقافي أن الأمثال تكون مسموعة وحتى عند تدوينها فإنها تُجمع بين دفتيّ كتاب وتكون مصنفةً وفق ترتيب معين، إلّا أن برويغل ارتأى أن يجمعها بأسلوب فنيٍّ جديد؛ فبدلًا من كتابتها قام بتصويرها. والطريف في اللوحة أيضًا، هو أن الناظر إليها يجِدُ مجموعةً من الأمثال التي لها مقابلٌ في ثقافته المحلية، أي أن المشاهد الإنجليزيّ قد يستخلص مجموعةً من الأمثال تختلف مثلًا عما قد يجده المشاهد الألمانيّ. ولابُدّ من الإشارة إلى خلفيّة اللوحة، حيث نرى أن برويغل عَمد إلى رسم الأمثال في بيئة ريفيّة، يدلّنا على ذلك عناصرَ طبيعية كالنهر، والأشجار، وكذلك شكل البناء، والثياب، التي يرتديها الرجال والنساء. وليس ذلك بالغريب إذا ما علمنا أن تصوير الحياة الريفيّة هو أحد الموضوعات الرئيسيّة في معظم لوحات برويغل. وقد تكون طبيعة هذه الحياة مسرحًا مناسبًا لتصوير هذه الأمثال، لما تتسم به الحياة في الريف من البساطة والقرب إلى الطبيعة، كما أنه يتيح للرسام تصويرَ الأمثال المتصلة بالحيوانات، وبالعناصر الطبيعية.
وهنا نلقي نظرةً قريبة على مجموعة من الأمثال في اللوحة:
1- لا جدوى من البكاء على اللبن المُراق: ما حدث قد حدث ولا ينفع الندم.
2- يسبح عكس التيار: يخالف ما هو سائدٌ ومعروفٌ.
3- أعمى يقود العميان: هذا المثل مأخوذٌ عن الكتاب المقدس (إنجيل متى 15: 14) اُتْرُكُوهُمْ. هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ. وَإِنْ كَانَ أَعْمَى يَقُودُ أَعْمَى يَسْقُطَانِ كِلاَهُمَا فِي حُفْرَةٍ. ولعل ما يماثله في العربية قول بشار بن برد: أعمى يقود بَصيرًا لا أبَا لكمُ …. قَد ضلَّ مَن كانت العميانِ تَهديهِ. والإشارة في المثل إلى وجوب عدم الأخذ بنصحِ الجاهل.
4- يحاول قتل ذبابتين بضربةٍ واحدة: ويقابله المثل القائل: يضرب عُصفورين بحجر واحد، أي يحقق أقصى منفعةٍ ممكنة.
6- يجلس على الجمر: لعلّ ما يقابله هو قولنا في العربية “على أحرِّ من الجمر” أي أنه لا يطيق صبرًا لذلك.
أثارت لوحة برويغل هذه العديدَ من القراءات من بينها قراءة لِلّوحة على أنها توثيقٌ للأمثال، وهي عادة كانت شائعة في القرن السادس عشر بين طلاب العلم والدارسين، وذلك بأن تُجمع الأمثال والأقوال والحكم المقتطفة من نصوصٍ وكتبٍ معروفة لغرض حفظها أو الاستعانة بها في الخطب والنقاشات. إلا أنّ هذه العادة كانت مرتبطة بنصوص تربوية أو دينية ولأغراض تعليمية، ولعلّ الذي يجعل بعض الأمثال والمقتطفات جديرة بالتدوين دون غيرها هو الشهرة الواسعة لقائلها أو لارتباطها بحقبة زمنية بعيدة فأصبحت بذلك جزءًا من التراث أو لكونها مجتزأةً من نصّ ديني مقدّس. بالرغم من التشابه الواضح بين هذه العادة القديمة وبين ما قام به برويغل، إلا أن الاختلاف الأهم بينهما هو أن الأمثال في اللوحة لا تبدو مرتبطة بمرجعية تعليمية أو ثقافية بقدر ما هي أمثال شعبية مستقاة من ممارسات الحياة اليومية، أي أنها نتاج واقعٍ معاش، ويكون الدرس المستفاد من المثل أهم من قائله أو من مرجعيته أيًّا كانت.
ويدعم هذه الفكرة اختيار برويغل للريف ولمجموعة من الناس البسطاء كشخوصٍ للأمثال، وهنا قد نطرح سؤالاً مفاده: أي المرجعيتين هي الأفضل أو الأكثر تأثيرًا؟ أيأخذ الإنسان الحكمة من أفواه البسطاء أم من الكتب؟ مرة أخرى نقف أمام لوحة مفتوحةٍ على قراءات كثيرة تجعلها قطعة فنية تصلحُ لكلِّ زمان، إلا أن نظرة سريعةً شاملة للّوحة تجعلنا ندرك أنها تصف قبل أي شيءٍ آخرَ حماقات البشر و نزوعَهم إلى الطيش والتهور وانعدام التفكير قبل القيام بأي عمل، وليس ذلك بالأمر السيء ما دام الإنسان يتعلم من ذلك دروسًا يوثقها حِكمًا وأمثالًا تعيش على مر الزمن. للمزيد حول اللوحة وتفسير الأمثال فيها انظر هذا الموقع التفاعلي على هذا الرابط
ربما سيعجبك أيضًا: قراءة في لوحة: “مجيء المسيح وانتصاره”