كيف تُحرف اللغةُ الواقعَ؟ (مُترجم)
يَرى «نيك إنفيلد – Nick Enfield» أن اللغةُ هي الأداةُ الرئيسةُ المتاحةُ لنا لإيصال رؤيتنا للواقع للآخرين، ولإيصالها بدقة، علينا أن نختارَ كلماتِنا بعناية. ولكنه يُجادل بأن هذه الرؤية مُشكّلة بالفعل من خلال اللغة التي نستخدمها، لذلك فاللغة أبعدُ ما تكون عن مجرد أداة موضوعية تعكسُ الواقعَ كما هو. فنحن نُشكل عوالمِ مختلفة باستخدام المُفردات المختلفة على الرغمِ من أننا ما زالنا مُقيدين بواقعِ مبني على اللغة. وإذا افترضنا أن هدف اللغة الرئيسي هو إقرار الحقائق، فهذا يجعلها أداةً مَنقوصةً. أما إذا استوعبنا حقيقة أن اللغة هي بالأحرى أداةٌ لإقناع واستدراج الناس، فسنكون قادرين على إدراكِ مواضع قوتها.
عندما بدأ عالم الرئيسيات «جون غلوك – John Gluck» مسيرته البحثية في ستينيات القرن الماضي، كان يَفصل قرود الريسوس حديثي الولادة عن أمهاتهم ويربيهم بمفردهم في حاويات فولاذية فارغة ليدرس آثار العزلة الاجتماعية. وبمرور الوقت، بدأ «غلوك» يتساءل عن سبب قيامه بهذه التجربة، وسرعان ما شعر بالندم الشديد لما تسبب به من أذىً ومعاناة لهذه المخلوقات. وفي خِضم مسيرةٍ علميةٍ ناجحةٍ، تخلى «غلوك» عن أبحاثه، وسَخرَ نفسه بالكامل للتوعية بالرفق بالحيوان. وبإدراكه للأَمْر بَعْد فَوات الأَوان، حدد «غلوك» عاملًا واحدًا ذا أهميةٍ خاصةٍ في تفسيرِ كيف يمكن لإنسان صالح أن يقوم بأعمالٍ سيئةٍ: اللغة.
كعالمٍ ناشئ في بدايةِ طريقِه، أُعجبَ «غلوك» بلغةِ فرعٍ من فروعِ علم النفس يُعرف بـ«السلوكية – Behaviourism» لأنها تُشير إلى موقفٍ فكريٍ. فعالم النفس السلوكي لا يُقر بأن الحيوان خائف، وإنما يقول أنه مُنطوٍ فحسب. لا يُقر بأنه ذكيٌ، ويكتفي بوصفه بأنه دقيق. لا يقول إنه جائعٌ، ولكن يقول إنه محرومٌ غذائيًا أو متأخرٌ عن وجبتِه. وأصبح هذا الموقف جزءًا من هوية «غلوك» بين علماء التجارب الحيوانية. وباستخدام لغة أساتذته وأقرانه، أَسقطَ «غلوك» – وقد يقول البعض أنه مَحى – التجارب الداخلية للحيوانات التي عَمِلَ معها، إذ كتبَ: «إذا كان عليك تعقيم اللغة المُستخدمة لوصف الإجراءات المُستخدمة بانتظام، فإنك بذلك دخلتَ منطقةً محظورةً أخلاقيًا».
في طريقه إلى تلكَ المنطقة المحفوفة بالمخاطر، استغلَ «غلوك» قوة اللغة لغرضين. الأول هو إعطاء المعنى: ليخلقَ نسخةً من الواقعِ تتماهى مع أفعالِهِ وأهدافِهِ المُختارة. والآخر هو الترشيد: لتبرير هذه الأفعال. وأثناء استيعابه للقوة الاستثنائية للكلمة في تَشكيلِ العوالمِ والدفاعِ عنها، اكتشف «جون غلوك» شيئًا جوهريًا: مثلما لا تستطيع اللغة أن تخلق واقعًا ماديًا، فهي لا تستطيعُ أن تعكسَ الواقع المادي كما هو مجردًا. فدائمًا ما تَفرضُ اللغة رؤيةً ذاتيةً مزدوجة: فمن ناحية تُوجَد المعاني المُشفرة في اللغة التي يتمُ التحدُث بها، ومن الناحيةِ الأخرى تُوجَد وجهة نظر المتحدث الذي يَختار كلماته. تَتَشَكل اللغةُ من خلالِ نظرتنا الذاتية للواقع والتي تَخدم غرضًا معينًا. وفي المقابل، تَتَشَكل رؤيتُنا للواقع أيضًا من خلال اللغة. وتمامًا كما تم تَمكين رؤية «غلوك» القديمة للواقع من خلال اللغة، فستَلعب اللغةُ أيضًا دورًا في إعادة تشكيل هذه الرؤية وفي تحقيق خلاصه الشخصي والمهني. قصة غلوك لها فكرة مُفتاحية: نحن نَصنع عوالمُنا من خلالِ اللغة التي نستخدمُها.
هذا لا يعني أن الكلمات تَمنحُنا سيطرةً مباشرةً –سحرية أو غيرها– على الواقع المجرد؛ فعلى سبيلِ المثال، ما دُمتُ على الأرض، لا شيء يُمكنني قوله سيُغير حقيقة أنني أخضع لقوة الجاذبية الأرضية. نحن نَصنع عوالم باللغة، ولكن هذا لا يَعفينا من الخضوع للواقع المادي. ولهذا السبب تحديدًا يجبُ أن يكونَ البحثُ عن الحقيقةِ – وهي مهمة تتطلبُ منا أن نَكونَ مُدركين جيدًا للتحيُزاتَ التي تُقدمُها اللغة والمنطق – هو أسمى أهدافِنا.
لطالما عَرِفَ الباحثون في ماهية العقلِ أن العقلانية الإنسانية ليست أداةً مثاليةً للبحثِ عن الحقيقةِ. فأنماط الإدراكِ والاستدلال لدينا دائمًا ما تقع ضحية لمجموعة من التحيزاتِ وأوجه القصور. يُجادل عَالِما الإدراك «هوجو مرسييه – Hugo Mercier» و «دان سپيربير – Dan Sperber» في كتابِهما الصادر عام 2017م، «أُحجية العقل – The Enigma of Reason»، بأن ما سَبَقَ لا يعني أن العقلانية الإنسانية غير مُلائمة للغرض. كان ليكون الحالُ كذلك، إذا كان الغرضُ التَطوري للعقلِ هو الوصولُ إلى حقيقةٍ موضوعيةٍ. فبدلًا من ذلك، يُدَلل كلٌ من «مرسييه» و«سپيربير» على أن العقلَ تطورَ لغرضٍ آخرٍ. فالعقلُ البشري هو ما هو عليه -ناقِصٌ إذا نظرت إليه في عقلك الخاص كأداةٍ للمنطق الكلاسيكي- لأنه بالأساس أداةٌ اجتماعيةٌ. فالعقلُ تَطورَ لإقناعِ وإفحامِ الآخرين بالحُجة، وللفوزِ بالجدالاتِ معهم، وللدفاعِ عن الأفعالِ والقرارتِ وتبرريرُها للآخرين. ويمكن تحقيق هذه الوظائف بغضِ النظرِ عما إذا كان محتوى الرأيِ صحيحًا أم لا، إذ يُمكنني الاستفادة من إقناعِ شخصٍ ما بشيءٍ ما حتى عندما يكونُ هذا الشيء غير صحيحًا (هذا بالطبع لا يعني أنه من الجيدِ إقناع الناس بأشياءٍ خاطئةِ!).
غالبًا ما يُقال أن التفكير البشري ليس متوازنًا أو نزيهًا كما نود أن نعتقد، وأن العَالِم بداخلِنا هو بالأحرى محامٍ داخلي. (مع خالص الاعتذار لمُمتَهِني هاتين المهنتين المهمتين، فاستخدم مصطلحي «عَالِمٍ» و «محامٍ» استخدامٌ مجازيٌ، كرسوم كاريكاتورية تُعبر عن طريقتين مختلفتين للتفكير في فائدةِ اللغةِ.) فبينما يَسعى العالمُ لمعرفةِ الحقيقةِ، تَسعى المُحاميةُ لتطويعها. وفي عمليةِ التطويعِ هذه، لا تَسعىَ المُحاميةَ للوصولِ إلى الحقيقة، بل لأن تَشُقَ الطريقَ لها (أو لأولئك الذين يدفعون رسومها). فهى لا تُحاول الشرح بل الدفاع. لاحظ أنه بينما قد يعمل العَالِم بمُفرده أحيانًا، فإن وظيفة المحامية هي بالضرورة وظيفةٌ اجتماعيةٌ، واللغة هي أداتُها الأساسية.
تُساعدنا فكرة أن اللغة هي مُرتكز التنسيق الاجتماعي وليست مُجرد أداة لنقلِ المعلوماتِ على فهمِ بعضِ أوجه قصورِها: لماذا تميلُ اللغةُ إلى أن تخذلُنا بهذا الشكلِ، ولماذا هي مُبهمة وتقريبية للغاية، ولماذا تُشتت وتَنتقص، ولماذا تَعجزُ عندما نحاول وصف تجربة ما أو التقاط شعورٍ وجداني. وفي الوقت نفسه، تُساعدنا هذه الفكرةِ أيضًا على فهمِ سبب كونها جيدة جدًا في الأشياء التي تكون جيدة فيها: توجيه انتباه الناس، وتأطير المواقف بطرق عشوائية، واللعب على تَحيُزاتِ الناس، والتحكم في تفاعُلاتِنا، وإدارة السُمعة، وتنظيم الحياة الاجتماعية.
إحدى أخطر خصائص اللغة هي إعطائُنا القدرة على قولِ أشياءِ غير صحيحة، ولا يَكمُن الخطر في تضليلِ الناس فحسب، بل في أن هذا التضليل قد يَكونَ أكثر تأثيرًا من الحقيقةِ ذاتها. فتُصبح الحقيقةُ ضحيةَ مُلاَزِمة للاجتماعية الانسانية. إن صلابة تمسُك الإنسان بالاعتقاد في الكيانات الماورائية ونظريات المؤامرة – نوع من التمسُك موجود في كل الجماعات الإنسانية في جميع أنحاء العالم – تستندُ إلى الانفصالِ بين البيانِ والواقعِ الذي يدّعي أنه يصفه. فإذا أعلنت مجموعة من الناس بشكلٍ جمعيٍ عن اعتقادها بشيءٍ يَعرف الجميع أنه خاطئ، فإن هذا الإعلان، بعيدًا عن أنه سيزرع الشك، سيعمل كدليل على صدق التزام كل فرد تجاه المجموعة. ويشرح المؤلف «كورتيس يارفين – Curtis Yarvin» سبب جاذبية الأفكار غير مُحتملة الوقوع في بناء الحركات الاجتماعية. حقيقةُ الأمرِ أنه من الأفضل لغرض الولاء الاجتماعي أن يكون الاعتقاد الذي يتسق الناس حوله واضح الزيف: «أن اللامعقولية أداة تنظيم أكثر فعالية من الحقيقةِ … فالإيمان باللامعقول هو دليلٌ غير قابل للتزوير على الولاءِ. إنه بمثابة زيٌ سياسيٌ موحد، وإذا كان لديك زيٌ موحد، فهذا يعني أنك تملكُ جيشًا.» كل هذا جيد جدًا في حالِ كان هدفُك الوحيدُ هو تأمين الولاءِ للحفاظِ على منصبٍ، لكن الواقع آتٍ لا محالة. ففي حين أن الجنود الحقيقيين قد يتعهدون بالولاء للأفكار السحرية، فإنهم في نهاية المطاف يَعملون في مجال القوة البدنية، في الواقع شديد الغُشومة وليس السحر. وبمجرد أن تَطير الرصاصة، لا يُمكن للكلمات أو المعتقدات التي تُعبر عنها هذه الكلمات إيقافها.
ولهذا السببِ تحديدًا، لا يمكنُكَ القول بأنه لا توجد حقيقة متخطية لطرق حديثنا، أو أن ما ندّعيه عن الحقيقة هو الحقيقة بذاتها. وهذه الصورة الهزلية الخاصة بالفكر ما بعد الحداثي – على اعتبارِ أن أحدًا عاش وفقًا لها حقًا – لا معنى لها في عالم تطورَ فيه جنسُنا البشري عن طريق الانتخاب الطبيعي، ونعتمد فيه على الطعامِ والهواءِ والماءِ والضوءِ وتجنُبِ الإصابةِ لننجو في كلِ يومٍ جديد. أولئك من يدّعون التشكيك في الحقيقة الموضوعية سيستمرون في الخضوعِ لتلك الحقيقة بطرق قانونية ومتوقّعة. كما قال الفيلسوفُ «ديفيد هيوم – David Hume» ساخرًا، إذا كنت تَشُكُ في وجودِ عالمٍ حقيقيٍ، فيُمكنك المغادرة عبر نافذة الطابق الثاني.
لكن الاهتمام بالواقع المادي كمسألةِ بقاءٍ هو أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن التنسيق حول الواقع لأغراضٍ اجتماعية. فعندما نتحدثُ، تُشكلُ كلماتُنا نسخًا من الواقع – الاجتماعي أو المادي – نتفقُ جميعًا على الاتساق حولها؛ فعلى سبيل المثال، عندما نُريد الانضمامَ إلى شخصٍ ما، أو التأثيرَ عليه، أو تجنيدَه للمساعدة؛ أو عند تقييم موقفٍ ما بشكلٍ جمعيٍ ومحاولة معرفة ما حدث، وما أسباب حدوثه، وما الإجراء الذي يجب اتخاذه في هذه الحالة. ولا يمكن تحقيق التنسيق الاجتماعي إلا من خلال رؤيتنا العامة المشتركة للواقع. ويوجد دائمًا نسخة واحدة فقط من الواقع التي يمكن أن نتسق حولها في كل مرة؛ الرؤية التي نُشكلها بالكلمات.
تَستندُ هذه المقالة إلى مُقتطفات مُحررة من كتاب اللغة مقابل الواقع Language vs. Reality، تأليف «ن. جيه إنفيلد – N. J. Enfield»(مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مارس 2022م).