Roma 2018 الذات والوطن في مرآة الذاكرة
في سينما المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، دائمًا نكون بصدد رحلة ما، سواء كانت تلك الرحلة هي سفر نحو الأغوار السحيقة للفضاء الخارجي في رحلة مدموغة بالعزلة في أقصى حالاتها وبالفزع اللانهائي كما في فيلمه الفائز بالأوسكار “جاذبية“، أو رحلة طريق لصديقين مقربين في طور مراهقتهما مع امرأة يعرفانها بالكاد، تنتهي بتغيير حياتهما للأبد في فيلمه “وأمك أيضًا“، أو رحلة إلى المستقبل على مشارف نهاية العالم كما في فيلم “أطفال الرجال” (Children of Men 2006).
لكن رحلته الجديدة جاءت في فيلم Roma 2018 تفتيشًا داخل أعماق الذات بغية البحث عن زمن فائت، حيث العالم المفقود لطفولته في مكسيكو سيتي مطلع السبعينات، في ضاحية “كولونيا روما” مكان إقامة أسرته؛ رحلة في السيرة الذاتية يعيد كوارون رسمها بلغة الصورة، وباللونين الأبيض والأسود فقط.
منذ أن تم عرض فيلم Roma 2018 في الدورة الـ75 من مهرجان فينيسيا السينمائي وحصوله على جائزة الأسد الذهبي، أثار الفيلم حفاوة بالغة على مستوى النقاد والمشاهدين، الذين رأوا فيه لغة سينمائية متميزة، حيث لم يعتمد الفيلم على الحوار بصورة رئيسة، بل اعتمد على لغة الصورة بكادرات حية تنبض بالمشاعر، على الرغم من عدم تقديمها بالألوان الحقيقية. هذه اللغة التي توافرت بقوة في الفيلم كانت وراء فوزه بالعديد من الجوائز التي جاء في مقدمتها (أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل تصوير) من الجمعية الوطنية للنقاد السينمائيين في يناير 2019. إضافةً إلى فوزه بجائزتي (أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية، أفضل مخرج) في حفل توزيع جوائز الغولدن غلوب السادس والسبعين الذي أقيم في السادس من يناير 2019، وهو ما أهّله بصورة كبيرة للحصول على جائزة الأوسكار 2019 كأفضل فيلم أجنبي، الأمر الذي حدث بالفعل في حفل توزيع الأوسكار الأخير، إضافةً إلى فوزه بجائزتي التصوير والإخراج أيضًا.
لم يعرض فيلم Roma 2018 في قاعات العرض الرئيسة، بل حصلت نيتفلكس “Netflix” على حقوق عرض الفيلم في أبريل 2018، وقد علّق المخرج على ذلك قائلاً: “فيلم مثل هذا بالإسبانية يتحدث عن السكان الأصليين باللونين الأبيض والأسود ليس من الأعمال المعتادة، وأعلم أنه سيكون من الصعب وجود مساحة لعرضه في السينما، إذ جرى تصويره بكاميرا 65 ملم، والوضع المثالي لعرضه على شاشة واسعة، لهذا أنا ممتن لنيتفلكس لأنها سمحت لي بالعمل بهذه الطريقة”.
كما لم يكتف كوارون في روما بالإخراج، بل كتب وقام بأعمال المونتاج والتصوير السينمائي أيضًا، صانعًا من ذاكرته الخاصة فيلمًا مدهشًا ومهديًا إياه للمشاهد، يقول كوارون عن هذا: “تسعين في المائة من المشاهد التي تراها في الفيلم مأخوذة من ذاكرتي، ما حاولت أن أفعله هو أن أمزج ما بين السياق الشخصي والاجتماعي في الوقت نفسه، لأننا هنا نتحدث عن الجروح الشخصية، وهذه قطعًا فترة تركت جروحًا في نفسي ربما للأبد، ويمكنني أن أفترض أنها تركت جروحًا داخل الشخصيات في الفيلم، لكن بالإضافة لهذا، تركت الأحداث الاجتماعية التي تم تصويرها بعضًا من أعمق الجروح في الذات المكسيكية وفي الوعي الجمعي”.
الشخصية الرئيسة في فيلم Roma 2018 هي شخصية كليو التي يقول عنها كوارون “الفيلم مستوحى من مربيتي عندما كنت طفلاً، كنا عائلة معًا”، ويضيف “عندما تكبر مع شخص تحبه لا تناقش هويته، لذلك أجبرت نفسي في هذا الفيلم أن أرى هذه المرأة بوصفها واحدة من الطبقة العاملة والسكان الأصليين، ما منحني وجهة نظر لم تكن موجودة لدي من قبل”.
يفتتح فيلم Roma 2018 ويختتم بصور من طائرة تحلق عاليًا في السماء، وهو تمثيل رمزي لمدى صغر هذه القصة في النطاق الكلي للأشياء. يبدأ الفيلم بمشهد لأحجار مربعة مهدت مدخل بيت الأسرة، وقد صورت من أعلى حتى بدت أشبه بنماذج من الماس في صورة انطباعية بحتة لا تتكرر كثيرًا في الفيلم؛ وهي تشير إلى أسلوب كوارون في إكساب الأشياء المعتادة دلالات جديدة، وتنهمر المياه فوق تلك الأحجار، وأخيرًا تستقر الصورة على الأرض حيث تنظف “كليو” مدخل البيت، يحب الأطفال الأربعة تلك المرأة، التي تهمس إليهم بهدوء “استيقظوا يا ملائكتي” قبل أن يبدأوا يومهم.
يحدد كوارون دور هذه المرأة كخادمة منزل، تتقاسم مع أخرى غرفة مرفقة بالبيت، حيث تعمل بلا كلل، وتشاهد التلفاز مع الأسرة، وتقاطع مشاهدتها كلما طلب الأب الشاي، وهي، مثل كثيرات غيرها، تعتبر ولا تعتبر فردًا من أفراد الأسرة.
لاحقًا سيعلم الأطفال ما تمر به الأسرة من أزمة، فالأب الذي يتظاهر بالسفر للعمل في الحقيقة بصدد ترك الأم لمرافقة امرأة أخرى، وتنجح مارينا دي تافيرا في تمثيل دور الأم القوية التي تخفي ألمها قدر المستطاع، لكن قصة هجر الزوج مجرد خلفية لقصة كليو نفسها، التي تؤديها ياليتسا أباريسيو ببراعة رغم أنها المرة الأولى التي تمثل فيها، وكثيرًا ما تركز الكاميرا خلال الفيلم على وجه كليو لتعكس أباريسيو انفعالاتها بعد أن تعرف أنها حبلى، وبعد أن يتخلى صديقها عنها.
يستحضر كوارون في فيلم Roma 2018 “روح كلاسيكيات” الواقعية الإيطالية من التصوير بالأبيض والأسود، التصوير في الأماكن الطبيعية، الاستغناء عن فكرة الحبكة مقابل رصد دقيق وشاعري للحياة اليومية في أكثر مظاهرها ألفة وعادية والاستعانة بممثلين غير محترفين، بتبني كوارون أسلوبًا مرئيًا متميزًا، حيث أنه نادرًا ما يستخدم اللقطات المقربة، مما يجعلنا على مسافة من كليو وشخصياته الأخرى، مما يسمح بظهور تفاصيل العالم المحيطة بهم داخل المشاهد. غالبًا ما يضع كوارون كليو فيما يشبه اللوحة التي يمكن أن نسميها فوضوية، سواء كانت سوقًا تعج بالناس وراءها أو حتى المنزل الذي تقضي فيه الكثير من وقتها، مليئة بالأطفال الصاخبين والأقارب والخدم. إن حياة كليو مزدحمة، ويتصاعد هذا الازدحام بصورة أكبر مع تطور الفيلم، مما يعكس قلقها المتزايد عند الولادة الوشيكة لطفلها.
الماء هو العنصر الأبرز في الصورة، بدايةً من المشهد الافتتاحي الذي تتدفق فيه المياه على أرضية مدخل البيت، كأنها ذكريات تتوارد إلى ذهن كوارون، مرورًا باستخدامه الدائم في التنظيف والاغتسال في محاولة لمحو آثار كل ما يلوث حياة الأسرة، ثم نزوله من بين قدمي “كليو” عند المخاض، مبشرًا بولادة طفلة تأتي إلى الحياة ميتة بسبب اشتعال الحرب في الشوارع وازدحام الطرق، وصولًا إلى البحر الذي كاد يبتلع طفلين لولا تدخل المربية لإنقاذهما في مشهد سينمائي رائع، يقودها إلى الكشف عن مشاعرها الحقيقية تجاه الحمل ويدفعها أخيرًا إلى التصالح مع الحياة، فالماء بالأساس مرآة شفافة تعكس العديد من الدلالات النفسية والاجتماعية.
لم تكن الذكريات الشخصية وحدها هي ما وجد طريقه إلى الشاشة في روما، فمعها تصاعدت ومضات من تاريخ المكسيك عند أوائل السبعينات عند حواف المشهد، تمامًا كما قد يتذكرها طفل صغير، أو تتأثر بها اثنتين من النساء في خضم مآسيهم الشخصية؛ فاللحظة الزمنية التي يختارها كوارون لحكايته تمزج الخاص والعام برابطة شعورية واحدة، فالعائلة التي تشكل عالمه الخاص والحميم مقبلة على انهيار وشيك (يتخلى الأب عن العائلة، يتخلى الحبيب عن كليو)، وكذلك المجتمع الذي تحدوه آمال التغيير عبر تظاهرات وانتفاضات الطلبة موشكٌ هو أيضًا على الانهيار والدخول في نفق مظلم.
حول مائدة الطعام، يروي أحد الأطفال كيف أنه شاهد جندي يطلق النيران على فتىً صغير لرميه سيارة الجندي العسكرية بالماء، وفي مشهدٍ آخر تنفجر المظاهرات خارج محل الأثاث الذي وقفت فيه كليو مع والدة صوفيا يبحثان عن مهدٍ لرضيع كليو المُنتظَر، تتحول المظاهرة سريعًا لمشهد دموي يتم فيه تبادل إطلاق النيران ويسقط الكثير من الضحايا صرعى على أسفلت الشارع، لا يخبرنا كوارون بهذا صراحةً، لكن ما رأيناه لتوّنا كان صورة سريعة من مجزرة “كوربس كريستي” التي وقعت في يونيو 1971 وراح ضحيتها 120 مدنيًا، إنها المجزرة تمامًا كما قد تراها امرأة على وشك أن تضع طفلها ولا تنشغل كثيرًا سوى بأمانه.
يذكرنا مرةً أخرى كوارون أننا وحدنا، مآسينا مهما لاقت التعاطف لا تعدو كونها لحظات عابرة في مصائب العالم الذي نعيش فيه، ونظل حتى قرب النهاية ونحن نرى كليو تُعاني في صمتٍ في حيزها الضيق الحزين، لتفرد لها الكاميرا عندها واحدًا من أجمل المشاهد السينمائية على الإطلاق، حتى يستشعر المشاهد المأساة الكاملة لتلك الفتاة دون أي تقطيع سواء عن طريق المونتاج أو اعتراضٍ من حدثٍ آخر، فهذه هي لحظة الذروة التي كان يجب أن يبلغها حزن كليو لتلمس القاع بقدميها، وتتركنا متسائلين هل هناك أملٌ في الصعود مرة أخرى للسطح؟
ربما كان العيب الرئيس في فيلم Roma 2018 ، أنه لم يقدّم تفاصيل أكثر عن حياة كليو خارج عائلة صاحب العمل؛ بالكاد تتحدث كليو جملة أو اثنتين في كل مرة ولا تقول شيئًا عن الحياة في قريتها، وطفولتها، وعائلتها، إنها شابة محبة ومخلصة، لديها مشاعر دافئة تجاه العائلة التي تعمل معها، لكنها لا تزال ملغّزة في ذاتها، واهتماماتها وتجاربها -حياتها الداخلية-، تظل بمنأى عن كوارون. إنه لا يفشل فقط في تخيل شخصية كليو ولكنه يفشل في ذكر تفاصيل شخصية مربيته ليبو بالنسبة له عندما كان طفلاً، رغم أن تترات نهاية الفيلم تحمل اسمها. في هذه العملية، يحول كوارون شخصية كليو إلى صورة نمطية شائعة للغاية في الأفلام التي يصنعها صانعو الأفلام من الطبقة الوسطى والعليا حول الأشخاص الكادحين: شخصية صبورة، صامتة، مثابرة، محرومة من الكلام، إنها ملاكٌ صامت لا تمتلك القدرة على التعبير عن نفسها.
فيلم Roma 2018 شخصي أو ذاتي
لكن هذا الوصف لا يحمل امتيازًا في حد ذاته، وهو لا يعد بقيمة جمالية خاصة، إنه وصف محايد، على الرغم من أنه غالبًا ما يوحي بأن صانع العمل يقدم عملًا لا يستهدف المتعة فقط ولا يعتمد على قوة السرد، بل يستفيد من التجارب الشخصية له ويعيد توظيفها في سياق جديد. المشكلة هنا تتمثل في أنه قد تكون ثمة مبالغة من جهة صانع العمل في تقدير روايته الخاصة، فيعتقد أنها تكفي من الناحية الدرامية لتقديم عمل فني متميز، لكن الواقع أن كوارون لم يكن مبالغًا في تقدير روايته لأنها كشفت عن تجربة ثرية ونابضة بالحياة يكشف من خلالها عن أوجاعه أمام الجميع، حتى يتحرر من ثقل الماضي، ويحلق إلى آفاقٍ جديدة، تاركًا خلفه لوحة فنية تسحر من يشاهدها، وتأسر قلبه.
المراجع استفاد الكاتب من المراجعات الآتية للفيلم: - كارين جيمس، روما: قصة امرأة عادية وفيلم غير عادي يستحق المشاهدة. - أحمد عزت، فيلم «Roma»: ألفونسو كوارون والبحث عن الزمن المفقود. إضاءات - Richard Brody, There’s a Voice Missing in Alfonso Cuarón’s “Roma”