فلسفة اللغة: تعريف بها وبأبرز آراء منظّريها (مترجم) |1|
لقراءة المقال الثاني يرجى الضغط: هنا
يُطلق مصطلح فلسفة اللغة بشكل أساسيّ على العمل في الفلسفة التحليليّة الأنجلوأمريكية وجذورها في فلسفة أوائل القرن العشرين الألمانية والنمساوية. كما أن لدى الكثير من الفلاسفة الخارجين عن هذا التقليد آراء حول طبيعة فلسفة اللغة واستعمالها، نظرًا لشفافية الحدود بين الفلسفة التحليلية والقاريّة مع مرور الزمن.
بيد أنّ أكثر من يخوضون في هذا المجال ينادون بتقاليد محددة، أي بمؤلفين وأساليب ذات طابع معياري. وعلى هذا ينصبُّ تركيز هذا المقال على وصف تاريخ هذا التقليد إلا أنّه ينبغي على القارئ أن يأخذ بعين الاعتبار التقيّد في الكتابة في هذا المجال.
يبدأ تاريخ فلسفة اللغة في المنحى التحليلي مع تقدم المنطق والتوتر بشأن النظرة التقليدية إلى العقل ومحتوياته في القرن التاسع عشر، إذ انبثقت عن هذه التطورات ثورة في الاختلافات عُرفت بالاتجاه اللغوي في الفلسفة. ورغم ذلك، فقد مرّت برامجها الأُولى بصعوباتٍ كبيرة مع منتصف القرن العشرين لِتَنتُج عنها تغيراتٍ جوهرية في هذا الاتجاه، حيث يتناول القسم الأول الإرهاصات والمراحل الأولى للاتجاه اللغوي بينما يتناول القسم الثاني تطوراته عن طريق الوضعيين المناطقة وآخرين. أما القسم الثالث، فهو يلخّص التغيّرات المفاجئة الناتجة عن أعمال كواين وويتجنستاين ويتمحور القسم الرابع حول وجهات النظر والعناصر الرئيسة التي بدأت من منتصف القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر.
1 فريج وراسل والاتجاه اللغوي:
ا. نظريات الإحالة في المعنى:
بدأ الإعداد لما يسمى بالاتجاه اللغوي في الفلسفة الأنجلوأمريكية في القرن التاسع عشر، حيث اتجهت الأنظار إلى اللغة وأصبح الكثير ينظر إليها على أنها نقطة تركيز لفهم الاعتقاد والنظرة إلى العالم أو وسيلة لتأسيس المفاهيم كما أشار ويلفريد سيلرز إلى ذلك فيما بعد. وقد وضع الفلاسفة المثاليون الذين يأخذون بيقظةِ الفيلسوف كانط تفسيرات أكثر تعقيدًا وذات مدلول تجاوزيّ حول احتمالية التجربة والتي بدورها أثارت ردود فعل قوية من الفلاسفة الواقعيين والميّالين إلى العلوم الطبيعية. وقد تقدّم العلماء في ستينات القرن التاسع عشر وسبعيناته في مجال وصف الوظائف الإدراكية مثل إنتاج الكلام واستيعابه كظاهرة طبيعية بما فيها اكتشافهم لمنطقتي بروكا وويرنيك.
نزعة ميل التجريبية وأثرها في فلسفة اللغة:
وأحيا عمل الفيلسوف جون ستيوارت ميل في ذلك الوقت الاتجاه التجريبيّ في بريطانيا والذي تضمّن منهجه في اللغة القائل بأنّ معاني الكلمات تتبع الأشياء التي تعود إليها، حيث أنّ نزعته التجريبية قادته إلى الاعتقاد بوجوب توضيح المعنى من حيث التجربة ليكون له أهمية لفكرنا وفهمنا. وهكذا، ينبغي فهم المعنى من حيث الكلمات التي تَخلق انطباعات في المفاهيم.
ليس كلّ المختصين في اللغة يشتركون مع ميل في نزعته التجريبية رغم أنّهم يتفقون معه من ناحيةِ أنّ مركزية تفسير المعنى يجب أن تكون في المدلول وليس في التصوّر، إذ أنّ الكلمة تدل على شيء إذا كانت تعود عليه كما يدل اسمي عليّ وكما يدل اسم بالتيمور على مدينة في ساحل أمريكا الشرقي. أمّا إذا كان يقصد بالكلمة شيئًا ما فإنها تتضمن خاصية تُكسِبها هذا المضمون في نظر ميل المعنى كتضمُّن كلمة بروفيسور لخبير في تخصصٍ أكاديميّ وشخص يتمتع بشكل من السلطة المؤسسيّة. اعتَقَد الفلاسفة أنّ فهم معاني أغلب التعابير يعني معرفة ما ترمز إليه. كما نفكّر بأسماء الأعلام بصفتها علامات للأشياء التي تدلّ عليها. واستُعمل ميل المعنى للحديث عن التصور وربّما كان لديه تحفّظات على القول بأنّ أسماء الأعلام تحمل معانٍ رغم عدم إنكاره لدلالتها على أشياء بعينها. وعليه، تُفهم الجملة رقم 1 مثلًا على أنها نظام معقّد من الإشارات:
1) جلست القطة على الثلاجة.
حيث تشير كلمة القطة إلى حيوان ثديي له أربعة أرجل مغطّى بالفرو وتشير الثلاجة إلى شيء ما وهكذا دواليك. ورغم احتياج الأفعال والمفردات المنطقية وأصناف أخرى من المصطلحات إلى مزيدٍ من التوضيح إلا أنّ معظم الفلاسفة ينظرون إلى المدلول على أنه العمود الفقري للمعنى وإلى استخدام اللغة على أنه عملية لإدارة الإشارات. وربما تدلّ هذه الإشارات بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على الأشياء بدلالاتها على أمر موجود في أذهاننا، سائرين على خطى لوك الذي وصف الكلمات على أنها إشارات للأفكار.
مشاكل هذا التفسير:
وعلى الرغم من ذلك، تواجَه التفسيرات التي تؤكد على كون مرجع المصطلحات جزءًا أساسيًّا من معنى أغلب التعابير مشكلتين جوهريتين:
أولًا، فَشلت هذه الدراسات في توضيح احتمالية المصطلحات غير الإحالية والجمل المنفية غير الموجودة، حيث أنّ معنى أغلب التعابير سيكون ببساطة في ما تحمله من مدلول في صورة الإحالة للمعنى. وعليه، فإنّ الجملة الموجودة مثل الجملة 2 هي سهلة للتحليل:
2 يعزف جون كولترين آلة الساكسوفون.
إذ أنّ المصطلح الذي يمثّل الفاعل وهو جون كولترين يُطلق على شخص بعينه وَصَفتهُ الجملة أنه يقوم بفعل معيّن وهو العزف على آلة الساكسوفون. ولكن ماذا عن جملة مثل:
3) اللاهوب هو المسبب للاحتراق.
لو افترضنا أنه ليس هناك ما يسمى اللاهوب فكيف سنفهم هذه الجملة؟ إذا كان معنى هذه التعابير هو ما تُحال إليه فإنَّ هذه الجملة ستصدمنا بأن لا معنى لها. وأشار ماينونغ إلى أنّ تعابير من هذا القبيل تدعم الجملة ولكنها لا توجد في الواقع، إذ نمنحها بذلك شيئًا من الواقعيّة على أنها ليست من العالم الواقعيّ. ومن ناحية أخرى، نظر أكثر الفلاسفة إليها بعين الشكّ وأشار آخرون إلى أنّ الكلمة أعلاه تدل على مفهومٍ أو فكرة اللاهوب. تواجه استجابات من هذا القبيل صعوبة يتم إثارتها بشكل حاد مع الاعتبارات المنفية غير الموجودة.
4) أتلانتا غير موجودة.
إذا لم تكن أتلانتا موجودة فإن كلمة أتلانتا لا تطلق على شيء وليس لها أي معنى. ربما يقول أحدهم: “إن أتلانتا لا تدل على مدينة مغمورة وإنما على مفهومنا لوجود مدينة مغمورة”. بيد أن هذا يحمل نتيجة متناقضة بجعلِ الجملة الرابعة خاطئة لأن المفهوم موجود في أذهاننا لنُحيل الكلمة إليه. وعليه، فإنه من المستحيل إنكار توضيح هذا المفهوم باستخدام هذه الكلمة. وهذا بدوره يقتضي أنه لا يمكننا إنكار وجود أي شيء يمكن فهمه مما يجعله يبدو خياليًا.
أما المشكلة الثانية لنظريات الإحالة في المعنى والتي أشار إليها فريج فإنها تكمن في كثرة المعلومات في جمل الهويّة، إذ أن جمل الهويّة الذاتية صادقة بطريقة محضة بالنظر إلى صيغتها المنطقية ونستطيع تأكيدها حتى ولو لم نعلم إلى ما تتم إحالتها. فعلى سبيل المثال، يمكن لأي شخص تأكيد الجملة:
5) جبل كلمنجارو هو جبل كلمنجارو.
حتى لو لم يُعلَم ما هو جبل كلمنجارو. إنشاء عبارة في هذه الحالة لا يُعمِّق فهمنا للعالم بأي شكلٍ من الأشكال. أمّا جملة مثل:
6) جبل كلمنجارو هو أعلى قمّة في أفريقيا.
هي جملة تضيف معلومة جديدة إلى من يسمعها لأول مرة. بيد أنّه وفقًا لنظريات الإحالة في المعنى فإنّ جبل كلمنجارو وأعلى جبل في أفريقيا يُحالان إلى الشيء نفسه ولذلك يعنيان الشيء نفسه. لذلك فإنّ الجملتين أعلاه تخبراننا الشيء نفسه ولا ينبغي أن تحمل إحداهما معلومات أكثر من الأخرى. وقد أخذ الفلاسفة بشكل تقليدي على أنها تُحدث فرقًا إدراكيًّا من حيث فهمنا للمعنى كقدرتنا على تأدية عمل واستدلال وفهم شيء ما وغير ذلك. وعليه، ينبغي أن تنعكس الاختلافات بين معاني التعابير ببعض الاختلاف في القيمة الإدراكية بين التعابير. ولكن إذا كانت التعابير تعود إلى الشيء نفسه ومعناها يتكون عن طريق أخذ ما تحال إليه بمعزلٍ عن أيّ شيء آخر، فينبغي أن لا يكون هناك فرق إدراكيّ حتى لو كان هناك اختلاف ظاهريّ في المعنى. لا توفر لنا نظريات الإحالة البسيطة حلًا واضحًا لهذه المشكلة ولذلك تَفشل في تحديد بديهيّاتٍ مهمةٍ في المعنى.
ب. آراء فريج في المعنى والإحالة:
اقترح فريج لمواجهة هذه المشاكل أن نفكّر بالتعبير على أنه يمتلك جانبين دلالييّن وهما: المعنى والإحالة. أمّا معنى التعبير فهو كما عَرّفه فريج تمثيله التحفيزيّ الذي يحمل المعلومات في أسلوبه المميز. وبالتالي، فإنّ هذه المعلومات تحدد مرجعًا لكل تعبير. وهذا بدوره أدّى إلى انتشار مذهب جديد في الفلسفة التحليليّة ينادي بأنّ المعنى يحدد المرجع. وحلَّ هذا المذهب مشاكل الإحالة بتغيير التأكيد إلى معنى التعبير أولًا ثم المرجع فيما بعد. وعليه، فإنّ الجمل الموجودة المنفية تكون مفهومة لأن معنى تعابير مثل: الأرقام الكبيرة وأتلانتا يمكن تحليلها منطقيًّا أو توضيحها من حيث أوصاف أخرى حتى لو كانت الأشياء التي تنبئ بها هذه المعلومات فارغة وغير موجودة على أرض الواقع.
إنّ اعتقادنا بأن هذه الجمل والتعابير ذات معنى هو نتيجة فهمنا لمعانيها حتى مع إدراكنا لعدم وجود مرجع لهذه التعابير. وكما قال فريج: “يمكن أن نفهم وجود معنى للتعبير إذا صيغت صياغة قواعديّة سليمة وأُطلقت على اسم علم. أما فيما إذا كان هناك مدلول يقابل المعنى فهذا لم يقرّر بعد؛ حيث أنّ فهم المعنى لا يعطي فهمًا منطقيًا لمدلول يقابله. كما أصبحت كثرة المعلومات في جمل الهوية أكثر وضوحًا، فإنّنا في الجملة 5 نؤكد هويّة ذاتيّة لكننا في الجملة 6 نُعبِّر عن شيء ذو قيمة إدراكيّة حقيقيّة تحتوي امتدادات لمعرفتنا لا يمكن القول بأنها قبليّة. إنّ هذا ليس موضوعًا بسيطًا لصيغة منطقيّة مثل: أ=أ لكنه اكتشاف بأنّ معنيين مختلفين يحدِّدَان المرجع نفسه وهو يشير إلى روابط مفاهيميّة مهمة ويزودنا باستدلالاتٍ أكبر وينير مداركنا بطرقٍ عدّة. فحتى لو كان جبل كلمنجارو وأعلى جبال أفريقيا يرمزان إلى الشيء نفسه فإنه يزيدنا علمًا أن نتعلم هذا. وتعلُّم هذا يعزز فهمنا للعالم. وأشار فريج إلى أن التعابير التي تشترك في المرجع نفسه يمكن أن يعوّض أحدها عن الآخر دون أن تتغير قيمة الصدق في الجملة. فعلى سبيل المثال، يطلق اسمَا إيلفيس كوستيلو وديكلان ميكمونيوس على الشيء نفسه. فإذا كانت جملة “إيلفيس كوستيلو ولد في ليفربول” صحيحة فإنّ جملة: “ديكلان ميكمونيوس ولد في ليفربول” صحيحة أيضًا. وأي شيء نُنبّأ به عن أحدهما نُنبّأ به عن الآخر ما دام الاسمان يُطلقان على الشخص نفسه.
وعلى الرغم من ذلك، أدرك فريج أنّ هناك سياقات محدّدة تفشل فيها هذه التعويضيّة أو على الأقل لا يمكن تعويضها. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكون الجملة:
7) “تعلّم ليز أنّ إيلفيس كوستيلو ولد في ليفربول” صحيحة حتى لو كانت:
8) “تعلم ليز أن ديكلان ميكمونيوس ولد في ليفربول” خاطئة، خاصّةً عندما لا تعرف ليز أنّ إيلفيس كوستيلو هو نفسه ديكلان ميكمينيوس أو أنّها لا تعلم عن الاسم شيئًا على الإطلاق. ماذا حدث هنا؟ لاحِظ أنّ الجملتين 7 و8 تتضمنان مجموعة الكلمات التي يمكن أن تكوّن جملة بذاتها: “ديكلان ميكمونيوس ولد في ليفربول” و”إيلفس كوستيلو ولد في ليفربول”. إنّ عبارة: “ليز تعلم….” تعبر عن شيء ما حول هذه القضايا وهو موقف ليز تجاه هذه العبارات. أشار فريج إلى أنه في مثل هذه الحالات لا يكون مرجع هذه الجمل المضافة هو قيمة الصدق فيها كما هو معتاد وإنّما هو معنى الجملة ذاتها. فربما يفهم أحدهم معنى جملة ما ولا يفهم الأخرى لأن الجملتين 7 و8 تتنوع في قيمة الصدق. سمّاها فريج سياقات غير مباشرة وسيلقبها كوين بالسياقات الكبيرة.
التطور في آراء فريج عند فلاسفة اللغة:
استبدل رودولف كارناب مصطلح المعنى بالتضمن والمرجع بالامتداد وأصبحت بذلك مصطلحات كارناب شائعة في التحليل الشكليّ في علم الدلالة بحلول خمسينات القرن المنصرم، رغم أن رؤية فريج هي التي كانت الرائدة في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقيت هناك أمور مُقلِقَة حول مفهوم فريج للمعنى؛ إذ يندُر وجود أوصاف ثابتة معترف بها عالميًا للأسماء والتعبيرات الأخرى في اللغات الطبيعيّة كما هو الحال في المعنى عند فريج. ربما يردُّ فريج بأنه ليس لديه نية لجعل المعنى قضيّة رأي عام أو انتظام سيكولوجيّ، إلا أن هذا يجعل حالة المعنى أكثر غموضًا بالإضافة إلى قدرتنا على فهم المعنى. سيبذل الفلاسفة التحليليّون جهدًا كبيرًا لأجل أن يكون هناك أوصاف معترف بها لتلك التعابير في تلك اللغات. لقد أعاد فريج رسم خريطة الفلسفة؛ إذ وضع أرضيّة خصبة للتساؤل الفلسفيّ بتقديم المعنى كنقطة تركيز للتحليل. لم تكن المعاني كيانات سيكولوجيّة لأنه يمكن الوصول إليها من قبل المتحدثين وهي ذات بعد معياري وهو كتابة الاستخدام الصحيح لها بدلًا من وصف الأداء، ولا هي ميكانيكيّات للعلم الطبيعيّ مما يجعلها تنحدر إلى تفسيرات نظمٍ قانونيّة. وإنما المعاني كيانات تلعب دورًا منطقيًّا وإدراكيًّا يكونان مُوضّحين للمحتوى المفاهيميّ وعالميين عبر اللغات الطبيعية؛ إذ أنّها ليست كالتفاصيل التجريبية لعلم اللغة والأنثروبولوجيا. وهكذا، كان على الفلسفة أن تتعهد مشروعًا منفصلًا عن العلوم الطبيعيّة وهو التحليل المنطقيّ للتركيب العميق للمعنى. ورغم أنه سيتم التأكيد على اهتمامات العلوم الطبيعيّة في تطور الفلسفة التحليليّة إلّا أن مشروع فريج قاد الفلسفة الأنجلوأمريكية في معظم القرن العشرين.
ج. راسل:
لقد بنى عمل بيرتراند راسل في التصور الصادر عام 1905 جسرًا مهمًا بين فريج والعالم الناطق بالإنجليزية؛ إذ كان كلاهما رياضيًّا بحكم التعليم واشتركا باهتماماتهما في أساسيّات الجبر. وعلى الرغم من ذلك، فقد اشترك راسل مع الفلاسفة الأوائل في فكرة أن بعض التعابير ذات معنى بالنظر إلى المرجع المباشر وهذا يناقض ما ذهب إليه فريج. بيد أن راسل لا يزال يرى في عمل فريج الإمكانيّة لذلك وأخذ على عاتقه تحليلًا لأوصاف محددة مفردة؛ حيث أنّ هذه التعابير المعقدة تهدف إلى تحديد مرجع محدد عن طريق تزويدنا بوصف ما كان يكون الرئيس الأمريكي أو الرجل الأطول في هذه الغرفة. ويعجب راسال كيف تكون الجملة:
9) “ملك فرنسا الحاليّ إنسان وقح” ذات معنى علمًا بأنّ الملك غائب الآن. وكان حلّ راسل هو تحليل الدور المنطقي لهذه الأوصاف؛ إذ على الرغم من قلة التعابيرالتي تُطلق على الأشياء بشكل مباشر فإنّ معظمها إمّا أوصاف تأخذ ما تحال إليه بتوفير قائمة من المميزات أو اختصارات مقنعة لهذه الأوصاف. وأشار راسل إلى أنّ أغلب أسماء الأعلام هي أوصاف مختصرة. ولتضييق الحديث فإنّ الأوصاف لا تتمّ إحالتها؛ إذ أنها عبارات كميّة كان لها امتداد أو أنّ امتداداتها ضعيفة أصلًا. ما كان يحتاج إليه هو تفسير لتوضيح معاني الأوصاف من حيث القضايا التي اختصرتها. وعليه، قام راسال بتحليل الجملة 9 على أنها تتضمن ثلاثة أشياء أعطتنا معًا تعريفًا للقضايا التي تتضمن أوصافًا؛ حيث يضع راسل تمثيلًا أكثر إيجازًا لجملة مثل: “إنّ مؤلف رواية وافرلي شخص سكوتلاندي التي تتضمن ثلاثة مكونات منطقية:
10) “أ كتب رواية وافرلي” ليست دائما خاطئة؛ إذ أن شخصًا واحدًا على الأقل كتب رواية وافرلي.
11) “إذا كان أ و ب قد كتبا رواية وافرلي فإنّهما متطابقان” وهذه الجملة صحيحة؛ حيث أنّ شخصًا واحدًا كتب رواية وافرلي على الأكثر.
12) “إذا كان أ قد كتب رواية وافرلي فإنه إسكوتلندي” وهذه الجملة صحيحة؛ لأنه أيًّا كان كاتب الرواية فهو أسكوتلندي.
إنّ الجملتين الأوليّتين تؤكدان بشكل فعّال على وجود المرجع لهذا التعبير وكونه فريدًا على التوالي. ربما نستطيع تعميمها والتعبير بها عن قضية واحدة للصيغة المذكورة لو تصوّرنا وجود مصطلح ج، حيث تكون د و أ صحيحتين عندما تكون ج صحيحة وتكون د و أ خاطئتين عندما تكون ج خاطئة. وهكذا، فإنّ ما يتحكم بـ د هو ج. وهذا بدوره يؤكّد وجود مبرّر فريد في الوصف المطروح أو الذي يتضمنه تعبير ما وربما يكون هذا صحيحًا أو خاطئًا اعتمادًا على التعبير الموجود. نستطيع إضافة شرط إضافيّ يعبر عن الخاصيّة التي يتميز بها المرجع كخاصيّة الوقاحة وخاصية الانتماء لإسكوتلندا وغيرها في التركيب ج لديه الخاصية ب. إذا لم يكن هناك من يملك الخاصية د مثل كون الشّخص “ملك فرنسا” في الجملة 9 فإنها تُحلَّل هكذا: فإنّ ج التي لها الخاصية ب ولدينا وسائل للتعابير غير الدلالية. إنّ مثل هذه التعابير يمكن فهمها على أنها عبارات كميّة وربما نفهمها على أنّها تمتلك أشياء فوق ما تحدد كميّته أو تفتقد أشياء كهذه. إنّ ما يؤسس فهمنا لهذه العبارات هو تركيبها المنطقي؛ فحينما نفهم كلًّا من هذه الأجزاء التي تختصرها التعابير نفهم أيضًا أن أحدها خاطئ؛ إذ أنه ليس هناك ما يقنعنا بوجود ملك فرنسا في الوقت الحالي. وهكذا يمكننا فهم الجملة: “إن ملك فرنسا الحالي شخص وقح” رغم أنّها تحتوي مصطلحًا لا يعود على شيء. إنّ هذا التعبير يمكن أن يحتوي على حدثٍ مهم حالما نفهمه كجملة ناقصة أو رمزًا معقدًا يُشتَقُّ معناه من مكوناته. إن معظم أسماء الأعلام والتعابير في أي لغة طبيعيّة تنقاد إلى تحليل كهذا؛ إذ أطلق راسال شرارة البداية للفلسفة التحليليّة في العالم الناطق بالإنجليزية. كما قدم جي.إي مور إسهاماتٍ مهمة في مجاليّ الإبستومولوجيا والأخلاق ولذلك يُذكر غالبًا إلى جانب راسال لكن إنجازات مور خارج إطار تركيزنا هنا.
2 بدايات الفلسفة التحليليّة في اللغة:
إنّ إنجازات راسل وفريج في وضع الأجندة للفلاسفة التحليليين والتي تنذر بإزالة العقبات الفلسفية طويلة الأمد حتى يستقيم دور الفلسفة على قدم المساواة مع العلوم الطبيعية شحنت الفلاسفة الأكاديميّين في أوروبا وأمريكا لمزيدٍ من العطاء. يُركِّز الجزء التالي من المقال على ثلاث نقاط من هذا الاهتمام في مراحل مبكرة من هذا الاتجاه وهي:
1- العمل المبكر للادويك ويتجنستاين.
2- الوضعيّون المناطقة.
3- نظرية تارتسكي في الصدق.
ا. رسالة في المنطق والفلسفة:
بدأ ويدجينستاين بقراءة كتابات راسال بحكم اهتمامه بأسس الرياضيات ودرس معه في كامبردج. بيد أنّه ترك الجامعة ليخدم في الجيش الهنغاري النمساوي عام 1914. وبينما هو في السجن كأسير حرب كتب مسودات لنص اعتبره الكثير قمّة المد في بدايات الفلسفة التحليلية؛ إذ تضمنت سبع قضايا وعلّق بشكل موسع على ستٍ منها وتعليقات موسعة على تلك التعليقات وهكذا دواليك. ووضع خطة محدّدة وهادفة لإدراك طموحات فريج وراسل في تحليل البنية المنطقيّة للغة والفكر. وصل ويدجينستاين من خلال التحليل المنطقيّ إلى أنه يمكننا الوصول إلى مفهوم اللغة على أنها تتكون من قضايا أوليّة مرتبطة بعناصر مألوفة في منطق الرتبة الأولى؛ حيث أنّ أيّ جملة تحمل معنى، يمكن أن يندرج هذا المفهوم بأسلوب جليّ في نظام كهذا وأن أيّ جملة لا تخضع لتحليل كهذا لا يمكن أن تكون ذات معنى على الإطلاق. وعليه، فإنّ كل شيء نستطيع التفكير به فإننا نستطيع التفكير به بوضوح وأي شيء نستطيع قوله فإننا نستطيع قوله بوضوح. إنّ فكرة ويتجينستاين هنا هي ليست أنّه لا يمكننا ترتيب الكلمات بطرق غير واضحة بل في الحقيقة نحن نفعل هذا طوال الوقت. فبدلًا من ذلك، لا نُعبّر بفعل ذلك عن شيءٍ ذي معنى وما نقوله يأخذ دلالات على الإثبات من متحدثين آخرين. ربما نفهم أمرًا مهمًا ولكن ما نقوله لا يحمل شيئًا ذا معنى. وهذا يعكِس بشكلٍ جزئيّ رأي ويتجينستاين الأول وهو أنّ الأفكار تُصوّر العالم. وهذا بالطبع لا يعني أن كتابة أو نطق جملة ما شفويًّا يشبه من ناحية بصريّة ما تعبر عنه هذه الجملة؛ إذ أنّ جملة: “إيليفن جونز يعزف آلة الدرامس لجون كولترين” لا تشبه أيًّا من مكوناتها. وبدلًا من ذلك، فإن شكل القضيّة يشبه شكل حقيقة ما في هذا العالم؛ إذ أنّ ما يتطلب لفهم هذه القضيّة بصفتها صورة للعالم هو فقط ما كان ضروريًّا في حالة الصور الواقعية وهو ارتباط العناصر في الصورة مع الأشياء في الخارج. إنّ القضايا المنطقية تكون صادقة بحكم العلاقة بين القضايا؛ فأينما يمكننا فعل ذلك فإن اللغة تضع شيئًا واضحًا، وحيثما لا نستطيع فعل هذا فإنّ كلماتنا لا يمكنها التعبير عن شيء على الإطلاق رغم جهودنا الجبّارة. ورغم ذلك، فإنّنا لا نقول بأنّ كل شيء عن المعنى وفهمنا للعالم هو قضيّة تعريف توضيحيّ أي أنّه ما يمكن قوله بدلًا مما قيل في لغتنا، حيث أنّ الكثير من الأشياء يمكن عرضها فقط مثل حرف العطف “و”. إنّ أي محاولة لتوضيح معنى هذا التعبير المنطقيّ مثل وضع شيئين جنبًا إلى جنب أو مصطلح آخر مثل كلاهما يُلخّص فقط تركيب حرف العطف “و” ولا يضيف بهذا شيئًا. يُظهِر شكل القضايا كيفيّة عملها ولا يمكن توضيح أي شيء ذو معلومات عنها. وتَبنَّى ويتجينستاين عددًا من الآراء في نهاية الرسالة حول الأخلاق والإرادة وما يمكن أن يقال عنها. بيد أنّ هذه تبقى من أكثر الأمور صعوبةً ومنافسةً في التفسير في عمل ويدجينستاين. لقد أخذ ويدجينستاين على عاتقه كتابة محددات أقوال الفلسفة ولم يختم الرسالة بمزيد من التعليقات وإنَّما بقوله: “يجب أن نبقى صامتين عندما لا نستطيع الكلام”.
ب. دائرة فيينا والوضعيون المناطقة:
بدأت مجموعة من أساتذة الجامعة الأوروبيين عرفت بمجتمع إيرنست ماك في بدايات عام 1907، بالاجتماع بانتظامٍ لمناقشة قضايا المنطق والفلسفة والعلم تحت إشراف موريتس شليك. وسمّوا أنفسهم فيما بعد دائرة فيينا وأصبحت محادثاتهم تشكل منشأ حركة تسمى الوضعيّة المنطقيّة والتي تتضمن كارل هامبل ورودولف كارناب وهانس راكنبوك وغيرهم الكثير. وقد رفضوا مثالية هيجل التي كانت شائعة في الأوساط الأكاديمية الأوروبية وتحروا الدقة البالغة في العلم وخصوصًا الفيزياء كنموذج لهذه الأساليب وأخذوا الجهود الظاهريّة للاتجاه التجريبي في بريطانيا بصفته أساسًا إبستمولوجيا أكثر ملاءمة لمثل هذه الأهداف.
أثر دائرة فيينا في فلسفة اللغة:
تبنى كارناب رؤية فريج ووضح المنهج التحليلي بجلاء وخصوصًا في كتابه: [البنية المنطقية للعالم] 1928؛ حيث رأى الوضعيّ المنطقيّ في رسالة ويتجينستاين مصدر إلهام له إلّا أنّ إيمانه بأهدافه العالية كان في أقصى درجات الضعف؛ حيث اتفقوا مع ويدجينستاين في أنّ الإثباتات المنطقيّة تكون صادقة بحكم الروابط الداخلية بين قضاياها وليس بحكم حقائق من العالم الخارجيّ وحللوا هذا بصفته داعمًا لنسخة جديدة للاختلاف بين التحليل والتركيب. أما صدق الجمل التحليليّة يعتمد فقط على معاني التعابير المكونة لها “كل أعزب غير متزوج”. وأما صدق الجمل التركيبيّة فيعتمد جزئيًّا على حقائق تجريبيّة وراء معاني المصطلحات المكونة لها “فلين شخص أعزب”. يتمّ تأكيد الجمل التحليليّة بالتحليل المنطقي والجمل التركيبية استنادًا على جمل الملاحظة إلى بيانات معنويّة في تفسيراتٍ أكثر دقّة. وهذا ما قاد الوضعيين إلى نظرية التحقق من المعنى؛ حيث أنّ الجمل التحليلية صادقة بحكم معاني مصطلحاتها والجمل التركيبية تكون صادقة بحكم خضوعها لمعيار تحقُّقٍ تجريبيّ. وأيّ جملة لا يتم التحقق منها بإحدى هذه الوسائل تعتبر لا معنى لها. تقع هذه الاستثناءات ضمن دائرة القضايا الغامضة والمخفية ومجالات واسعةٍ من الأخلاق والميتافيزيقا كما مارسها كثير من الفلاسفة. وقد أشار شليك إلى ذلك بقوله: “تكون القضية ذات معنى يمكن تفسيره فقط عند إحداث فرق يمكن التحقق من صحته والقضيّة التي يبقى بها العالم كما هو بغض النظر عن صحتِها لا تقول شيئًا عن العالم؛ فهي فارغة ولا توصل لنا شيئًا ولا أعطيها معنى.
رغم ذلك، فإنّ لدينا اختلافًا يمكن التحقق منه فقط عندما يُحدث فرقًا في الأمر المطروح.” ويقصد شليك بالمطروح فيض البيانات الموجودة أمامنا. وإذا كان هناك القليل أو حتى أيّ جملة مفهومة لدى أغلب المتكلّمين بهذه الطرق فإنّ عمل الفلسفة سيكون التحليل المنطقي وتعريف مفاهيم العلوم الطبيعية في مصطلحات التحقق؛ فلك أن تتخيّل التحقق التجريبي لكثير من الأمور في الفيزياء عن طريق تنبؤ نتائج مخبريّة بنتائج يمكن ملاحظتها. بيد أنّ هذا أكثر صعوبة في مجالات مثل علم النفس وفلسفة الأخلاق. وفي هذه الحالات، اتّبع الوضعيون نوعًا من التبسيط المنطقي للجمل الدقيقة في الخطاب. إنّ كافة الجمل والمفاهيم الرئيسة في علم النفس يمكن تبسيطها إلى جملٍ يمكن التحقق منها تجريبيًّا حول سلوك مواضيع التفكير.
فمثلًا، إنّ جملة عن حالة عقليّة مثل الغضب يمكن تبسيطها إلى جمل عن سلوك يمكن ملاحظته مثل رفع الصوت، وتعابير الوجه، والعنف وغير ذلك. ويتطلّب هذا قوانين تجسّر الهوية وتساوي بين الكيانات في علم النفس ومثيلاتها في الفيزياء. وعليه، تتم ترجمة مصطلحات النظريّات القديمة إلى مصطلحات جديدة. يكون الشكل المرغوب في بعض الحالات هو مساواتها ببيانات المفهوم؛ وحيث أن هذا لا يمكن تطبيقه أخذها الوضعيّون في الجمل التي يتم التساؤل بشأنها على أنها ليست ذات معنى، ودافعوا بهذا عن توضيح كثير من المفاهيم والجمل والنظريات القانونية وضعت باستخفافٍ ضمن دائرة الميتافيزيقا. إنّ جملة مثل: “الله موجود خارج الزمان والمكان” هي ليست صادقة بالنظر إلى معاني مصطلحاتها ولا تخضع لأيِّ اختبار تجريبي، لذلك تذهب على أنّها غير مفهومة. واجهت نظرية التحقق في المعنى صعوبات كبيرة في الوقت الحالي نتيجة للاعتراضات بين الوضعيين أنفسهم؛ حيث أنّ إحدى هذه الصعوبات يتمحور في أن أيّ جملة تخضع للنظرية لا هي تحليليّة ولا تخضع لاختبار تجريبيّ فإنها إمّا تنفي ذاتها أو أنها لا تحمل معنى. إن التعميمات الكونيّة بما فيها القوانين العلميّة مثل “كافة الإلكترونات لها شحنة 1.6 أس 10 كولومبس ” أيضًا ذات مشكلة مع هذه النظرية، ذلك لأنها لا تستنبط من عدد محدود من جمل الملاحظة. وكذلك الافتراضات مثل: إذا ألقينا مكعب من السكر في كوب من الماء فإنه سيذوب تجلب مشاكل مشابهة. ورغم استمرار الجهود المبذولة للتحسين فإن عدم الرضا عن هذا البرنامج تفاقم في منتصف القرن الماضي.
ج. نظرية تارسكي في الصدق:
سطَّر ألفريد تارسكي في عملين إبداعيّين في عامي 1933 و1944، نقلة نوعية في التحليل الدقيق للمعنى؛ مظهرًا بذلك أنّ علم الدلالة تمكن دراستُه بشكل منتظم مثل علم النحو، حيث أن النحو وهي التراكيب والقوانين التي تتحكم باتساق الكلمات والعبارات في الجمل قد حلّلها المناطقة بشيء من النجاح. بيد أنّ المفاهيم الدلاليّة مثل المعنى أو الصدق قاومت هذه الجهود لسنوات طويلة. بحث تارسكي عن تحليل لمفهوم الصدق لا يحتوي استنادات توضيحيّة أو ضمنيّة لمفاهيمٍ دلالية أساسيّة ووضع تعريفًا له من حيث النحو ونظرية صحيحة. فبدأ بالتفريق بين اللغة الهدف واللغة الماورائية؛ إذ أنّ اللغة الهدف هي لغة طبيعية أو شكليّة تكون هدفًا للتحليل. وأما اللغة الماورائية فهي التي يتم بها التحكّم بالتحليل. إنّ اللغة الماورائية هي اللغة التي نستخدمها لدراسة لغة أخرى واللغة الهدف هي اللغة التي ندرسها. فعلى سبيل المثال، يأخذ الأطفال الذين يتعلّمون لغة أخرى حِصَصًا لتعلّم تلك اللغة. وتكون هذه الحصص مُدارة باللغة الأم والتي تُعامل اللغة الثانية كهدفٍ للدراسَة. وعليه، ينبغي تضمين نسخ من كل جمل اللغة الهدف وينبغي أن تتضمن اللغة الماورائية مصادر كافية لوصف النحو في اللغة الهدف. وفي الواقع، لا تحتوي اللغة الهدف على صدقها في موضوعها وهذا يحدث فقط في اللغة الماورائية؛ لأنها تتطلب متحدثين ليتحدثوا عن الجمل بأنفسهم بدلًا من استعمالِها. هناك جدال كبير حول شكل اللغة الماورائية التي يتم تفعيلها لتحليل لغة طبيعيّة ما. ونظر تارسكي بعين الشك إلى إمكانيّة نقل هذه الأساليب من اللغات الشكليّة إلى اللغات الطبيعية ولكننا لن نتطرق لهذه القضايا. وجادل تارسكي بأن تعريف الصدق يجب أن يكون صادقًا صوريًّا وكما وضعها:
14) لكلّ أ قضية أ صادقة إذا كانت ج أ أو جمل متكافئة بشكلٍ مثبت مع هذه حيث تكون القضيّة صادقة إذا لم تكن جزءً من ج. كانت هذه حالة صوريّة إلا أن تارسكي دعا بقوة إلى كفاية المادة أو إلى معنى أن تعريفنا قد نجح في تحصيل مصدر المقابلة بين أحوال الشؤون أو الجمل المرتبطة بالصدق. فعلى سبيل المثال، يجب أن يتضمن صدق تعريفنا جملًا مثل:
15) “إنّ الثلج أبيض” صادقة إذا كان “الثلج أبيض.” لاحظ أنّ علامات التنصيص هنا تشكل النصف الأول من جملة اللغة الماورائية عن جملة اللغة الهدف “الثلج أبيض” أما النصف الثاني من جملة اللغة الماورائية هو حول الثلج نفسه. ثم وضع تارسكي تعريفًا للصدق؛ إذ تكون الجملة صادقة إذا كانت متضمنة من كل الجوانب وكاذبة إذا لم تكن كذلك. وذلك أنّ التضمين هو العلاقة بين الأشياء الاعتباطية ووظائف الجملة ووظائف الجملة هي تعابير ذوات بنية تركيبية تشبه الجمل البسيطة ولكنها تحتوي متغيرات حرّة مثل: أ هو أزرق أو أ أكبر من ب. اعتقد تارسكي أنه يمكننا الإشارة إلى أيّ الأشياء التي يتم تضمينها بأبسط وظائف الجمل ثم نضع مجموعة من الحالات التي تندرج تحتها الوظائف المركبة التي يتم تضمينها من حيث أبسط الوظائف. وأضاف تارسكي تعريفًا استقرائيًّا إلى العوامل الأخرى في منطق الرتبة الأولى، حيث قدّم تعريفًا للصدق دون الاحتكام إلى المفاهيم الدلالية الأساسية رغم أن فيلد اعتبر التصميم والتضمين مفهومين دلاليين أيضًا. وتَركّز جدال الفلاسفة التحليليّين حول قراءة ما فعله فيلد إما كتفسير انكماش للصدق أو كنظرية مقابلة صلبة إلّا أنه -كعمل فريج- لعب دورًا بالغ الأهميّة في إقناع الأجيال المتوالية من المناطقة والفلاسفة بأن تحليل المفاهيم الفلسفية العصيّة على الفهم بالطريقة التقليديّة بأدوات المنطق الحديث وأصبح كلاهما مستساغًا في أفهامهم ويعود عليهم بالنفع.
ثورات منتصف القرن الماضي:
أصبح منهج فريج ومور وراسال أساسًا عند الوضعيين المناطقة بحلول منتصف القرن العشرين. لقد كان للحرب العالمية الثانية الأثر الكبير في فصل الفلاسفة الموهوبين في القارة وإقامة الكثير منهم في جامعات بريطانيا وأمريكا فنشروا أفكارهم وآراءهم وأثروا في أجيال الفلاسفة القادمة. وعلى الرغم من ذلك، تلقّى المنهج التحليلي نقدًا لاذعًا من الداخل وزلزل الشك بعض أعمدة المنهج القديم من جانب أعضاء دائرة فيينا مثل: أوتو نويراث والمتطفلين مثل كارل بابار. يتناول القسم التالي عمل رمزين هما: كواين وويدجنستاين الذين تحديا الآراء المسلمة في فلسفة اللغة وعَمِلا بصفتهما ناقلين للآراء المعاصرة.
ا. كواين والاختلاف التحليليّ والتركيبيّ:
تعمّق و. في. أو. كواين باحثًا في جوهرِ الوضعيّة المنطقيّة والفلسفة التحليليّة باقتحام الاختلاف التحليليّ والتركيبيّ. لقد سر الوضعيين قبولهم الفرق بين جملٍ صادقة بالنظر إلى معاني مصطلحاتها وتلك الصادقة بالنظر إلى الحقائق. إلا أنّ كواين كان يخامره الشك في معاني التعابير، حيث كان كالوضعيين متحفظًا من قبول أي شيء لا يخضع للتحقق التجريبي وينظر إلى المعنى على أنه أحد هذه الأشياء. أَذهبَ كواين فكرة المعنى بصفته عنصرًا حقيقيًّا يتم تقديمه في أذهاننا وراء أساليب تظهر في سلوكِنا وسمّاها أسطورة المتحف أي مكان تكون العروض فيه هي المعاني والكلمات هي الأسماء. وجادل بروح تجريبيّة جامحة بأنه لا يمكننا الوصول لمثل هذه الأشياء في تجاربنا. وبالتالي، فلا يمكنها توضيح سلوكنا اللغويّ وليس لها مكانًا في تفسيرنا. وتساءل كواين عما إذا كان هناك اختلاف كبير بين التحليليّ والتركيبي؛ ففي أثناء مراجعته لأفكار اتجاه التحليلية الشائعة، وجد أن كُلًّا منها غير كافية وتتطلب سؤالا بحدِّ ذاتها. لقد كانت التحليليّة أمرًا مُسلَّمًا ومسألة عقائدية عند التجريبيين وخصوصًا الوضعيين المناطقة وغير خاضعة للنظر. علاوةً على ذلك، زاوج الوضعيون هذه المُسلَّمة بالمُسلَّمة الثانية وهي التبسيط التجريبي وهو الاتجاه القائل بأن كل جملة أو تعبير يحصل على نصيبه من المحتوى التجريبي من تجاربنا. إنّ فكرة كواين ليست أنه لا ينبغي لنا أن لا نكون تجريبيين أو أن لا نأبَه للمحتوى التجريبي بل إن فكرته هي أنه لا يمكن لجملة أو تعبير أن يأخذ هذا المحتوى كله. تعمل جمل لغتنا معًا لتواجه مجموعة التجارب كوحدة واحدة، حيث أن هذه الوحدة اقتضت مساواة معينة بين الجمل التي نُخضِع أنفسنا لها. إن أيّ فكرة تُعتبر صحيحة إذا أردنا مراجعة الأجزاء الأخرى من شبكة اعتقاداتنا لملاءمتها، لأن أي فكرة يمكن مراجعتها إذا تطلّبت الأمور ذلك حتى التي نأخذها لتكون فكرة عن المعنى الذي أمامنا، مثل: كل أعزب غير متزوج. تكتسب بعض الجمل مناعة قوية نسبيًّا من المراجعة مثل قوانين المنطق إلا أنها تتلاءم مع حالتها فقط بسبب مركزيتها في طرق تفكيرنا الحالية.
إن الأفكار الأقل مركزيّة يمكن مراجعتها بشكل أسهل من سابقتها وباهتمام عابر مثل الجمل حول عدد البيوت ذات الطوب الأحمر في شارع إيلم. إن إمكانيّة المراجعة المفتوحة أتت لوضع لهجَة للإبستومولوجيا في الفلسفة التحليليّة خلال القرن العشرين. رأى كواين أنه لا فائدة للمعنى دون المحتوى الضخم من التجارب أو الصدق التحليليّ ليرتبط بتفسير للمعنى. وركّزَ عمله بدلًا من ذلك على الشراكة في الإحالة والاتفاق بين المتكلّمين؛ إذ أشار في كتابه اللغة والهدف الصادر عام 1960 إلى أنّ مكاننا كمتحدثين يشبه إلى حد كبير مثل لغوي يحاول ترجمة لغة مكتشفة حديثًا دون أن يكوّن لها روابط إدراكيّة مع اللغات المحليّة وسماها الترجمة الراديكاليّة. وإذا واجهنا وضعًا كهذا فإنّه يتعيّن علينا البحث عن تعابير مكررة ومحاولة تأمين مرجع لها. وفي مثاله الكلاسيكي فإننا نقف مكتوفي الأيدي أمام اللغات المحلية . لاحظ أن الأرانب تركض نادراً والمحليون يقولون: “gavagai” عندما تمر الأرانب. ربما نترجم كلامها بكلمتها المحلية أرنب. ينتج تفكيرنا بقابلية ترجمة أحد التعابير مع الآخر تأثير بناء النظرية ذاتها وهو أن التحدث بمعنى مشترك يُحدِث اتفاقًا بين المتكلمين دون الاحتكام إلى الأمور المجردة كالمعاني. ورغم ذلك، أدّى هذا إلى أطروحةِ كواين في عدم التعيين في الترجمة؛ فعندما نشكّل فرضيات كهذه اعتمادًا على ملاحظاتٍ من تصرفات المتحدثين فإن هذا الدليل يختبر دائمًا فرضياتنا ويمكن تطويع هذا الدليل ليتلاءم مع الترجمات الأخرى حتى لو بدت غريبة علينا. وعليه، فإن كلمة ” gavagai” يمكن ترجمتها على أنها عشاء إذا كان السكان المحليّون يتناولون الأرنب أو جزءً منه على وجبة العشاء. ربما نُركّز الترجمات قليلاً بمزيد من الملاحظة دون الاستبعاد المنطقي للأخريات. يمكن أن تُغربلِ أسئلة المحليين المباشرة مجموعة الترجمات المنطقيّة قليلًا إلا أنّ هذا يُسلّم القيادة لعدد كبير من المصطلحات المجردة التي نشاركها مع هؤلاء المتكلمين والتي ترتكز بشكل مُسلّم بدورها على أساس فهم مشترك لمصدر أبسط من المفردات التي بدأنا بها. وعليه، لا شيء مما نلاحظه على المتكلمين سيحدد كليًّا صحة إحدى الترجمات على الأخريات؛ إذ أن الترجمة دائمًا غير ثابتة.
إن هذا لا يقودنا إلى القول بعدم تفضيل بعض الترجمات على الأخريات لكن دوافعنا لعمل هذا تبقى اهتمامات برجماتية حول البساطة والكفاءة. وينبغي ملاحظة اختلاف المتحدثين في درجات الفهم حتى ولو تعلق الأمر بلغتهم الأم. لدينا فقط تصرفات المتحدثين الآخرين التي يمكن ملاحظتها بما هو مألوف مع استخدامنا لهذه المصطلحات. وهذا يُوجِب علينا مواصلة تقييم المتحدثين الآخرين في محادثات بهذه الأساليب.
ما بعد كواين:
استمر تلميذ كواين دونالد ديفدسون في تطوير هذه الأفكار حتى فيما يتعلق بيقظة كواين؛ إذ أكدّ ديفدسون أن التفسيرات التي نَخلِقها لتعابير لغتنا الأصلية ليست أقل راديكالية مما أشار إليه كواين في الحديث عن محاولة اللغويّ في ترجمة تعابير جديدة بشكل يتجاوز المعايير. أمّا في عيون الفلاسفة والدارسين، فقد رآها كثير منهم مصدرَ إلهامٍ لهم ولكنها وقعت تحت هجمات فريق منهم؛ إذ لم تكن السلوكيّة في قلب دراسته مستساغةً عند أغلب الفلاسفة وعلماء الإدراك. وينطبق الكثير مما كتبه ناعوم تشومسكي عام 1959 في نقد سكينر على عمل كواين. وعلى الرغم من خضوع الفطريّة والمعرفة المتضمنة في عمل تشومسكي للنقد اللاذع إلا أن هذا النقد لم يوجّه الفلاسفة وعلماء اللغة نحو التجريبية السلوكية التي نشأَت عليها تفسيرات كواين. وما زال أكثر فلاسفة اللغة المعاصرين يدينون لكواين في كسر مسلمات الفلسفة التحليلية الأولى وفتح الأبواب لتساؤلاتٍ جديدة.
ب. ويدجينستاين اللاحق:
غادر ويدجينستاين كامبريدج في بدايات عشرينيات القرن الماضي واشترك في مشاريع مختلفة خارج الوسط الأكاديميّ لسنوات عديدة ثم عاد عام 1929 وبدأ القيام بأعمال مختلفة كليًّا عما مضى كانت موضع جدال كبير حتى بين أتباع ويدجينستاين أنفسهم حول درجة التقارب بين هذه المراحل. يتحدث كثير من فلاسفة اللغة عن ويدجينستاين اللاحق على أن آراءه الأولى كانت مختلفة كليًّا وغير ملائمة. في حين يُصِرُّ آخرون على وجود استمرارية وطيدة في المواضيع والأساليب. ورغم أن عمله الأول قد أُسيءَ فهمه على نطاق واسع في وقته فهذا يبعث الشك بحدوث تغيرات مهمة وهي جديرة بأن نذكرها هنا. ففي تحقيقاته الفلسفية التي نشرت بعد موته سنة 1953، قطع ارتباطه بالتطلُّعات النظرية للفلسفة التحليلية في النصف الأول من القرن الماضي عندما اجتهد فلاسفة اللغة في نظام منطقيٍّ شحيح وأنيق. أشارت التحقيقات إلى أن اللغة جَمْعٌ متنوعٌ من ألعاب اللغة يخضع لتغيرات يصعب التنبؤُ بها وأنشطة اجتماعية موجهة لهدف محدد، تُكوِّن الكلمات فيها أدوات للحصول على أشياء يتم فعلها بدلًا من عناصر بناء منطقيٍّ ثابتة إلى الأبد.
إن التمثيل والمدلول والتصوير هي بعض الأهداف التي من المحتمل أن تملكها في لعبك لعبة لغة ما، إلّا أنها ليست هي الوحيدة. أخذت هذه النقلة في فلسفة ويتجينستاين مكانها في اهتمامها الجديد للأبعاد السياقية في الاستخدام اللغوي. إن الحديث عن الأهمية السياقيّة لتعبيرٍ ما في هذا المعنى يعني دراسة طريقة تمثيل فَهمنا لهذا التعبير في صورة أعمال أو الدلالة على الأعمال. وعليه، نوجّه انتباهنا لاستخدامه بدلًا من المفاهيم المجردة لصيغة منطقية شائعة في صيغ البداية في الفلسفة التحليلية. يفرّق منظرو الفعل الكلامي بين علم الدلالة والبراغماتيكا بشيء من التقييد؛ إذ من الجدير بالذكر أن فكرة المعنى هو الاستخدام تُنسب غالبًا إلى ويتجينستاين رغم اختلاف تفسيراتها. فقرأها رايت بصفتها دعوة إلى التقليدية الاجتماعية للمعنى والتي رفضها ماكدويل بشكل واضح. واعتبرها براندوم مدخلًا إلى تفسيرٍ سياقيّ ومعياريّ للمعنى أي أنه توضع من حيث الإلزامات والتخويل لعمل أشياءٍ معيّنة بطرقٍ معينة وفقًا لممارسات مشتركة. ورغم هذا الاختلاف، فإنه يمكن القول بأن ويتجينستاين رفض النظرة إلى لغة ما على أنّها صورة منطقية منفصلة من الحقائق وأضاف اهتمامًا للأبعاد المنطقية، فلا يمكن لأحد أن ينظر فقط إلى البعد التمثيليّ للغة ما ويتوقع أن يفهم ماهية المعنى.
إن تطورًا رئيسيًّا آخر في عمل ويتجينستاين اللاحق وهو معاملته للقوانين واتباع هذه القوانين، إذ أن للمعنى علاقة معينة بأفعالنا ولكن ليس بالشكل الذي يجعل هذه العلاقة قانونًا طبيعيًّا. إن الادعاءات حول المعنى تعكس معايير الاستخدام وجادل ويتجينستاين بأن خلق فكرة اللغة الخاصة أمرًا سخيفًا، إذ يقصد بهذا أنه ليس من المحتمل وجود لغة يكون الوصول إلى معانيها حِكرًا على شخص بعينه يتكلّمها، إذ أن أغلب الفلسفة الحديثة بُنِيَت على نماذج ديكارتيّة والتي أسست اللغة العامة بحلقات خاصة تضمنت خصوصية كثير من فهمنا الأساسي. ويوضح ويتجينستاين: “إنّ المشكلة هنا هي عدم كفاية الاحتكام إلى أمرٍ خاص لاتباع قانون لاستخدام تعبير ما. وهكذا، يستحيل وجود لغة مفهومة لشخص واحد لأنه يستحيل على هذا المتحدث تأسيس معانٍ للإشارات المفترضة. وإذا كان هناك لغة خاصة فإن الطريقة الوحيدة لوضع المعاني هي بشيء من التظاهر كالتركيز على تجربة الشخص والقول: “سأسميه إحساسًا بالألم”. بيد أنّه لوضع معنى لإشارة ما فلابدّ أن يؤثر شيء ما على طريقة المتكلّم في استعمال الإشارة في المستقبل بشكل صحيح، إذ بغير ذلك لا قيمة للتظاهر المفترض. لنفترض أننا بدأنا بحلقات خاصة كهذه فماذا سيحدث للاستعمالات المتعاقبة للمصطلح؟ لا يمكننا القول بأننا نشعر بها كما كنا نشعر من قبل، أو تَصدِمنا كما كانت تَصدِمنا لتلك الأشكال من الانطباعات الشائعة حتى عند ارتكاب أخطاء ولذلك فلا يمكن لها أن تدلَّ على الصحة. ربما يقول شخص أنه ينبغي عليه تذكر طريقة استعمال أحدهم إشارةً ما في الماضي إلا أنّ هذا يتركنا متسائلين عن ماهية ما يتذكر في هذه الحالة. تبقى الذاكرة إلى جانب المعنى حتى نجزم بطريقة وضع حلقة خاصة لنمط الاستعمال الصحيح. ولتجاوز هذه العقبة، فقد وجّه ويتجينستاين انتباهه إلى ميدان الظاهرة العامة وأشار إلى أنّ من يقومون بنفس الحركات مع القوانين يشتركون فيما بينهم بشكل من أشكال الحياة الذي هو ثقافة أحدهم أو المجموع الكليّ للممارسات الاجتماعية التي يشارك فيها. عرض كريبت تفسيرًا جديرًا بالملاحظة لحجّة ويتجينستاين في اللغة الخاصة رغم اختلاف الآراء حول منسوبيتها إلى أعمال ويتجينستاين. وستبقى الأجيال المتعاقبة من الفلاسفة الغربيّون متأثرين بشكل كبير بهذه القضية ويجتهدون في تضميناتها في العقود اللاحقة.