فلسفة الضياع في مسلسل “Lost”
مسلسل “Lost” يستحق أن نعتبره موسوعة في السينما الفلسفية؛ فكما أن للفلسفة موسوعات في الكتب فإن مسلسل “Lost” من أهم موسوعات السينما الدرامية لعدة أمور منها:
أن المسلسل ناقش الثلاثية المهمة في الفكر البشري كله وهي: (الفلسفة والدين والعلم التجريبي)، فناقش أهم مباحث الفلسفة من خلال الشخصيات والأحداث (كفلسفة الدين، وفلسفة اللغة وفلسفة العقل، وفلسفة الأخلاق، والفلسفة السياسية).
واهتم المسلسل بالدين من خلال اعتبارين مهمين: رفضه حينما يكون مفرِّقًا وقاتلًا في شخصية جاكوب، وقبوله حين يجمع كل الأطياف في الكنيسة كما حدث في نهاية المسلسل.
ويحضر العلم التجريبي في المسلسل من خلال فيزياء الكم بالسفر عبر الزمن، عندما قامت شركة نفعية باستغلالهم والتأثير عليهم للسفر عبر الزمن لإجراء تجارب عليهم في هذه الجزيرة، فصارت الأحداث متغيرة ومثيرة للتفكير الفلسفي بسبب بعض تصرفاتهم نتيجة سفرهم عبر الزمن، كمحاولة قتل بعضهم حتى لا تحصل بعض الأحداث التي يعرفونها قبل سفرهم هذا، هنا نشأ الخلاف بينهم ومناقشة ذلك فلسفيًا وعلميًا كما حصل مع هوغو.
وأما نقاش المسلسل للفلسفة فكان من داخلها كفلسفة جون لوك التجريبية باعتبار العقل صفحة بيضاء مع شخصية جون لوك في المسلسل الذي قام بحثه في الجزيرة على التجريب وليس على ما هو عقلاني مسلم به أو فطري، مما جعله يختلف تمامًا مع جاك (الطبيب الذي يحكم على كل ما يراه عقلانيًا)، وكان من الأهم هنا أن تكون الشخصية التجريبية لجون لوك هي الطبيب باعتباره علم تجريبي، لكن ربما كون المعلوم عن فلسفة جون لوك أنها لا تنحي العقل تمامًا في الحكم وإن اتخذت من التجريب منهجًا لها.
كما أننا نجد من خلال الفلسفة الاختلاف بين فعل الواجب الأخلاقي كما في شخصيتي كيت وجاك، وبين النفعية البرجماتية كما في شخصية سوير الذي يفعل فقط ما يعتبره نافعًا له ثم للجميع. وأيضًا فإن الاهتمام بالأنطولوجي يظهر جليًّا في هذا المسلسل بكثرة التساؤل: لماذا نحن هنا في الجزيرة؟ وكيف وصلنا إلى هنا؟ فكان الهم المؤرق للإنسان الأول ما تمثله الجزيرة لهم -لأن الطائرة سقطت فيها وفيها بنوا حياتهم الجديدة-، البحث في الوجود: ما الوجود؟ ولماذا الوجود؟ والعلة في إثبات الوجود أحد أهم مباحثه الفلسفية.
ولعله من أهم ما يناقش في المسلسل فلسفيًا فلسفة العقد الاجتماعي وبناء الدولة، فما كان منهم في هذا الظرف إلا أن يختاروا من يتولى أمرهم، فانشقوا إلى فريقين: تجريبي مع لوك، وعقلاني مع جاك، وعلى هذا استمر تسلسل الأحداث حتى اجتمعوا لاحقًا عندما دخل الدين في مجالهم. ويمكن لنا أن نرى الاهتمام بفلسفة الأخلاق جليًّا في المسلسل من خلال فكرة التعاون التي قامت عليها الأحداث، فلم يستطع أي شخص الاستقلال بفردانيته النجاة دون الجماعة، فصارت فكرة التعاون هي المُنجي لهم من الجزيرة حتى آخر لحظات المسلسل حين ضحَّى جاك بنفسه من أجل نجاة الجميع.
ودخول الدين أو الميتافيزيقا في مسلسل “Lost” جاء متأخرًا بعد عدة حلقات من المسلسل عبر فكرة أو شخصية جاكوب الذي لم يروه بل سمعوا به ممن التقوا بهم في هذه الجزيرة وزعموا أن جاكوب وجههم إلى بعض القرارات لينفذوها وما عليهم غير التسليم. لكن الدين سبَّب لهم بعض التفرقة حينما وجدوا مجموعةً أخرى في الجزيرة لهم طقوسهم العبادية وأسروهم بل حاولوا قتل أحدهم بحجة التأكد من بعض المعتقدات لديهم، حتى جاء جاكوب على هيئة دخان -وهذا ما كان يظهر عليه في المسلسل- فقتل كل أعضاء هذه الديانة المخالفة له.
وكان الهم الأكبر الذي توارثه الأجيال في هذه الجزيرة حتى لا تنتهي بالغرق هو المحافظة على الضوء الذي يخرج من الغار، فكان الحفاظ عليه منذ جاكوب حتى عقلانية جاك، وهذا الوهج ربما يكون هو وهج الحياة أو وهج العلم أو وهج الحب أو أي وهج يجمع البشرية ولا يفرقهم.
فالضياع هنا أقام فلسفة متنوعة أخذت باستحضار التساؤلات الفلسفية الكبرى على مر التاريخ الفلسفي البشري، كأسىئلة الوجود وسؤال الطبيعة البشرية وسؤال الأخلاق وغير ذلك. فكان الضياع دافع ومصدر إلهام للإنسان في المسلسل، وكأنه يحكي أن الضياع سبب للوجود؛ فعندما يضيع الإنسان يفكر فيتساءل وجد الإجابات، وكأن الضياع هنا هو الوجود أو هو سبب الوجود.