عمل جيناتك لبِنة أساسية من حياتك

تضمّ كلّ خليّة من جسمنا جينومًا مطابقًا للمتواجد في الخلايا الأخرى، وكما هو معلوم أنّ حمضنا النووي هو جزيء كيميائي مهمّ جدًا يعمل كقائد الخلية ومسيّرها، وكنا قد شرحنا بعض الأساسيات التي وجب علينا فهمها بشأن الجين لنواصل هذه المرّة رحلة مختلفة قليلًا.
غطسة صغيرة لفهم الجين :
يتكوّن جينوم كلّ خلية في جسمك من كرموسومات تتواجد بالنواة، تتشكل هذه الكروموسومات من لولب دي إن اي ملتفّ حول بروتينات تسمى الهيستونات Histones.
هذا اللولب عبارة عن مجموعة من المركّبات المتسلسلة وفق نظام معيّن دقيق، حيث أنّ هناك مناطق بهذا اللولب يتمّ نسخها لمركّب آخر يُسمى RNAm، هذه المناطق تسمى الجينات ويتمّ التحكّم في مدى نسخها وتشفيرها، وكذا تعطيلها أو تفعيلها، أي شدة تعبيرها في الخلية، وقد أشرنا في مقال: البكتيريا تراقب جيناتك، إلى إحدى الكيفيات التي باستعمالها تقوم الخلية بتوجيه جيناتها وتحديد مدى عملها.
نظرة عامة لأهمية هذه المراقبة الجينية:
إعلان
تعبر الجينات البشرية عبر نسخها إلى جزيء RNAm المرسال (الخيط الأحمر في الصورة أعلاه) الذي يغادر النواة متجهًا نحو آلة صناعة البروتينات Ribosomes، التي تتّبع أوامر الجينات عبر قراءة المرسال وصنع المنتوج البروتيني حسب الطلب.
هذا المنتوج البروتيني يعتبر مهمًا؛ قد يَكون إنزيمًا يقوم بتسريع التفاعلات الكيميائية، أو مستقبلًِا يقوم بفهم إشارات الخلايا الأخرى، أو مركّبًا يساعد في تشكيل جدار عضوي معيّن أو يكون عاملًا يراقب عمل البروتينات الأخرى، إضافة لعدد كبير من البروتينات المتخصصة في وظائف متنوعة.
لو زاد تركيز إحدى المركبات أو نقص في وقت غير مناسب، قطعًا ستتغير توازنات الخلية وستمرّ في ظروف صعبة.
إذَن، من البديهيّ أن نستنتج أنّ توازن عمل الجينات وشدة تعبيرها يعدّ أمرًا حساسًا في عمل الخلايا، وهذا يجعلنا نرغب أكثر في معرفة آلية تنظيم عمل وتعبير هذه السلسلات النيكليوتيدية النشطة في جينومنا.
ويمكن وصفها ”صيغة” نتيجة لحملها رمزًا مشفّرًا يتمّ تحليله وتفعيله حسب كلّ خلية، حيث أنّ صيغة أنزيم alcohol dehydrogenase، متواجدةٌ بكلّ خلايا جسمك! لكنها مفعّلة بالكبد من أجل نزع سموم الدم، وهذه وظيفة كبديّة تتطلب تصنيع هذا الأنزيم، بينما تنتفي احتمالية صُنعه بخلايا الأعصاب مثلًا، كنتيجة لتوقيف عمل الصيغة المسؤولة عن تركيبه، أي كأنّ الخلية اختارت أن تصنع هذا البروتين عندما جاءتها معلومات تؤكد تواجد الكحول السامّ. وسنرى الآلية التي تجعل الخلية تقرّر صنع بروتين أرادته، في وقت ما، لمدة محددة وبتركيز دقيق.
مجال الحديث عن تنظيم عمل الجين واسع جدًا، وينقسم لعدة عوارض: التنظيم عن النسخ، التنظيم بعد النسخ، التنظيم أثناء الترجمة (أثناء فكّ شيفرة المرسال)، والتنظيم بعد الترجمة. ونقصد هنا بالترجمة؛ صنع البروتين حسب صيغة الشيفرة وتعليماتها.
سيتطرّق مقالنا لمثالٍ حول التنظيم أثناء الترجمة، بذكرنا لعنصر مهمّ: الحديد، الذي يعدّ ضروريًا لإنتاج الكريات الحمراء، كما أنه جزء منها من أجل حمل جزيئات الأوكسيجين وتوزيعها على الجسم إضافة إلى تدخّله في العديد من العمليات البيولوجية. تواجده يجب أن يكون مراقبًا، حيث أنّ خلايا الكبد تنتج بروتين Hepcidine أثناء فترات معينة تحددها مستويات تخزين الحديد، ومستويات تصنيع الكريات الحمراء وعمليات الالتهاب، هذه العوامل تؤثّر في إنتاج الخلية لهذا البروتين الذي يقوم بتبطيء نسبة نقل الحديد من الأمعاء للدم، وفقدان هذا البروتين يؤدّي لارتفاع نسبة الحديد؛ وارتفاع نسبة الحديد أو انخفاضها يؤثر في تعبير بروتين آخر يسمّى Ferritin.
عند ارتفاع نسبة الحديد -وذلك يحدث مثلًا عندما تلبّي احتياجات جسمك بمقدار 1mg في اليوم مع تجاوز هذه الكمية إلى حد ما- في تلك الحالة، أنت قدمت لجسمك كمية أكثر من التي يستعملها في هذا اليوم، وزيادة تركيزه عن الحالة العادية يؤدي إلى تأثيرات جانبية سامّة تجعل خلاياك تتصرّف حَذِرةً من تفاقم ذلك، أي وجب على الخلية التعامل مع نسبة الحديد المضافة وذلك بنسخ جين Ferritin في هيأة المرسال RNA، حيث يتّجه المرسال نحو الريبزومات، فتبدأ هذه الأخيرة بإنتاج بروتينات التي تقوم بتخزين وجمع الحديد الزائد لمنعه من أن يصبح سامًا وكذا استعماله أثناء فترات نقص الحديد.
في فترات نقص الحديد تتدخّل عملية مهمّة، حيث أنّ خليتك في هذه الحال لا تحتاج للتخزين، بل تنتظر منك منحها الكمية المناسبة، فتضطر لإيقاف صنع بروتين التخزين. كيف تقوم بذلك؟ تأتي مركّبات تنظيم الحديد (يرمز لها IRP)، والتي تتموضع في جهة معينة من مرسال Ferritin تسمّى عنصر التنظيم regulation element، وعند حدوث هذا الالتحام، يصبح أمرًا غير ممكن من الريبوزومات أن تقوم بترجمة المرسال إلى المنتوج البروتيني المخزن.
لِمَ لمْ تتدخل بروتينات IRP أثناء تواجد الكمية الزائدة من الحديد؟ من الواضح الآن أنه لو حدث ذلك لما تمّ تخزين الحديد المتواجد بكثرة، بسبب أنّ بروتين التخزين لن يتشكل، إذَن، مذا حدث لتلك البروتينات؟
الأمر بسيط، عند تواجد عناصر الحديد بكميات مناسبة، تتفاعل أعداد منها مع IRP، فتقوم بمنعها من الالتحام مع المرسال ليواصل هذا الاخير وجهته.
يكون تنظيم التفاعلات الكيميائية مهمًا جدًا بالخلية، واختيار الجينات وكذا شدة تعبيرها يُعتبر أمرًا ضروريًا لاستمرارية أداء الخلايا وتخصصاتها. أمّا مقالنا هذا، فلم يكن إلا مثالًا لآلية تنظيمية بسيطة تندرج ضمن تعقيد كبير لا يزال قيد محاولة التبسيط والفهم.
إعلان