صراع العقل والغريزة في مسرحية الزائر
يقع كثيرٌ من كتَّابِ المسرحِ الرمزيِّ في فخِّ (الرمزيَّة المباشرة) شديدةِ الفجاجة والابتذال، فيوشك التلميحُ أن يكونَ تصريحًا، وتكاد التوريةُ أن تُصبحَ إشارةً جليَّةً إلى مَقصِد الكاتب. لكن هذا العملَ المسرحيَّ – رغم أن الرمز فيه قد يبدو مباشرًا للوهلة الأولى – إلا أن الكاتب عماد مطاوع قد راعَى فيه مستويات التلقِّي، فكان في ظاهره يرمز إلى الصِّراع المُطَّرِد ما بين الزوجة الراغبة التي تعيش شبابها الثاني (وفق تعبير أمين يوسف غراب في روايته المشهورة)، والزوج العاجز عن التلبية. أمَّا في حقيقته، فكان يرمز إلى الصِّراع الأزلي ما بين العقل والغريزة.
تبدأ مسرحية الزائر بخيبة أمل الزوجة (الغريزة) حين تجد زوجَها (العقل) قد انتهى من القراءة والتفكير، وبدأ يغِطُّ في نومٍ عميقٍ؛ فكأنَّ لحظةَ تجسُّدِ الغريزة هي لحظةُ سُبات العقل! وقد أجاد الكاتب في وصف العناصر المشهدية، والخصائص المظهرية للزوج، بحيث تضفي الوقارَ على المكان، والجديةَ على الزوج ذي الملابس قديمة الطِّراز، الذي شغله التفكير حتى عن متابعة الزمن، والاهتمام بمظهره؛ فقد وصل إلى الحكمة المُطلَقة التي تمثَّلَتْ في قولِه لزوجته:
لا شيءَ مهم… لم يَعُدْ هناك شيءٌ مهمٌّ في هذا العالم يا عزيزتي.
الغريزة لا تفكِّر، ولا تعمد إلا إلى ما يشبعها. لذلك نجد (الزوجة/الغريزة) اليائسة من الإشباع، تتحسَّس جسدَها، محاولةً التغلُّب على عجز (الزوج/العقل) عن تلبيتها، فإذا استدعاؤها للشهوة يتجسَّد في هيئةِ زائرٍ، تترادف طرقاته على باب المنزل مع دقات الساعة، التي تشبه نبضاتِ قلبٍ مضطربٍ، أو إيقاعًا إيروسِيًّا!
يستقبل الزوجُ الزائرَ، ويبدأ الصِّراع.
تحاول الغريزة أن تجتذب العقل دائمًا إلى مضمارِها لتنتصر عليه بأن تُغيِّبَه، أو بأن تُعدِيَه ببعضِ نزعاتِها، فنجد الزوجةَ متلهِّفةً على أن يتَّخذ (الزوج/العقل) فعلًا عنيفًا ضدَّ الزائر، فتتحمَّس حين يرفعُ البندقية (في إشارةٍ فرويديةٍ إلى الانتصاب)، وكذلك حين يصوِّبها نحو الزائر. وما إن تستشعر الزوجة أنه بدأ ينزل عن كرسي الحكمة، حتى تُراقصه، فيستجيب، مأخوذًا بلوثة الغضب الذي أَعْدَتْه به الغريزة. لكن الرقص يبدو متكلَّفًا لا رُوح فيه، لأنه في حقيقته لا يتواءم مع طبيعةِ العقل النازع إلى مخالفة الغريزة على طول الخط.
يرتخي العقل، ويعودُ إلى ما كان عليه. يكسِرُ الزوجُ كأسًا، فيتناثرُ الحُطَام، في إشارةٍ إلى الرجولة المُفَتَّتة (أو غير الموجودة أصلًا على منصَّة الحكمة المترفِّعة عن الشهوات).
فالإنسان لا يترقَّى حضاريًّا إلا بمقدار ابتعاده عن الفطرة. فأبعدُ نقطةٍ عن الأفعال الغريزية، هي أقربُ نقطةٍ إلى التحضُّر.
تتمادى (الزوجة/الغريزة) في البحث عمَّا يُشبعها، فتراود الزائر عن نفسه، وتصرِّح بعبارةٍ مفصليةٍ حين تلاحظ منه ممانعةً بدعوَى أنَّ زوجَها موجود:
لا تُلقِ لَهُ بالًا… إنه غيرُ موجودٍ… صدِّقني، إنه شبح. مجرَّد شبح.
هذا ما تلتزم به الغريزة، وما تسعى إليه… الانتصار على العقل بتهميشه، وتقزيم دوره.
لكن الزوجة – شأنها شأن الغريزة – لا تستقرُّ على حالٍ، وتتقلَّبُ بين الأمور وَفقًا لِمَا يُملِيه عليه الهَوَى. فبعد أن ضاقت ذرعًا بالزوج غير المبالي، استدعَتْ بمداعبتِها جسدَها زائرًا مهندمًا وسيمًا، ثم أرادت أن يقتلَه زوجُها، فلمَّا عجز، راودت الزائر عن نفسه، ثم نفرت فجأةً منه، وبدأت تقرِّعه بكلماتٍ حادَّةٍ، ثم أخذت تُغويه مرةً أخرى. فالغريزة لا تتحرَّك وَفقَ أحكام موضوعية، ولا تملِك إلا قانونًا بديهيًّا واحدًا: (ما يشبعني هو أمر جيِّد، بغضِّ النظر عن العواقب). ولذلك نجد الغريزة في المسرحية تُناقِض نفسها، وتأتي الشيءَ وضدَّه دونَ تحديد، وتتحرَّك بعشوائية. أما العقل – ممثَّلًا في الزوج – فقد اختار… اختار من البداية: النومَ، والانعزالَ، والابتعادَ عن العَلاقةِ الحميمةِ (أو إعجازَ نفسِه عنها)، والتمسُّكَ بالأصالة الظاهرة في أثاثِ منزله، والسعيَ إلى الحكمة ممثَّلةً في الكتاب.
ولذلك نجد الزوجة والزوج (الغريزة والعقل) يستمرَّان في صراعهما، إلى أن يصل الصراع إلى الذروةِ في هذا الحوار الذي ينطوي على بعد فلسفي عميق:
الزوجة: أريدك أن تُخبر هذا الزائر عن حقيقة كونِك موجودًا من عدمه… هل أنت موجود؟
الزوج: لست أدري! ليت أحدًا يخبرني بالحقيقة.
الزائر: (مندهشًا) سيدي… إني أراك بأمِّ عيني… أراك بالفعل… أنت موجود.
الزوج: (مندهشًا) حقًّا؟!
الزائر: (مؤكِّدًا) أقسم لك… أنت موجود.
الزوجة: (متهكِّمةً) كونُك تراه ليس دليلًا على أنه موجود.
الزائر: لكنه موجود.
وهذا هو جوهر الصراع ما بين الغريزة والعقل. كلُّ طرفٍ يسعى إلى إنكار الطرف الآخر، وإخضاعِه لسيطرته. وتستمر محاولة الزوجة لفرض سيطرتها بإخضاع الزوج لرغباتها. فيفهم (الزوج/العقل) ما وراء كلمة (الوجود) – من وجهة نظر الزوجة – فيقرُّ بأنه كان موجودًا (مهتمًّا بالشهوة) في الماضي، أما الآن – بعد أن وصل إلى ذروة الحكمة – فلم يَعُدْ مهتمًّا (لم يَعُدْ موجودًا). وفي الواقع، هو موجودٌ لأنه (يفكر)، إذ إنه (عقل)؛ في إشارة إلى قول ديكارت المشهور: “أنا أفكِّر، إذًا أنا موجود“؛ ولذلك نشأت الفجوة ما بين مفهوم الوجود عند (الزوجة/الغريزة)، ومفهوم الوجود عند (الزوج/العقل).
ويستسلم الزوج في هذه اللحظة، فينساق إلى الغريزة، فيغازل زوجته بعباراتٍ كليشيهيَّةٍ مصطنعةٍ، تكشف أنه لم يَعُدْ له باعٌ في الأمور المتعلِّقة بالغريزة، بعد أن بلغ الحكمة.
ثم يعترف (الزوج/العقل) بعدَ حوارٍ كاشفٍ، بأن عدم الإخلاص أمر طبيعي في عالم الرجال، في إشارةٍ إلى أن من الطبيعي ألا يُخلِص (العقل) بكُلِّيَّتِهِ للحكمة المطلقة والنأي عن الغريزة، لأنها – وإن كانت تُناقِضه – فهي بلا شك ضروريةٌ لبقائِه؛ فكيف ستبقى أداة العقل (المخ بمعناه التشريحي)، إن لم يحدث التكاثر المدفوع أصلًا بالرغبة الجنسية؟!
تتشابك خيوط مسرحية الزائر ويتصاعد الصراع، إلى أن نُفاجأ قربَ نهايتها بميلان الكفة إلى جانب (الزوجة/الغريزة)، حين يقتل زوجُها الزائرَ، مدفوعًا بالغضب، بطلقتين من بندقيته العتيقة، ثم يعود إليها، لنكتشف أن ما حدث هو ما يحدث دائمًا، وهو ما سيحدث بعد ذلك، للأبد!
الزوج: (وهو ينظر إلى البندقية) لم أكن متأكدًا من أنها ستعمل!
الزوجة: لكنها تعمل.
الزوج: وما أدراني؟!
الزوجة: يجب عليك أن تكون متأكدًا… فلقد سبق وجرَّبتَها.
ففي نهاية المسرحية، يتكرَّر ما حدث في بدايتها حرفيًّا، ويدوِّي صوت دقات الساعة، مترادفًا مع طرقات الباب، ويأتي زائرٌ جديدٌ، في إشارةٍ خفيةٍ إلى أن الساعة، إنما تعني (الساعة) بالمفهوم الإسلامي، التي يعقبها الحساب! وفي حالة المسرحية، كان (العذاب الأبدي) هو مصير من تنتصر غريزتُه على عقلِه. فكأن الجحيمَ هِيَ العذابُ الأبديُّ المدفوع بالصراع ما بين الغريزة والعقل، المحسوم أبدًا لصالح الغريزة! وهذا الصراع دائم التجدُّد بين الغريزة (الجنس/الغضب/القتل/السيطرة/الإخضاع/البقاء) والعقل (الحضارة/الثقافة/الترقِّي/العلم/العقلانية). والعقل لا يقدر على قتل الغريزة، لأن العَلاقةَ الثنائيةَ بينهما هي جوهر الحياة القائمة في أساسها على الصراع، إضافةً إلى احتياج العقل إلى الغريزة لكي يستمر. ولا ينتصر العقل في جولةٍ أو أكثر (من هذه الجولات الأبدية) على الغريزة إلا بأساليبها.
والمفارقة هنا، التي سنخلص إليها في نهاية مسرحية (الزائر)، هي أن اللحظة التي سيعمد فيها العقل إلى أساليب الغريزة لينتصرَ عليها، هي نفسها اللحظة التي ستنتصرُ فيها الغريزةُ عليه، بأن تدمغَه بطابَعِها! فكأنَّ الانتصارَ هزيمةٌ، والصراعَ تَجَلٍّ لعبثيةِ الحياة!