سحر الحشيش والأفيون، كتاب “الفراديس المصطنعة” لـ شارل بودلير

هذه المتاحف المليئة بالأشياءِ الجميلةِ والألوان المُسكِرة، هذه المكتبات أين تتكدَّس الأعمال العلميَّة.. هذه النّساء الساحرات.. هذه الأشياء كُلّها خُلِقت من أجلي، أجلي، أجلي.

تفوح من الحشيش رائحة سيئة تُموَّه عن طريق مزجها مع عدَّة نباتات عطريَّةٍ وأزهارٍ، وهي رائحة تفصح عن مدى التأثير المدمِّر الذي يحدثه على صاحبها، وهو ما سنراه مع بودلير الذي قام بتأليف كتابٍ كامل عن الحشيش والأفيون تحت عنوان «الفراديس المصطنعة».

ويفتتح بودلير الكتاب بذكر المعطيات الماديَّة والجذور الجغرافيَّة أوَّلًا عن هاتين المادتين، ولقد حظي الشرق بحصة كبيرة عند الحديث عن الشعوب التي تتفنَّن في إعدادها. يقول في ذلك: “في الواقع لقد جاءنا الحشيش من الشرق وقد كانت الخصائص المميَّزة للقنّب معروفة جيدًا في مصر القديمة، وكان استعماله منتشرًا كثيرًا، وتحت تسميات مختلفة خاصة في الهند والجزائر واليمن السعيد”.
هل نعود بذاكرتنا إلى المستشرق الألماني “هاينريش فون مالتسان” الذي كتب كتابًا حول أدب الرحلة والقصص في رحلته إلى شمال إفريقيا بعنوان “مدخّنو الحشيش في الجزائر”؟.

وإذا كان الحشيش يُستهلَك في الشرق بشكلٍ كثيف فإنَّ الأفيون هو ضالة الغرب كما أنَّ هناك علاقة حميمة بينه وبين البريطانيِّين. نظرةٌ واحدةٌ على تاريخ “حرب الأفيون” ستجعلنا نتأكَّد من الأمر ولا يعني هذا في كلتا الحالتين أنَّ الشرق والغرب لم يستهلكا الاثنين ويعرفانهما في تاريخهما، فها هي الصين تغرق في الأفيون بسبب تلك الحرب سابقة الذكر، وقبلها وبعدها أقطارٌ أخرى مثل أفغانستان.
يهدف شارل بودلير -وهو أهم مبتغى له-؛ إلى التأكيد على إمكانيَّة وجود تجربة شعريَّة متعلِّقة بالمكان والزمن والحسّ الجماليّ، وكيف يتمثَّل العالم في عين الشخص الذي قرَّر خوض هذه الممارسة.

أضِف إلى ذلك أنّٕه يمدح مجرِّبيها وما يعانونه بعد رحلتهم الفانتازيَّة تلك، فيفضِّلهم -أحيانًا- على الرجال والنساء المبتعدين عنها، ويصف الفئة الأولى بالأبطال، غير أنَّه يقول في عدَّة مواضع للقرّاء إنَّ مثل هذه المواد الخطرة لا تقدِّم أيَّ شيء خارق للعادة أو تجعلنا نتجاوز ذاتنا. فالأفيون والحشيش “لا يكشف للفرد إلا الفرد نفسه”.

إعلان

وللحشيش والأفيون نتائجٌ غير جيّدة على الجسد والنفس، ولا نظن أنَّ بودلير وهو يتحدَّث عن تلك المساوئ قد شعر بالخوف على جمهور كتابه، أو توجّس من إمكانية جرِّه إلى المتاعب -توريطه مع القضاء أو تسليط الرقابة والمقص على كتابه- مثلما تمَّ مع “أزهار الشرّ”، وإنَّما ليمنح المصداقيَّة لمنجزَه الاستثنائيّ لا أقّل ولا أكثر. ويكرِّر أكثر من مرَّة بأنَّ تجربتها ليست بالشيئ المدهش في البداية، فالتأثيرات المتتابعة التي يحدثها ينبغي على الشخص أنْ يكون صبورًا حتى تتحقَّق. وكأنَّما يؤكَّد بتنبيهنا أنَّ كلَّ شيء يخيَّب أملنا، حتى الأعشاب التي يهرب إليها الكثيرون محاولين نسيان الواقع.

آثار ومقدِّمات

يحاول شارل بودلير التفريق بين الآثار التي يخلقها الحشيش والأفيون، وبين الأحلام والهذيان، فالأحلام تمثِّل الصور الموجودة في ذاكرتنا الحياتيَّة التي تسقط داخل عقلنا أثناء النوم وتلك القسم الأوَّل. أما الثاني فهي المنامات الغامضة والغريبة التي ليس لها تفسير، فيصفها بالقاموس الذي ينبغي دراسته. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ بودلير قد تفطَّن لتأثيرات الحلم على الإنسان وإمكانيات شرحه وربطه بباطن العقل والحياة الإنسانيَّة، مع طفولة المرء التي تُشكِّل عقله الراشد بعد سنوات، ولا تنفكُّ تعود إليه وقت الانتشاء بمثل تلك الأعشاب في هيئة ذكرى ورؤى وإحساسات.

أما الهذيان -الاعتياديّ أو المرَضيّ- فهو يأتي على غفلة من صاحبه وهو فضلًا عن هذا لا يتعلَّق بالمكان وانفعال الفرد به، بل هو مُختلَقٌ وجديدٌ كُليًا ولا إرادي. أما في الحشيش فإنَّ المكان الذي يتواجد الشخص فيه يشارك في الهلاوس والصوَّر والشعور أضف إلى ذلك أنَّه شبه إراديّ، ويعتمد على شخصية المنتشي وذكرياته وماضيه، حيث يكتب بودلير عن هذا الهذيان في تعليقه على أحد القصص “الهذيان كان ذا طابع لقيط، وتستند مشروعيّة وجوده من المشهد الخارجيّ”.

نستطيع قراءة تأكيد بودلير على أنَّ آثار النشوة تختلف من شخص لآخر حسب مقامه، فيثمِّن ويثني على مستنشق تلك المواد إذا كان أديبًا أو فيلسوفًا أو فنَّانًا، فهو يرى تجربتهم أرقى من البقية. ويتساءل “هل أخطأت عندما قلت أنَّ الحشيش يبدو، بالنسبة إلى عقل فلسفيٍّ بحق أداةً شيطانيَّة؟”
ويؤتمن إلى جانب ما سبق بأنَّ الإنسان الذي يدخل في هذه الحياة الأفيونيَّة والمخدِّرة يماثل نفسه مع الإله ويجعل من نفسه مركزًا للكون، فهو الشخص الوحيد المتميِّز الذي ليس بإمكان الآخرين الشعور والتفكير مثله ولا حتى فهمه.

ويعدّ الضحك والسخرية، من أوَّل علامات النشوة التي ترافق المنتشي كما تجتاحه رؤى مضحكة بخصوص أمورٍ صغيرة متواضعة، مثل منظر معيَّن أو كلمات محدَّدة فيضحكه كل شيءّ لكنَّه يغدو مثل “مجنون”.
بل سوف يسخر من بعض العقلانيِّين الذين لم يختبروا هذا المكوِّن الفتَّاك، فيشعر بالتفوّق عليهم، وهذا ما حاول بودلير إثباته حين سرد لنا قصة على لسان أحدهم وهي مترافقة مع قصص أخرى نجدها، يقول في أحدها أنَّه نقلها حرفيًا، أما نحن فنخمِّن أنَّ ما هي إلَّا قصص كتبها هو؛ لتأكيد وجهات نظره مع أسلوبه الشعريّ الإبداعيّ.

لا يغيب عن ادراكنا ونحن نقرأ للمؤلِّف، تذكَّر إحدى نظريات الضحك التي تحيله إلى التفوَّق أرساها توماس هوبز الذي قال: “إنَّ عاطفة الضحك ما هي إلَّا اعتزازٌ مفاجئ ينشأ عن تصوّر مفاجئ لبعض الأهميَّة في أنفسنا مقارنة بضعف الآخرين”.
إنَّ الحشيش والأفيون يختلفان عن العديد من الأشياء من مثل الأحلام والهذيانات الطبيعيَّة أو حالة السكر بالكحول، فهما وزريرين رمزيين -إن جاز تسميتهما هكذا- لا يشبهان أيّ شيء آخر ويخدمان ملكًا بطريقة فريدة ومختلفة، يمسكان خلالها عقله وجسده وأحيانًا يحاربان وعيه أو جزء منه.

عالمٌ جديد

يصبح كلّ العالم وقت معرفة الحشيش والأفيون أكبر مما كان عليه، من خلال شخوصه ومظاهره المرئيَّة، وحتى الإحساس بالوقت يختَّل فيعتقد الواحد حينًا أنه قد عاش مليون سنة لحظتها أو ثانية واحدة كانت طويلة جدًا، وربما هو موجود في عصور غابرة، تذكر إحدى شخصيات قصته التي كتبها لنا: “أُمحَت فكرة الزمن أو بالأحرى فكرة قياس الزمن، ولم تكن الليلة بأكملها قابلة لأنَّ تقاس بالنسبة إليّ إلَّا بكثافة الأفكار التي راودتني”.
وعلاوة على ذلك يلعب المكان بتفاصيله دورًا في ذلك فيصبح أبسط تفصيل في الغرفة فاتنًا تنفق وقتك في تأمُّله والشعور به حيًّا، وكلَّما كان الموقع جميلاً مثل غرفة قديمة بزخارف وأثاث فنّي كلَّما كانت النشوة مضاعفة.

إنَّ “الحشيش يؤدِّي لا إلى تضخُّم الذات فقط بل إلى تضخُّم الأشياء وتضخُّم المكان من حولك”. فيسرد لنا بودلير قصة رجل كان يستمتع بوقته في أحد المسارح أثناء انتشائه، لقد بدت المسرحية له متغيِّرة جدًا، بدايةً من الممثِّلين وحركاتهم وتصاميم لباسهم، ونهاية بكلماتهم التي كانت تصل إلى أذنه في بعض الأحيان أو لا تصل أحيانًا أخرى، فصارت على وقع غريب وكأنَّها سقطت في سحر الحشيش. يقول في ذلك بطل قصته “لقد اكتشفتُ معنىً جديدًا للمسرحية صنعه انتشائي.. وإذا سُمعت المسرحيات كلّها بهذه الطريقة ستكتسب كثيرًا من الجمال حتى وإن كانت مسرحيات راسين نفسه”.

وبالاضافة إلى  ما ذُكِر، فإنَّ اللغة تصير موضوعًا جديدًا وكلّ كلمة لا تتوقَّف عندها في الحياة اليوميَّة، سيجعلنا الحشيش والأفيون نقيم بمحطتها طويلاً ونراها بمنظر عجيب وطريف فتُضحِكنا. أما الموسيقى فهي افتتانٌ آخر، فنعثر مثلاً على موسيقار في قصة أخرى ألَّفها يعزف لأصدقائه المنتشين فيتساقطون واحداً تلو الآخر. وما يريد بودلير تبيانه هو أنَّ المتلقيّ يغدو متلقيًّا جديدًا لكلّ معطيات بيئته وأحداثها في هذه التجربة.

ويجيبُ بودلير بعض الأشخاص الذين يسألون عن شكل الحب خلال النشوة، بأنَّه يأخذ منحى جديد، فإذا ظهَر الحب في عيوننا كشمس؛ فإنَّ الأفيون والحشيش شمسٌ أخرى وبهذا سيكون الأمر وكأنَّما “شمس داخل شمس”، فأيٌ مداعبة ومصافحة وحركة حب تتضاعف أكثر وأكثر، فيكتسي كل شيء تافه أو حميميّ ثياب العظمة والأهميَّة التي تُبجَّل.

إنَّ الحشيش والأفيون مثلما يراهما شارل بودلير يجعلانك أنت الشجرة التي تراقبها وأنت التبغ الذي يخرج متبخّرًا من الغليون الذي تمسكه بيدك. وباختصار فسوف تتماهى وتتفاعل مع جميع المظاهر والأفعال وتراها بعينٍ أكثر بصيرة وروحانيَّة.

غير أنَّ العديد من الذكريات ستجتاحك فيظهر ربّما إلى الوجود أشخاصٌ قدماء وصوّر قديمة تعود إليك الآن، وربما سيتحوّل كل قلقك وآلامك في الحياة الطبيعيَّة إلى عملاق ضخم لا يرحمك.

الشرّ في الأفيون والحشيش

رغم جماليَّة استقبال النشوة، يدينهما شارل بودلير بوصفهما استعمالاً غير أخلاقيّ، ويعتقد بحكمه النهائيّ لسبب عدّة عوامل أوَّلها فقدان الإرادة. فيسرد قصة الروائيّ الفرنسيّ بلزاك الذي كان يومًا مشتركًا في حوار يتضمَّن آثار الحشيش وكيف رفض تجربته بعد أن قُدِّم إليه. ويبدو هنا وهو ينقل إلينا الحدث معجبًا بردّ فعل بلزاك.

أما العامل الثاني فهو السعادة السريعة، فقد شبَّه بودلير المنتشي باللاعب غير الشريف الذي يربح عن طريق الغش السهل جداً، هذا اللاعب الذي لا يختلف عن مستخدم الحشيش والأفيون وهو يشعر بالسعادة القصوى وبأنَّه يملك العالم لمجرَّد أخذه قطعة منهما. فالسعادة أو المتعة مثلما نقرأ عند الكثير من الفلاسفة والمؤمنين تقوم في العديد من الظروف على الكفاح والألم والجهاد الروحي أوّلاً.
كما أنَّه يقحم أيضًا عامل الزهو والإعجاب بالنفس الذي يتملَّك هذا الأخير، كما ذكر لنا أنَّ المجتمع يرى مثل هؤلاء الأشخاص عديمي الفائدة. ولكي يؤكَّد أكثر يقول: “هل نتخيَّل دولة يكون مواطنوها كلُّهم سكارى بالحشيش يا لهم من مواطنين ويا لهم من محاربين؟”

يظهر شارل بودلير في الاقتباس السابق مذعورًا بسبب هذه الوضع الاجتماعي المتردِّي، ولا تجعلنا جرأته في الكتابة وحداثته الأدبيَّة أو اقتران اسمه في أحد الفترات بالاتجاه البرناسي نندهش من أخذه بعين الاعتبار موضوعًا أخلاقيًا ومجتمعيًا إلى جانب أحكامه التي دخلت داخل نصه. فكلّ ما رغب فيه ربما هو مصارحة القرّاء سواء رضوا بما كتبه أم لا، ومن الجدير بالأهمية أنَّه لم يجعل من نفسه في هذا الكتاب بطلًا يحاول إنقاذ المجتمع أو محاولة شيطنة خبراء الحشيش والأفيون، فقد أبرز متعة هذين الأخيرين مع آثارهما السلبية في وقتٍ واحد، وشعر بتسامحٍ وتفهُّمٍ مع مدمنيها.
وإذا كان البعض يقول إنَّ الحشيش يساعد في العبقرية، فإنَّه يقضي على الإرادة كما يخلق “التعوَّد” حتى يصل بالمرء يومًا إلى عدم قدرته على التفكير من دونه.
ونجد في الفراديس المصطنعة تشبيهًا قوَّياً يجعل من الحشيش والأفيون مرادفًا للسحر الذي يشتريه البسطاء لأجل تحقيق بعض آمانيهم بطريقة سريعة. ويضيء  للقارئ سلبيات أخيرة هي ضعف القدرة الجسديَّة في النهاية أو الإدمان الذي يأتي بآلام شديدة.

يضيف شارل بودلير نصوصًا أخرى إلى كتابه ترجمها إلى الفرنسية وهو مزهو ومعجب بمؤلِّفها بشكل لا يختلف عن مدمني تلك السموم كما سمّاها. وإنَّ النصوص التي وضعها هي كتابات تصبُّ في نفس موضوعه من تأليف الكاتب الإنجليزي “توماس دي كوينسي” الذي سرد لنا في مؤلَّفه الأدبيّ “اعترافات آكل الأفيون” حياة فيلسوف عانى التشرَّد والتيه وموت أحبائه قبلاً، ليسير بعد تحسَّن أحواله في طريق الأفيون وعالمه من دون انتهاء مغامراته التي تقفز فحسب من مرحلة إلى أخرى.
ولا يتركنا بودلير من تعليقاته على السرد والوصف وشروحه وتأكيد إثباتاته أيضًا، كما لم يترك كتابه بالمجمل باردًا وخالٍ من أيّ لمسة شعريَّة.

وهكذا ينقلك الحشيش والأفيون إلى ملكوت تشارك ظروفك الزمانية والمكانية في خلقه بكلّ جمالها وبشاعتها لتغرق بذلك في دوَّامته، فلهذين المادتين المهلكتين سطوةٌ هدَّامةٌ على إنسان يرى نفسه سيدًا، غير أنَّه عاجزٌ عن تحقَّيق هذا الوهم إلاَّ عبر مصاحبتهما في لحظات مقدَّسة تستمر لساعات وربَّما سنوات.

إنَّك هذه الساعة ستحظى بصفة سيد، وعلى يمينك وشمالك اثنين من الملائكة أو الشياطين اللذان يشتغلان في عوالم عجائبيَّة ولا يعبئان بأوامرك، فهما يفرغان قلبك باتجاه الخارج فتخرج حواسك عن السيطرة، إنَّك سيدٌ وحيد غير أنَّك أيضًا الوحيد الذي يدرك ما يحدث والوحيد الذي يعيش في الفراديس المصطنعة!.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا