سقراط: الفيلسوف الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض.
هنالك إجماعٌ شبه تام، بين الباحثين والمفكرين والفلاسفة ومؤرخي الأفكار، ومدرسي الفلسفة على حد سواء، على اعتبار لحظة سقراط، لحظةً فارقةً ومهمةً في تاريخ الفلسفة.
فهذا الرجل قد لعبَ دورًا حاسمًا في مسيرة الفلسفة، إذ حولها جذريًا من الاهتمام بالكون إلى الاهتمام بالإنسان، فعلى حد تعبير (شيشرون) فإن سقراط، هذا الفيلسوف ذائع الصيت، قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ومن أجل فهم كيف تحوّلت الفلسفة كما يُشاع، على يد أول شهيد لها، من الاهتمام بالكون إلى الاهتمام بمشاكل الإنسان، يجب أن نعود إلى الوراء ما يقارب قرنًا ونصف من الزمن على لحظة سقراط. أي إلى فلاسفة ما قبل سقراط، مع الاعتذار مسبقًا إنْ كان هناك أي تبسيطٍ مُخلّ.
فلاسفة ما قبل سقراط: طاليس وهرقليطس نموذجًا
إن الدارس للفلسفة ما قبل اللحظة السقراطية، ابتداءً من القرن السادس قبل الميلاد وحتى منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، سيلاحظ بشكلٍ جلي أن الإشكالية الأولى التي شغلت هؤلاء الفلاسفة أو الحكماء السبع كما يسميهم البعض، كانت تدور حول الكون، فقد طرحوا جميعًا سؤال: مم يتألف الكون؟ من أي شيء صُنع العالم؟
وأجابوا عنه أجوبة مختلفة، باعتماد التفكير العقلي دون اعتمادهم على التفكير الأسطوري الذي كان سائدا آنذاك. فهذا (طاليس)، الموسوعي -الذي تبحر في علوم عديدة- ضرب في كل علم بسهم، كان مُهندسًا، فلكيًا، رياضيًا، حكيمًا وفيلسوفًا، اشتهر بالعديد من الأشياء، منها تنبؤه بكسوف الشمس. ويروى عنه أيضًا أنه أول مبتكرٍ لمعرفة ارتفاع الجسم القائم من قياس ظله. يُدرجه أفلاطون تحت قائمة الحكماء السبع في محاورة بروتاغوراس واختاره أرسطو في كتابه الميتافيزيقا ليكون أول الفلاسفة، يعتقد أن الأصل الذي منه نشأ الكون هو الماء؛ لأن الماء في نظره هو العنصر الثابت في كل تغير وتحول، فقد لاحظ شأنه شأن فلاسفة سيأتون من بعده أن العالم في تحول مستمر، لذا تساءل عن الجوهر الذي يظل ثابتًا في خضم كل هذا التحول الذي يجري أمامه وكان جوابه هو الماء. جميع الأشياء تتغير دائمًا من حالة إلى أخرى إلى أن يؤول أمرها إلى رجوعها ماءً.
وهذا (هرقليطس)، أبرز فلاسفة المدرسة الأيونية، سليل أسرة أرستقراطية، نحيل ويهوى صيد السمك، كان مُعتدًا بنفسه كثيرًا، يحتقر الناس أيّما احتقار، ينظر إليهم من فوق برجه العاجي. مُلغزٌ وغامضٌ مثل شذراته القليلة المستعصية على الفهم التي بقيت من متنه. أجمع القدماء على وصفه بالغموض، والفريد من نوعه. حين سُئل سقراط عن رأيه في كتاب هرقليطس في الطبيعة أجاب: “عظيمٌ ما قد فهمته ولكني أعتقد أن ما لم أفهمه كان عظيمًا أيضًا” أما المتأخرين فهناك من اعتبره “أول فيلسوف” بل وذهب الفيلسوف الألماني نيتشه إلى القول بأنه لم يجد في كل تاريخ الفلسفة اليونانية من يساوي هرقليطس في القيمة.
وعن جوابه عن سؤال أصل الكون، تقول جان هرش في كتابها الدهشة الفلسفية ( تاريخ الفلسفة ): “لقد استعاد هرقليطس سؤال مدرسة ملطية: ما الذي يثبت في التغيّر؟ فكان جوابه: إنه التغير نفسه. إن التغير هو قوامُ وجود الأشياء” ص 15.
من أشهر أقواله: “المرء لا يسبح في نفس النهر مرتين” وذلك لأن النهر يتبدل في كل لحظة. فحين نعود إلى النهر تكون المياه التي سبحنا فيها قد مضت، إننا نعود إلى نهر آخر بمياه أخرى.
علاوةً على هذه التصورات، هناك تصورات لفلاسفة آخرين لا داعي لذكرها إذا بان المعنى، لأن ما يهم ذكره أن الاختلاف بين هؤلاء الفلاسفة -الموضوع واحد والتفسيرات جاءت مختلفة- أفرز شكًّا وتساؤلات، وبالتالي بدأ بعد مرور 150 سنة من بداية الفلسفة على يد طاليس الشك في أطروحات هؤلاء الفلاسفة، والتساؤل حولها بالقول على سبيل المثال: بالكاد أحدهم محقٌ والآخرون لا؟ وإن كان الأمر كذلك، فما الخطأ في الأجوبة الأخرى؟ ألا يمكن إرجاع هذا الاختلاف إلى عاملٍ ذاتي وهو الإنسان؟.
عندها تحول الانتباه من الطبيعة إلى الفكر الإنساني ذاته، وفي هذا السياق ظهر السفسطائيون الذين كانوا يعلمون الناس الجدل والخطابة مقابل أجر ويبثون من خلال نماذجهم الخطابية آراءهم بنسبيّة المعرفة والأخلاق معتبرين أن الإنسان مقياس كل شيء وأن ما يراه الإنسان خيرًا فهو خير بالنسبة له، وما يراه شرًا فهو شر بالنسبة له، وإن القبول بوجود عدالة إلهية يتناقض والخبرة التي توحي بعدم وجود عدالة في العالم وهي الآراء التي حاربها سقراط محاولًا قدر المستطاع دحضها.
سقراط:
فيلسوف يوناني، بلغت شهرته الآفاق باعتباره قديس الفلسفة وشهيدها. ولد في أثينا، لأبٍ يعمل في صناعة النحت، وأم تمتهن التوليد، وقد كان يكرر مرارًا على تلامذته أنه يحترف صناعة أمه، فإذا كانت أمه تقوم بتوليد الأطفال فهو يقوم بتوليد الأفكار من رؤوس الرجال. لهذا سُمي منهجه بالمنهج التّوليدي. ذلك أنه أراد أن يكون مساعدًا فقط في تكوين الرأي والمعرفة الذاتية التي على كلًّ أن يجدها في نفسه.
فيلسوف يمكن القول أنه مارس أقوى تأثيرٍ فلسفي على مر العصور وذلك –وهنا المفارقة- دون أن يكتب شيئًا. فالرجل لم يترك لنا حرفًا واحدًا بخط يده. هنا يتساءل القارئ الكريم مستفسرًا:
إذن كيف يعرفه الناس؟ وكيف يعرفون فلسفته؟
نجيب بالقول أن التعرف الناس عليه تم من خلال معاصريه وبالأخص تلميذه أفلاطون إذ إن حوارات أفلاطون تعتبر المصدر الأساسي لما نعرفه عن سقراط، وعليه فلولا التلميذ (أفلاطون) لما عرفنا الأستاذ سقراط، أو بالأحرى كي لا أجانب الصواب أقول لما عرفنا سقراط كما نعرفه الآن.
لماذا؟
لأنّ معاصريه اختلفوا في وصف شخصية سقراط فيما بينهم. فالصورة التي رسمها أفلاطون مختلفةٌ عن الصورة التي رسمها “ارسيتوفانيس”، فهذا الأخير يصوّر سقراط كمعلمٍ غريب الأطوار، كريه الرائحة، لا يغتسل، لأنه لا يملك وقتا للاغتسال، عاجزٍ عن التفكير السديد، مشغولٍ بأسئلة عقيمة مثل: ما المدى الذي يمكن أن تصل إليه وثبة البرغوث مقارنة بطوله؟ وهل تُطلق الصراصير صريرها من رؤوسها أم مؤخراتها؟.
أما “اكسانوفون” الكاتب والمحلل العسكري فهو يصور شخصية سقراط كشخصية مملة، بسيطة الذكاء، تردد كلماتٍ معادة ومبتذلة.
في حين أن “أفلاطون” يصور سقراط كرجلٍ حكيم، ذكي، يقظ، يتمتع بروح الدعابة والفكاهة، لا يهدأ له بال، لا يهتم بما يهتم به معظم الناس، بارع في الحوار، يوقع محاوريه في التناقض. غالبًا ما يتظاهر بالتسليم بأقوال محاوريه ثم يباغتهم بأسئلته المزعجة حتى يحملهم في النهاية على الإقرار بالجهل. وقد سبب له ذلك العديد من العداوات أدت إلى الحكم عليه بالموت بتجرع السم سنة 399 قبل الميلاد بتهمة تسفيه الآلهة ودفع الناشئة إلى الانحراف، وقد حاول بعض تلامذته مساعدته على الهرب من السجن عندما كان ينتظر تنفيذ الحكم فيه، بيد أنه رفض ذلك مُفضلًا الموت على أن يُكم فمه ويتخلى عن البحث عن الحقيقة مُضحيًّا بنفسه من أجلها.
وبالتالي انطلاقًا من ذلك يبدو أن الأستاذ مدين للتلميذ بخلوده على الصورة المشرقة التي وصلتنا. هنا، سؤالٌ آخر يفرض نفسه وهو سؤال أرى أنه مشروع:
أيهم سقراط الحقيقي؟ هل هو سقراط ارسيتوفانيس، أم سقراط اكسانوفون أم سقراط أفلاطون؟
سؤال لن نجيب عنه لعدة اعتبارات:
أولا: لأنه ليس موضوعَ مقالنا هذا.
وثانيا: ليس بإمكاننا الإجابة عنه حتى لو أردنا ذلك.
لقد رأينا مما تقدم أن الإشكالية التي شغلت الفلاسفة الأوائل أو الحكماء الذين سبقوا سقراط كانت تدور حول إيجاد السبب الأول الذي نشأ منه الكون. لكن مع سقراط، تغير مجرى الفلسفة، فبعد أن كانت تتجه نحو الكون، صارت تتجه نحو الإنسان. فمع أول شهيد للفلسفة لم يعد السؤال:
مما صنع العالم؟
بل أضحى السؤال:
كيف ينبغي للمرء أن يحيا، لتكون حياته موافقة للخير؟.
فالرجل قد صرف نظره عن الاهتمامات الفلسفية التي ظهرت قبله، وركز على الأخلاق وسعي لمعرفة الذات، متخذًا من عبارة قرأها في معبدِ دلفي “اعرف نفسك بنفسك” شعارًا له.
فالحقيقة في ذات الإنسان وليست في العالم الخارجي، وما على الإنسان إلا أن يتأمل ذاته ليدركها. والعلم هو العلم بالنفس لأجل تقويمها. وكل سلوك سيء إنما ينبع من الجهل. فالمرء لا يمارس الشر إلا جهلًا.
تقول جان هرش في كتابها الدهشة الفلسفية (تاريخ الفلسفة) متحدثة عن سقراط : “لقد بلور الفكرة التالية: فحين يقوم الإنسان بفعل ما، فإن السبب الكامن وراء فعله هو السّعيُ إلى بلوغِ شيءٍ يعتبره خيرًا. حتى في أسوء الحالات: المجرم يسعى إلى الحصول على شيء يعتبره خيرًا بالنسبة له”. ص 32. ثم تضيف: “من هنا فإن المهمة الأساسية، بحسب سقراط، تكمن في تنمية حس الخير لدى الإنسان، وبالتالي، إذا ما رغبنا في أن نعرف الصواب وننمي حسنا المتطلب تجاه الصواب، ينبغي أن نبدأ بالاشتغال على أنفسنا” ص 33 – 34.
لهذا يعتبر سقراط لحظة فاصلةً في تاريخ الفلسفة اليونانية، كونه شكّل نوعًا من القطيعة مع التراث الفلسفي السابق عليه. فبدل توجيه نظره إلى السماء وجه نظره إلى الإنسان ومشاكله، كاشفُا تهافت أفكاره، دافعًا إياه إلى اكتشاف جهله، فاكتشاف الجهل بداية الحكمة، لذا كان سقراط أحكم الناس حسب عرافة دلفي، لأنه كان يعترف بجهله مرددًا بشكلٍ دائمٍ عبارته الشهيرة:
“كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئا”.
الهوامش : 1 ) جان هرش، الدهشة الفلسفية ( تاريخ الفلسفة ) ترجمة محمد ايت حنا، منشورات الجمل بيروت – بغداد. الطبعة الأولى 2019. الصفحة 15. 2) نفس المرجع، الصفحة 32. 3) نفس المرجع، الصفحة 33-34.