ثقافةُ هوس العمل: ما بعد الحداثة وسباق الفئران وتسليع الإنسان
مقالة كئيبة وسوداوية وديستوبية بعنوان “لماذا يدّعي الشباب حبّهم للعمل؟” نُشرت على موقع (NY Times”(1″ لتناقش هوس العمل المستمر والدعوة إلى “حبّ” العمل لا مجرّد تقبّله والتعايش معه كوسيلة لكسب المال من أجل توفير معيشة كريمة.
ومثلما تعرّضَ قرّاءُ روايةِ 1984 لمشاهد مراقبةِ الفرد داخل الدولة الديكتاتوريّة المُتَخَيَّلَةِ داخل الروايةِ وإحاطته بشعارات وكلمات القائد العظيم والأخ الكبير على الدوام، كانت تلك هي نفس الحالة، وإن كانت بشكل يثير البهجة من الخارج، في ثقافة العمل المستمرّ/ إدمان العمل/ الضجيج/ النشاط الشديد، ما يُعرف الآن في أوساط الشركات، وخصوصًا الشركات البادئة باسم “The hustle culture“.
اقرأ أيضًا: فلسفة الدكتاتورية، مراجعة في رواية 1984
“لا تتوقف حتى تنتهي”، “قم واطحن” أو “Rise and grind”، “افعل ما تحبّ”، “اتبع شغفك”، “اصنع مستقبلك”
بالإضافة إلى تلك الوعود الضمنيّة بالثراء وانضمامك لمصافّ النُّخبة، يمكنك أن تكون “إيلون ماسك” آخر أو “بل غيتس” أو “ستيف جوبز”، غير أنّ هذه الثقافة، والتي هي في طريقها لكي تُصبح عقيدة، خادعة للغاية، قاتلة للحياة الشخصية، تخلو من داخلها من أي روحٍ للدُعابة، فالحدودُ بينَ العملِ والحياةِ الشَّخصِيَّةِ ينبغي أن تُمحى تمامًا ليُصْبِحَ عملُكَ هو حياتُك، وحياتُك عملُك.
من أكثرِ الشركاتِ التي تُرَوِّجُ لهذِهِ الثَّقَافَةِ في أنحاءٍ كثيرةٍ من العالمِ هي شركة “WeWork“، والتي توفّر أماكنَ عملٍ للشركاتِ البادئةِ أو أربابِ العملِ الحرّ ما يُعْرَفُ بِاسْمِ الـ “co-working space“، مع الوقتِ يكتشف من يعمل ببيئات العمل التي توفّرها هذه الشركة محاصرته بشعاراتِ لا فحسب الحثّ على العمل بل بالاستمرارِ والانغماس فيه وتحويله إلى حياةٍ، إلى دعوتك لِألَّا تتوقفَ حتّى تنتهي، أن تتخطَّى الحدودَ دَوْمًا، لا تتوقّفُ سُبُلُ مُحاصَرَتِكَ بتلك الشعاراتِ على اللوْحَاتِ المُعَلّقَةِ على الحوائِطِ ،ولا على الأكوابِ التي تتناول فيها قهوتَكَ، ولا عَلَى لوْحَاتِ النيون المنتشرةِ بِكُلِّ مكانٍ، بل إنَّ الأمرَ يصلُ إلى حَدِّ كتابةِ تلك الشعاراتِ على الوِساداتِ الصَّغيرَةِ على تلك الأريكة التي ستستخدمها لا للراحة بل لمجرد تغيير مكان عَمَلِكَ كي لا يصيبك المللُ، وُصُولًا إلى الفاكِهَةِ والخضروات نفسها والتي تُنْقَشُ عليها تلك الشعاراتُ نَقْشًا، مُحاصرةٌ تامّةٌ تبرمجك لا شعوريًّا كي تندمجَ تمامًا في تلك الثقافَةِ.
لا ينبغي أن ينتهي تعاملك بهذه الثقافة خارج ساعات العمل بل إنّ الأمر يصلُ إلى حدّ العيش معها وبها، فذهابك مثلًا للتسوّق، للسينما، للمسرح، للملاهي ينبغي أن يكون وسيلة تحفيز كي تستعيد نشاطك مجددًا فتعود أكثر نشاطًا وإقبالًا على العمل.
T.G.I.M!
“شكراً لله، إنه يومُ الاثنين” أو ما يعرفُ اختصارًا بـ”T.G.I.M” هي حركة تستهدف الاحتفاء ببداية أسبوع العمل، شعارٌ قصير ينطلق من تحت مظلّته شعاراتٌ أكثر مثل “اترك أثرًا/ إرثًا”، أن تقضي وقتًا أطول وتنجز فوق طاقتك حتى تنتمي إلى مصاف أولئك الأشخاص الـ”مؤثرين”، مع الوقت ومع ظهور تلك الحركات مثل الـ “Hustle Culture” و”T.G.I.M” نجد أن العامل العادي مع الوقت، ومع إحاطته بتلك الشعارات التي أشرنا إليها آنفًا، يشعرُ بالذنب لمجرّد أنّه فحسب أنجز المطلوب منه ثمّ ذهب إلى بيته في مواعيد الدوام الرسميّة، أصبح الموظّف المثاليّ، والذي يُتوقّع منه ألّا يقل عن هذا المستوى لأي سببٍ من الأسباب، هو الموظّف العاديّ، بينما يهبط الموظّف الملتزم بإنجاز المهام في وقتها حسب وقت الدوام المتاح والمتّفق عليه عقدًا هو موظّف أقل من العاديّ، لا ينال من المكافآت إلّا أقلّها، إن كانت لهُ مكافآت، ولا تطاله الترقيات، ولا يُحتفى به إلا حين يُشعرُ بغيابه وتأثيره في مكان عمله، بعد فواتِ الأوان بالطبع أو حين تضطر الإدارة أن تتعامل معه حينما لا يكون هناك من هو غيره ممن يملك المعرفة المطلوبة.
هل التفاني الزائِد في العمل”هوس العمل” تميّز أم قضاء على الحياة الشخصيّة؟
إن وصف ساعات العمل الطويلة كـ”مثابرة” من العامل ووصفه بالـ”ولاء” والـ”إخلاص” والـ”تفاني” ثمّ تحويل هذه الظاهرة إلى ثقافة تحثُّ عليه كمعيار للتميّز لهو شرٌّ محض يقضي على هامش الحياة الشخصيّة، والذي يتضاءل بمرور الوقت والانغماس في العمل، وبشكلٍ أكثر وضوحًا يجعلُ سباق الفئران اليوميّ للحصولِ على قطعةِ الجبنِ شيئًا مطلوبًا، والأكثر اندماجًا به هو الأكثر تميّزًا وهو الأقرب إلى المثال النموذجيّ الذي يجب أن يحتزي به الكلّ.
كيف يحولك العمل إلى سلعة..
من تلك المفاهيم الأخرى الـ”Comfort Zone” أو “منطقة الارتياح/ الطمأنينة”، وهي منطقة، حسبما يُروَّجُ لها، سلبيّة تعني وقوف العامل عن التطوّرِ المستمر واللحاق الدؤوبِ عن مواكبة الأحدث دومًا في مجال العمل، والذي يكون في بعض الأحيان سريعًا إلى الحد الذي لا يستطيع كثيرون اللحاق بوتيرته، فما يصبح منطقة أمان اليوم غدًا سيكون منطقة خطر وانعدام استقرار، ما يعني أنّ العامل سيكون عُرضةً للاستغناء والاستبدال كمجرّد سلعة فقدت معنى وجودها، هذه الاستمرارية في السعي خلف قطار التطوّر السريع، لا تقضي فحسب تدريجيًا على توازن العمل-الحياة الشخصيّة، بل تقضي على شعورك أنتَ بالأمان الوظيفيّ، كونك توقّفت للحظة لالتقاط الأنفاس يعني أن شيئًا ما قد فاتك، وزادت مع ذلك احتماليّة أن يتم استبدالك بمن هو على معرفةٍ بالـ”حديث“.
واكِب العصر كي تكون الأفضل.. ولكن!!
لكنّ الأمر لا يتوقّفُ عند هذا الحدّ، فهذا الأمرُ جزءٌ من كلٍّ يدفعُكَ دفعًا إلى الاستمرارِ في الاستهلاك في المقابل، يضغطُ عليك دوْمًا كي تحصل على أفضل هاتف محمول، وأفضل سيّارة، وأفضل شاشة تلفاز، وأفضل ساعة يدّ ذكيّة، وأفضل أدوات منزليّة، وأفضل ملابس وأحذية، يدفعُك لكي تشترك أنت وأسرتك في أفضل الأندية الرياضيّة، وزيارة معابد الاستهلاك “المولات”، وممارسة صلاة هذا العصر البدنيّة للتخلص من الأوزار والحصول على جسدٍ خالص منها، ومحاولة الاقتراب الدائمة والمستمرّة والمهووسة من المثال الجسدي النموذجيّ “اللائق” لا فحسب “الصحّيّ”، كما فرّق بينهما “زيجمونت باومان” في كتاب “الحداثة السائلة“، حينما قال بأنّ “الصحّة” هي شيء يمكن قياسه أما “اللياقة” فهي مفهوم نسبيّ يدفعك دومًا للاستمرار في الذهاب إلى صالات التدريب للحفاظ عليه.
كل هذا يضغط عليك لكي تعمل أكثر فتحصل على أموالٍ أكثر لتستهلك أكثر لأنّ استهلاكك في هذا العصر يعني محاولتك الدائمة للحاق به وبتطوّراته وبكل ما هو “حديث”، فما تفخر بامتلاكهِ اليومَ يصبح في الغدِ القريبِ مثار حرجٍ، وما تحوزه اليوم بعد شقاء عملٍ مستمرٍّ ومثابرة وتضحية بحياتك الشخصية في وقتِ العملِ يصبحُ غدًا عبئًا تودُّ التخلُّصَ منْهُ أقربِ فرصةٍ، لذا لا عجبَ إذًا حين يُخبرنا “زيجمونت باومان” في كتابه “الحياة السائلة” أن هذا العصر هو عصر النفايات، وأنّه على الرغم من سيولة الحركة وسرعة التغيّر في كل مناحي هذه الحياة تبقى النفايات هي القطاع الأكثر صلابةً واستقرارًا، لأن النفايات التي يجب التخلّص منها تزداد زيادةً طرديّةً مع انفتاحٍ مستمرٍ ودائمٍ للرغبة الاستهلاكيّة.
أصبح الإنسان يعتاش بالقلق، والخوفِ من الفواتِ، لم تصبح المخاطرُ ملموسةً أو مجسّدة كما كانت بالماضي (حروبٌ، أمراض.. إلخ) بقدر ما صارتْ غير محدّدة المصدر وغير متجسّدة وغير محدّدة بمكان وجود، بل حدث تمييع للخوف والقلق الناتج عنه ليصبح وجوده شبه دائمٍ بلا شعورِ كلِّ أحدٍ تقريبًا، ما نتجَ عنهُ تلك الرغبة المسعورةِ في استلاب المتعةِ لأقصاها في اللحظة الحاضرة، استلابًا قد يصل إلى حدّ الهستيريّةِ بقدر حجمِ الخوفِ الكامنِ في اللاشعور.
إنّ أخطر ما في الأمر ليس فحسب تسليع الأشياء وجعلها قابلةً للاستهلاك، بل إنّ الأمر قد وصل للمستهلك/ الفرد نفسه، فصار هو مستهلكٌ للسلعة وسلعةً في الآنِ ذاته، كل ما ينقصه هو ملصقٌ يحدِّدُ تاريخ صلاحيّته ومن ثم انتهاء قابليّته للاستخدام ليصبح هو ذاته نفايةً يجب التخلّص منها.
كسر الحلقة هو الحل..
ربّما، كما يأمل باومان، كان الأملُ في الثقافة التي تحاول دومًا تمديد أطر المجتمع وفتح آفاق فكريّة جديدة، ثقافة تنبني على الإنسان لا السلعة، على إدراك المشكلة وكسر حلقاتها المحكمة لا التماهي معها وتهيئة العقول للتفكير بطريقتها الاستهلاكيّة البحتة، أقولُ “ربّما” لأنّ هذه الروح التسليعيّة مرنة غاية المرونة بما يجعلها تحتوي وتعيد قولبة تلك المحاولات المستمرّة لكسرها لتصبح تلك المحاولات فيما بعد سلَعًا تُباع وتُشتَرَى، أو كما يقول باومان:
إن السوق الاستهلاكيّة هي صورةٌ من حلم الملك ميداس، وهو يتحقّقُ في القرنِ الحادي والعشرين، فأيُّ شيءٍ تلمسهُ تلك السوقُ يتحوّلُ إلى سِلعٍ استهلاكيّةٍ، بما في ذلك الأشياء التي تحاولُ أن تهربُ من قبضَتِها، بل والطرق والوسائل التي تُستَخْدم في محاولاتها للهروب.(2)
نرشح لك: عن ظاهرة الوظائف التافهة
الهامش: المقالة بعنوان "Why Are Young People Pretending to Love Work?" على موقع "NY Times". "الحياة السّائلة" لـ"زيجمونت باومان".