العُصاب كصراع بين الأنا والهو
«إنَّ كلّ ما يَحصل في الهو يُعدّ لا شعوريًا ويبقى كذلك. أما السيرورات التيّ تحصل في الأنا في وسعها وحدها أن تصبح شعوريّة، إلا أنها لا تُصبح كذلك كلها، ولا دائمًا ولا بالضرورة. ثم إنّ من الممكن لأجزاءٍ كبيرة من الأنا أن تبقى لاشعوريّة على نحوٍ دائم.» – سيجموند فرويد
يُعرف فرويد الأنا ذلك النظام الذيّ يتوسط الهيئات النفسية المتمثلة بالهو والأنا الأعلى؛ بأنه ذلك القسم من الهو الذي تعدل نتيجة تأثير العالم الخارجي فيه تأثيرًا مباشرًا بوساطة جهاز الإدراك الحسي – الشعوري: أي أن الأنا هي عبارة عن امتداد لعملية تمایز السطح الشعوري. تنظيم يتميز، بشكلٍ خاص بميل نحو الوحدة والتوليف، وفضلًا عن ذلك فإن الأنا يقوم بنقل تأثير العالم الخارجي إلى الهو وما فيه من نزعاتٍ، وانعدام تناسق، وتفتت أبعاد، ويحاول أن يضع مبدأ الواقع محل مبدأ اللذة الذي يسيطر على الهو مرتع النزوات البدائية، ويمثل الأنا ما نسميه الحكمة وسلامة العقل، على خلاف الهو المُنفعل، وكل ذلك يتفق مع ما هو معروف لنا جميعًا من فروق شائعة. ومع ذلك، فلا يجب أن نعتبر ذلك صحيحًا إلا في الحالات المتوسطة أو المثالية! تتضح أهمية الوظيفة التي يقوم بها الأنا في توليه الإشراف عادة على منافذ الحركة، وهو في علاقته بالهو مثل رجل على ظهر جواد يحاول أن يتغلب على قوة الجواد العظيمة. ويتلخص الفرق بين الحالتين في أن راكب الجواد يحاول أن يفعل ذلك بقوته الشخصية، بينما يستعين الأنا في ذلك بقوى يستمدها من مصدر آخر. ومن الممكن أن نتتبع هذا المثال أكثر من ذلك فنقول إن راكب الجواد غالبًا ما يضطر، إذا كان حريص على ألا يفقد جواده، إلى أن يقوده إلى حيث يريد الجواد أن يذهب. وكذلك يقوم الأنا بنفس الطريقة بتنفيذ رغبات الهو دائمًا كأنها رغباته الخاصة. ما دامت الأنا، في علاقتها مع الهو، تستجيب لتلك الرغبات، فلا وجود لأي اضطراب عُصابي
“في الهو ليس هُنالك صراع. التناقضات والمُتضادات تجدُ عناصرها في تجاور لا يشوبه اضطراب. في حين تكون الأنا في حالة كهذهِ عرضة لصراعٍ يلزم حله، لتكون النتيجة حتمًا تخليّ الأنا عن تطلعٍ لصالح آخر”.
تملأ النزوات الهو. ونقول باقتضاب إن كل الطاقاتِ الموجودة في الهو تصدر عن هذهِ النزوات. كذلك القوى الداخلية للأنا، فليس لها منبعٌ آخر. إنها تنحدر من تلك التطلعات التي يَحتويها الهو. وما تبغيه هذه النزوات؟ إنها تبغي الإرضاء، بمعنی اجتلاب مناسبات تتمكّن فيها الحاجات الجسدية من الانطفاء. ويتم خلالها الإحساس بهبوط ضغط الرغبة من طرف عضو الإدراك الواعي، على أنه لِذة. ثم يرتفع هذا الضغط ليخلف كدرًا من جديد. من هذا التمایل ينتج تتابع أحساس اللذة والكدر، التي تنظم وترتب نشاط الجهاز النفسي بأكمله. إننا نُسميّ هذهِ السيرورة بتعبير «سيادة مبدأ اللذة».
إن بعض الوضعيات التي يصعب تحملها، تجد منشأً لها عندما لا تجد تطلعات الهو النزوية إمكانية للإشباع. والخبرة تبين أن هذه الإشباعات لا يمكن الحصول عليها إلا بمساعدة العالم الخارجي. آنذاك، تتدخل الأنا التي يمكن عدها جانب الهو المنفتح على العالم الخارجي. فإذا كان الهو يعطي كل القوة المحركة تتكلف الأنا بمقامِ الموجه لها، الذي لا سبيل من دونه للوصول إلى أي هدف. إن نزوات الهو تتطلع إلى إشباعات فورية وعنيفة. إلا أنها هكذا لا تتوصل إلى شيء أو قد تسبب ضررًا ملحوظًا.
يصبح إذا من صلاحية الأنا التصدي لهذه الإخفاقات والتصرف كوسيط بين متطلبات الهو والاعتراضات التي قد تواجهه من قبل عالم الواقع الخارجي. إن الأنا توجه نشاطها في اتجاهين أثنين: فمن ناحية، إنها تراقب بوساطة أعضاء الحس وبجهاز الوعي العالم الخارجي، کي تحدد المناسبة الأصلح لتحقيق إشباعٍ يخلو من أخطار. ومن جهة أخرى، إنها تتدخل في الهو، فتحد من شهواته وتدفع النزوات إلى تأجيل إشباعاتها. بل إنها، حين الضرورة، تجعلها تغير من الأهداف التي تصبو إليها أو حتى الابتعاد عنها مقابل تعويضات. فعندما تفرض الأنا هذا التعنيف على تطلعات الهو، فإنها تعوض بمبدأ اللذة الذي يكون المسيطر الوحيد في البداية، مبدأ الواقع الذي يتبع هو أيضًا الهدف عينه، لكن مع الأخذ بعين النظر الشروط المفروضة من طرف العالم الخارجي. وفيما بعد، تدرك الأنا، كي تحصل على الإشباع، أنّ هناك سبيلًا يختلف عن التوافق الذي تحدثنا عنه، مع العالم الخارجي. إذ، في هذه الحالة يمكن التأثير في العالم الخارجي من أجل تغييره وخلق ظروف مواتية تجعل الإشباع ممكنًا. فهذا النوع من النشاط يصبح الإنجاز الأعلى والافضل للأنا، والذي يتمثل في القدرة على اتخاذ القرار بخصوص متى يكون من الأفضل السيطرة على الشهوات والانصياع أمام الواقع، أو على العكس، متى يحسن الوقوف إلى جانب الشهوات والصمود ضد العالم الخارجي. وقدرة الأنا على اتخاذ القرار هي، في المجمل، فنّ العيش.
الأنا بوصفهِ هو الملاحظ:
هذا كله يتأدى بنا إلى الاستنتاج بأن الأنـا هو حقًا المضمار الذي ينبغي أن ينصب عليه اهتمامنا وأنه يؤلف، إذا جاز القول، الوسط الذي من خلاله نحاول أن نكون تصورًا عن الهو والأنا الأعلى.
حينما يقيم الأنا مع الهو علاقات حسن جوار، فإنه يضطلع إزاءه، بشكل يدعو إلى الاعجاب، بدور الملاحظ. فالحفزات الغريزية، التي لا ينقطع سيلها عن التدفق من الهو، تجاهد لتدلف إلى الأنا؛ وهناك تجد منفذًا لها إلى الجهاز الحركي، فيمكنها من البلوغ إلى الاشباع . وفي الحالات المؤاتية، لا يضيق الأنا ذرعًا بالدخيل، بل يأذن له بأن يتصرف بقواه وطاقاته على هواه، ويقنع بدور إدراكي؛ فهو يستشعر ضغط الحفزة الغريزية، وتصاعد التوتر المترافق بالاحساس المكدر، وأخيرًا نهاية التوتر وانفراجه لحظة الاشباع. وحينما نلاحظ هذه السيرورة بكاملها تتكون لدينا صورة واضحة ودقيقة عن الحفزة الغريزية المعنية، وكذلك عن شحنتها من الليبيدو، وعن هدفها. أما إذا انسجم الأنا مع الحافزة الغريزية فلن يكون أمامه من سبيل للاندراج في هذه الصورة.
ولهذا يبدوّ الصراع العصابي أولًا صراعًا بين الأنا والهو. بمعنى أن الأنا تقوم بعمليات غربلة للنزعات الغريزية التيّ تتزاحم للتعبير عن نفسها.
العُصاب كصراعٍ بين الأنا والهو:
إن الأنا في مرحلة الطفولة تكون ضعيفة وقليلة الانفصال والتمايز عن الهو. تلك الأنا قليلة القوة عندما تصطدم بتطلع نزويّ من الهو؛ إنها تريد أن تقاومه، لأن الإشباع الذي يطلبه من الممكن أن يكون خطرًا وقادرًا على إحداث وضعية صدمية وارتطام مع العالم الخارجي، من غير أن تكون لها القدرة الكافية للسيطرة على هذا التطلع النزوي.
إن الأنا تعامل الخطر الداخلي النابع من النزوة كأنه خطر خارجي. فتحاول الهرب وتبتعد عن تلك المنطقة من الهو، فتهملها، تاركة إياها تمشي في سبيلها بعد أن قطعت عنها كل تلك الأواصر التي عادة ما تضعها تحت تصرف اختلاجات النزوة. آنئذ، نقول إن الأنا تعمد إلى كبت ذلك التطلع النزوي.
ينتج عن ذلك مباشرة صد الخطر، لكن خلط الأنا بين ما هو داخلي وما هو خارجي لا يمر من دون عاقبة بحيث إنه من غير الممكن هروب الفرد من ذاته. فالأنا هنا، بلجوئها إلى الكبت، تخضع لمبدأ اللذة عوض أن تقوم بتعديله طبقًا لمهمتها المعتادة. بهذا تُصبح مضطرة إلى تحمل عواقب فعلتها. وتلك العواقب تتمثل في أن الأنا ستكون ملزمة بتقليص مجال مملكتها. فها هو ذا التطلع النزوي المكبوت قد تم عزله الآن، وترك في حال سبيله، لكنه بهذا أصبح خارج كل تأثير، واصبح من الآن فصاعدًا يتبع مسالكه الخاصة. أما الأنا، ولو تم تدعيمها وتقويتها، فلن تكون قادرة على رفع الكبت، وتنهار قدرتها على التوليف.
وهكذا يصبح جزء من الهو أرضًا ممنوعة عن الأنا. أما التطلع النزوي المنعزل، من جهته، فلن يكف هو أيضًا عن الانشغال، بل إنه يجد كيف يتوصل إلى تعويض الإشباع العادي الذي تم منعه عنه، فينجب فروع نفسية تقوم مقام هذا الإشباع. ثم إنه يتواصل مع سيرورات نفسية أخرى، يغتنمها من الأنا بقوة تأثيره. وأخيرًا يقتحم الأنا ويقحم نفسه في الشعور متنكرًا في شكل بديل ومشوه ولا يمكن التعرف عليه. وفي الإجمال، إن هذا التطلع النزوي يقدم على تكوين ما نطلق عليه أسم« العرض». يمكننا هكذا أن نلقي نظرة على ما يشكل اضطرابا «عصابيًا»: فمن جهة، تجد الأنا نفسها وقد تمت إعاقة قدرتها على التوليف وبقيت منعدمة التأثير في جانب من الهو، وأصبحت أيضًا مضطرة إلى التخلي عن جزء من نشاطها كي تتجنب اصطدامة جديدة مع ما هو مكبوت، وباتت منهكة في صراع یائس ضد الأعراض التي تفرعت عن التطلعات المكبوتة. ومن ناحية أخرى، هناك الهو الذي استقلت في داخله النزوات المعزولة وانصرفت إلى تتبع اهدافها الخاصة من دون مراعاة مصالح الفرد العامة، فأصبحت هذه النزوات لا تُطيع إلا قوانين السيكولوجيا البدائية التي تتحكم بأعماق الهو.
فإذا ما نظرنا من الأمور من فوق، فإن منشأ الأعصبة يبدوّ لنا تحت هذا التعبير البسيط: لقد حاولت الأنا خنق أنفاس بعض جوانب الهو بطريقة غير ملائمة، أخفقت وأخذ الهو في الانتقام. فالعصاب هو إذا نتيجة صراع بين الأنا والهو، صراع تشترك فيه الأنا لأن من غير الممكن إطلاقًا أن تتخلى عن تبعيتها لوقائع العالم الخارجي.
فالتعارض الأساسي هو بين العالم الخارجي والهو. وبما أن الأنا وفية لطبيعتها الحميمة، تقف إلى جانب العالم الخارجي.
ولكن علينا أن نركز على أن هذا الصراع هو ليس مُسببًا للمرض؛ فصراعات من هذا القبيل بين الواقع والهو لا مناص منها، وأحد واجبات الأنا هو أن تتدخل وتشارك فيها. إلا أن ما يسبب المرض هو التالي إن الأنا تستعمل الكبت وسيلة غير كافية لتسوية الصراع. إن المسبب الحقيقي هو أن الأنا عندما توكل إليها هذه المهمة يكون تطورها ضئيلًا وقوتها منعدمة لذا فإن الكبوت الحاسمة تحصل كلها بالفعل إبان فترة الطفولة الأولى.
المصادر:
حوارات في محاور؛ فرويد، لاكان، صفوان/ ترجمة عبد الهادي الفقير.
الأعصبة النفسية والذهانات العقلية/ عباس محمد عوض.
علم النفس الاكلينيكي والمرضي-ديناميات السلوك غير السوي/ محمد أحمد غالي.
الأنا والهو/ سيغموند فرويد.