الحداثة العربية: العَقَبَات والتَّأْسِيس
إن الحداثة مشروعٌ غربيٌّ محض، وُلِدَ مع ظهور ثلاثة معالِمٍ رئيسيَّة له، وهي الذَّاتيَّة (الفرديَّة)، الحريَّة، والعقلانيَّة(1)، وعلى اعتبار أن الكوجيتو الديكارتيّ دشَّن الذَّات في الخِطاب الفَلسَفيّ في العصور الحديثة، مُعلِنًا من خلاله الثِّقة بالإنسان، وبقدراته على تحسين حياته، وتنظيمها، وكانت الرشادة أو الاحتكام إلى العقل إرهاصًا أوَّليًّا للعصور الحديثة في العالَم الغربيّ، لكن هل هذا يعني أن المشروع الحداثيّ وَقَفَ عند حدود العالَم الغربيّ والفَلْسَفة الحديثة؟
هنا تبدأ التعقيدات وتتشعَّب إشكاليَّات عِدَّة، فالتيارت الحداثيَّة نفسها انقسمت إلى تياراتٍ وشُعَبٍ أصغر، مثل امتداد الذَّات في الخِطاب الفَلْسَفيّ الأوروبيّ، لتصبح لاحقًا تعني الذَّات الأوروبيَّة، وهنا بدأت تفرض وصايتها على الذَّوات الأخرى، ومن هذا المُنطلق تزامن الخِطاب الفَلْسَفيّ المُتمركِز حول الذَّات الأوروبيَّة مع صعود الحركات الاستعماريَّة التي أعلنت حقها في الوصاية على الذَّوات الأخرى، وذلك بحكم التقدُّم والتفوُّق المذهل الذي أنجزته أوروبا في العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة.
ومن هنا واجه المفكِّرون العرب عَقَبَة كبيرة، وهي أن الحداثة التي ينشدونها ذات صِبْغَة استعماريَّة، فرضت سيطرتها على الذَّوات الأخرى من غير أن تُبدي أي اهتمامٍ للقِيَم الإنسانيَّة التي نادت بها، فدعوا إلى ضرورة أن يمتلك متناولو الحداثة حِسًّا نقديًّا، أي أن يأخذوا حَيْطتهم حيال ما يقع بين سُطُور الفِكْر الحداثيّ.
أما التيارات الأخرى فنادت بالأخذ بالحداثة على اعتبار أنها قِيَم ومُثُل عُليا وقابلة للتطبيق في عالمنا العربيّ، لكن أليس هذا يعني الأخذ بمشروع يقع ضمن إطار معين وقالِب واحد وتشكيل الحداثة العربيَّة وَفقًا له؟ نعم بالتأكيد، وواجه هذا التيار مشكلات كبيرة، حتى أنه تهاوى في القرن العشرين ومطلع القرن الحالي.
أوَّل العَقَبَات التي واجهوها: هو الكم المهول من الانتقادات التي وُجِّهَت إلى الحداثة، خاصةً في القرن العشرين وصعود التيارات الما بعد حداثيَّة مُعلنين فلاسفتها موت السَّرْديَّات الكبرى كما قال دريدا، والوضع ما بعد الحداثيّ كما رأى ليوتار، والسَّبَب في ذلك هو الظروف التاريخيَّة التي مرَّت بها أوروبا من خوضها الحَرْبين العالميتين اللتين أنهكتاها وتكبَّلت بموت الملايين، فأين النُظُم الأخلاقيَّة والإنسانيَّة التي تبنتها من هذا الدمار والهلاك؟ وأدى ذلك إلى أن تتعالى أصوات المُفكِّرين في الدعوة إلى إعادة النظر في أُسُسها، ومن هنا يمكن ملاحظة الفجوة، فبينما حاول المُفكِّرون العرب الدخول في الحداثة تصادموا مع ما بعد الحداثة الأوروبيَّة، لكنني أرى أن هذا لا يعيبها كتجرِبةٍ خاضتها المجتمعات الأوروبيَّة، ففي النهاية احتمالية وجود أخطاء واردة، وهنا كان الحرص مضاعفًا على تمحيص مبادئ الحداثة العربيَّة، والتعلُّم من تَجَارِب الغير.
أما العَقَبَة الثانية: فهي الصعوبات المتعلِّقة بتبني أطروحات حداثيَّة تضمنت بُعْدًا تاريخيًّا خاصًا بالقارة الأوروبيَّة وحدها، مثلًا كتابة التطوُّر الماديّ في أوروبا، أو رأس المال، كما أن هنالك نظريات عُدَّت نتيجة لظرفٍ تاريخيٍّ معين، مثل الحَرْب الأهليَّة في إنجلترا والتي عاصرها الفيلسوف توماس هوبز، وتوصَّل من خلالها إلى أن الطبيعة البشريَّة أنانية والحال الطبيعية ليست إلا حَرْب الكل ضد الكل، إلا أن هوبز طوَّر أنموذجًا للحُكم، والفَلْسَفة السياسيَّة، ولا يعني أنه وقف عند نقطة نهائيَّة محضة.
ومن هنا يمكن ملاحظة توافق المشروع الحداثيّ مع الروح الأوروبيَّة، وتاريخ المنطقة، وكيف لنا أن نصنع حداثة عربيَّة؟ وما هي المبادئ المستقاة من الحداثة الأوروبيَّة؟
في الواقع لا أظن أن الأمور سَتُقاس بالخطأ المحض والصواب المحض، أي أنها تحتاج لحَذَرٍ كبيرٍ كي لا تُخلَط الأوراق ببعضها البعض، لذلك نحتاج إلى دراسة معالِم مشروع الحداثة في سياقه الغربيّ، وفي نفس الوقت يجب علينا أن ندرس تاريخنا العربيّ والإسلاميّ، وصَمَّمَتُ على مصطلح العربيّ الإسلاميّ لأنني أرى أن العربيَّة ليست لُغَةً فقط، بل أنماطًا فِكْريَّة وأنساقًا ثقافيَّة، وفي نفس الوقت جاء الإسلام ليُشكِّل لاحقًا مادة أساسيَّة لتشكيل بِنْيَة المعرفة العربيَّة، والنُظُم السياسيَّة والقِيَميَّة، إذًا لا يمكن إقصاء أيًّا منهما.
وأي دعوة لإحداث قطيعة مع التراث العربيّ الإسلاميّ للدخول في الحداثة لا أعتقد أنها جانبت الصواب، ليس فقط لخصوصية المنطقة العربيَّة والتعقيد الذي تَتَّسِم به أنساقها الفِكْريَّة، بل لأن من صَاغَ نُظُم الحداثة الغربيَّة لم يقل بالأخذ بها بالإطلاق، ولم يدَّعِ أيٌ من فلاسفة عصر التنوير والنهضة امتلاكهم للحقيقة، ولم يقل أحدهم إن ما قدَّمه من أُطْروحات هو الحق عينه، فأسئلة الفَلْسَفة تنمو، ولا يوجد في الحقل الفَلْسَفيّ ما هو قطعيّ، يقول كانط :”إنِّي أسمعُ من كلِّ مكانٍ صوتًا يُنادي لا تُفكِّر، رَجُلُ الدِّين يقولُ لا تُفكِّر، بل آمِن، ورَجُلُ الاقتصادِ يقولُ لا تُفكِّر، بل ادفعْ، ورَجُلُ السياسة يقولُ لا تُفكِّر، بل نفِّذ، ولكن فكِّر بنفسك، قِفْ على قدميك، إنِّي لا أُعلِّمكَ فَلْسَفة الفلاسفة، لكنّي أُعلِّمكَ كيفَ تتفلسفُ”(2).
من هنا يمكن ملاحظة التَّفْكِير الممنهج عند فلاسفة الحداثة، وهي ليست دعوة كانطية للأخذ بها ضمن إطار محدَّد، بل منهج يضمن الحُريَّة في التَّفْكِير والعقلانيَّة خُطوةً بخُطوة، وفي نفس الوقت ضَمِن الفرديَّة فيه، وَفقًا لهذه المبادئ الإنسانيَّة سيصل القارئ إلى أن الحداثة مشروعٌ إنسانيٌّ، ولا تقف حدوده عند القارة الأوروبيَّة، وهنا يمكن القول بإنسانيَّة الفِكْر الحداثيّ.
لكن هذا الأمر يستدعي متطلَّبات تخص تاريخنا العربيّ والإسلاميّ، ومن أهم متطلَّبات هذا المشروع:-
- دراسة التاريخ العربيّ والإسلاميّ (التراث)، بطُرقٍ متعدِّدةٍ وعدم الاعتماد على قراءةٍ واحدةٍ له، أي أن اتباع التَسَلْسُل التاريخيّ للعصور فقط غير مُجْدٍ، فنحن بحاجةٍ إلى دراسة التطوُّر الماديّ والاقتصاديّ، والأنْسَاق المعرفيَّة، فالتطوُّر الماديّ سيساعدنا على فهم الانعكاسات الحاصلة على بِنْيَة الثقافة العربيَّة، وقد يبدو هذا الطَرْح ماركسيًّا، وهو كذلك، لكني أرى أن التطوُّر الماديّ لا يقل أهمية عن التطوُّر المعرفيّ، ويمكن ملاحظة الجُهُود العربيَّة في هذا المجال، مثل النزعات الماديَّة في الفَلْسَفة العربيَّة الإسلاميَّة للمُفكِّر حسين مروة، والدعوات لكتابة رأس مال عربيّ.
أما تاريخ الأنْسَاق المعرفيَّة، فمن الضروري أن يشمل ملامح عامة لحركة التَمَدُّن في التاريخ العربيّ الإسلاميّ، وانعكاس البيئة الجغرافيَّة عليه، ومميزات المدينة العربيَّة، وهذا الطرح شمل ردًا على المشاريع الاستعماريَّة التي ادَّعت أن تاريخ العرب لا يزيد عن كونه تاريخًا لقبائلٍ بَدَويَّة لا تنتج أي منظومة فِكْريَّة، وكل ما أنتجته هو الشِّعْر، لذلك أصبحت في العالَم المُعاصِر تعيش على هامش التاريخ.
- يجب أن ترتكز هذه الدراسات إلى أُسُسٍ نَقْديَّة، أي أن الهدف منها ليس استعادة الذَّات الحضاريَّة عبر إيهامها بالإنجازات، بل إحداث عمليات نَقْد جَذْريَّة تشمل التراث بكل جوانبه، فنفهم ماضينا ونُصحِّح ما هو مغلوط.
وفي هذا الصَّدَد يقول المُفكِّر الفلسطينيّ وائل حلاق: “وبصفةٍ عامة، يُعَدّ التطبيق الإسلاميّ لمبادئ روح الحداثة ممارسة إبْدَاعيَّة داخليَّة تنطلق من داخل التُراث من دون الانفصال عن القِيَم السابقة (وهو أمر من المستحيل وقوعه) أو تقبُّلها كلها. إن بعض أجزاء التُراث يجب طرحها لانتفاء فائدتها، وما ظل منها صالحًا من حيث المبدأ يجب أن يَمُرّ بنَقْدٍ وتَمْحيصٍ، وأن يُعاد التَّفْكيِر فيه بطرائقٍ مُبْدِعة، وليس من المعقول أن يتِمّ تبَنّي مبدأ القطيعة لأنه لا يمكن الزعم بأن الماضي فارغٌ تمامًا من القِيَم الأخلاقيَّة الإيجابيَّة، ولو كان الأمر كذلك، فيَجدر بنا تَبَنّي هذه المبادئ وهو فعلٌ إبْدَاعيٌّ يَطلق عليه عبد الرحمن الإبْدَاع الموصول، وهكذا لا يعتمد مفهوم الإبْدَاع الإسلاميّ على قطيعةٍ كاملة أو استمراريَّة تامة”(3)
- الاحْتِكام إلى مناهج متعدِّدة، وليس بالضرورة استنساخ النموذج الأوروبيّ، كما أن الاستفادة منه ضرورة لا بُدّ منها، أما المناهج الحديثة، وحتى التي تجاوزت الحداثة لتصل إلى ما بعد الحداثة لا ضَيْر من الاستعانة بها ولو جزئيًّا، لكن من الضروري الالتفات إلى العَلاقة القائمة بين الدراسات الكولونياليَّة والمناهج هذه، وهنا أنا لا أقول إن أي نَقْد سيُوجَّه إلى تُراثنا بالضرورة مرتبط بالأغراض الاستعماريَّة، لأن النَقْد الذَّاتيّ واجبٌ أخلاقيّ، ولكن الحَذَر مطلوب، ولا يمكن تَخَطِّي هذه المسألة إلا من خلال الصرامة البحثيَّة التي لا تَحتَمِل التَّرْقيع إطلاقًا.
- أخيرًا ما تجدر الإشارة إليه هو أن الدخول في الحداثة مشروعٌ سياسيّ ذو روح فَلْسَفيَّة، لا يمكن طرحه دون وجود من يُتَرجِمه ضمن إطار سياسيّ، وهذا يعني أن المشاريع البحثيَّة يجب أن تتزامن مع جُهُودٍ إعلاميَّة وسياسيَّة، وإلا سيظل محصورًا في إطار أكاديميّ مما يؤدي إلى اغْتِرَابه عن واقع المجتمع، وظهور انقسامات تُعزِّز من حالة التَّرَدّي والتَّقَهْقَر.
المصادر
(1) محمد الشيخ، فلسفة الحداثة في فكر هيغل، الشبكة العربية للأبحاث، ص 261
(2) راجع بالتفصيل: دليل أكسفورد في الفلسفة، تحرير تد هندرتش، ترجمة نجيب الحصادي (هيئة البحرين للثقافة، ط1، المنامة، 2021) ص 1214-1220
(3)وائل حلّاق، إصلاح الحداثة، الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبد الرحمن، الشبكة العربية للأبحاث، ص 148