التناقض ما بين المعرفة والسعادة.. هل الشقاء قدر ذوي العقول؟
دائما ما يتم الربط بين المعرفة والشقاء من خلال علاقة طردية خطية فكلما ازدادت معرفة الإنسان ازداد شقاءه والعكس، وعبر عن ذلك المتنبي فقال:
ذو العَقلِ يَشقَى في النّعيمِ بعَقْلِهِ، وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَم.
طوال الوقت كنت أسمع تلك العبارة وخاصة في الأوساط “المثقفة” وطوال الوقت كانت تصيبني بالارتباك، فكنت من ناحية أسمعها من الآخرين ولا أشعر بالارتياح فأحيانا أشعر وكأنها إدانة من قائلها لكل من لم يَسمع له أو هروب من المسؤولية وكثيرا ما كنت أشعر أنها تبرير لفشل المثقفين في تطبيق نظرياتهم على الواقع، ومن ناحية أخرى كنت أصمت أو أؤكد عليها حين سماعها لأنني أعرف مدى صدق مشاعر قائلها من خلال تجربتي الشخصية، فلقد كنت كثيرًا ما أحمّل المعرفة مسؤولية الشقاء التي ألقاها في حياتي. ولكن، ذلك لم يقدني لإدانتها حيث إن مجرد وجود ذلك التناقض بالنسبة لي يدين الواقع وهو ما سعيت دائمًا لفعله وهو أيضًا ما أراه من مهام المعرفة الرئيسية، وبناء على ذلك توصلت إلى صحة مقولة التعارض ما بين المعرفة والسعادة وكان ذلك بالنسبة لي حينها بمثابة الاختبار الأخلاقي للمعرفة وهي أنها ليست مجانيةً وتتعارض مع كل “أوهام” السعادة.
عاش دون كيخوته حياته كبطلٍ يعيش وتتغذى بطولته فقط على الفطرة التي حملت نداء البطولة من باطنه إلى عقله الواعي لم يعش حياته كما كان مخططًا لها من البداية -على ما يبدو- ولكن أيضًا لم تتكون بداخله “المعرفة” الكافية لتدله على الطريق فصار محاربًا شجاعًا لا يبالي، ولكنه لم يكن يحارب في معركة حقيقية بل كانت أوهامه تحوّل له طواحين الهواء إلى أعداء يقاتلهم، أى أن الفطرة والنداء الداخلي بدون معرفة لن يوصلانا إلى أبعد من أن نتمرد على الواقع بدون أى تصور عما نريد فعله، فقط سنظل نشعر طوال الوقت بأن هناك شيئًا ما خاطئًا ولكن ما هو وكيف يمكن إصلاحه وحدها المعرفة ستحدده لنا بوضوح.
يعيش المثقف الذي أقرّ بهذا التناقض ما بين المعرفة والسعادة حياة الرقص على السلالم فبعد أن تكشّفت له أوهام السعادة في مجتمعه بشكل أو بآخر لم يعد يستطيع العودة إليها والتمتّع بها وكذلك لا يستطيع بناء عالمه الخاص الذي يمكنه أن يشعر فيه بالسعادة على طريقته الخاصة وبالتالي فإن بيت المتنبي يمثل له عزاءه الخاص الذي يمكّنه من التعامل مع العالم، فحينما يريد قضاء بعض الوقت الممتع يتخفف من عبء المعرفة لبعض الوقت ويعود مرة أخرى للالتحام بأوهام العالم الذى طالما كان يشجبه. وحينما يعود مرة أخرى إلى المجال المعرفي يكون بصدد عالم مختلف عن ذلك العالم الواقعي الذي يذهب إليه في البداية؛ لأخذ قسط من الراحة من ثقل المعرفة، ولأنه ليس من المحبب للإنسان العيش لفترات طويلة فى الشقاء يسحب ذلك المثقف مرة تلو الأخرى الواقع الذي -برغم سوداويته- مازال المساحةَ التي تتيح الاستمتاع، يسحبه إلى مساحة المعرفة التي “طالما ضيقت علينا معيشتنا”.
وهنا تنشأ ثقافة عالم الخيال والهروب من الواقع وهي ثقافة تبدأ بمناقشة الواقع ومحاكاته وحتى نقده، وتنتهي بإعادة إنتاجه من خلال تحوّلها التاريخي المتدرج من مهمة وعبء ثقيل إلى فاصل ترفيهي، ففي البداية تكون الثقافة والمعرفة مجرد أفكارٍ، هي معكوس الواقع السيئ، أفكارٍ تتسم بالصلابة والتجريد. ويتم المحاولة الدائمة لتطبيقها على الواقع بدون فهم الواقع بالقدر الكافى ومع محاولات إنزال تلك الأفكار على الواقع يصاب المثقف بالإحباط والتشاؤم من استحالة المهمة فيبدأ في الهروب من أفكاره بالانغماس في ملذّات الواقع بعد أن بدأ بالعكس وفي النهاية ينتهي إلى أن يكفر بكل شيئ ويطغى الواقع على المعرفة ويقتلها (في هذا السياق يمكننا رؤية الكتب والروايات المبتذلة المنتشرة مؤخراً كامتداد لكتب وروايات تتسم بالعمق الحقيقي مثل روايات نجيب محفوظ وما عاصرها من الأفكار) وهو ما يمكن رؤيته كتجسيد لمقولة إن التاريخ يعيد نفسه مرتين في الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة. تتسم تلك الرؤية للعلاقة بين الواقع والأفكار (المعرفة والسعادة) بالميكانيكية وهي حينما نمعن النظر تغض الطرف عن عامل مهم في الوجود البشري وهو المشاعر.
طوال فترة إيماني بالتناقض ما بين السعادة والمعرفة كنت أومن أنه عليّ اختيار المعرفة حتى لو أصابني ذلك بالشقاء لأن ذلك الاختيار هو الاختيار الأخلاقيّ العقلانيّ، ومع ذلك طالما كنت أحس برغبةٍ خفية في أن تكون مقولة التناقض تلك غيرَ صحيحة حتى لو لم تعد السعادة بالنسبة لي معيارًا مهمًا في المعادلة.
مؤخرًا اضطرتني إحدى المحاورات عن جدوى التفلسف في الحياة الشخصية للتفكير فى المزايا التى عادت عليّ من ذلك التفلسف وكان من ضمنها الصمودُ أمام الكثير من المشاكل الحياتية اليومية والوجودية على حد سواء مرورًا بدور المعرفة الكبير في كوني الشخص الذي أنا عليه حاليًا ووصولًا إلى البقاء حيًّا على قيد الحياة، ومع ذلك لم أذكر أيَّ شيء عن السعادة لأنني فعلًا لم أتذكر أي شيءٍ أمدّتني فيه المعرفة بالسعادة، إلى أن وصلت إلى تلك اللحظة حينما كنت أقرأ مقالاً عن فلسفة هايدجر ومررت بتلك اللحظة التي تغمرني فيها السعادة وأُصاب بالانتشاء حينما أقرأ شيئاً يفتح لي آفاقاً جديدة لفهم قضية ما، تلك اللحظة التي أشعر فيها بحبٍ وحماس وافر حينما تنبثق في ذهني فكرة جديدة، حينما تتكشّف لي إحدى العلاقات الخفية بين الأشياء فأشعر بسعادة تجعلني أودّ لو أستطيع أن أحتضن أحد المقربين بكل حنوّ، طالما عبرت بتلك اللحظة أثناء القراءة أو التمعن في إحدى القضايا ولكني لم أكن أستدعيها عند الحديث عن المعرفة والسعادة لأنني على ما يبدو لم أكن أعترف فى هذا المجال إلا بما يمكن الإحساس به ماديًا أو ما يمكن تبريره عقليًا وبالتالي لم تكن تلك “المشاعر” حاضرة فى تلك المساحة.
بالطبع لا يمكن تأسيس بناء حجاجي ما على مشاعر عابرة، ولكن يمكن التساؤل عن مدى إمكانية استمرارية تلك المشاعر أو على الأقل مدى إمكانية توسعة نطاقها لاختبارها بشكل أكبر والعيش في كنفها مددًا أطول. أظن أنه وبجانب ضرورة فهم المعرفة فهمًا جديدًا لكي تصبح علاقتها بالواقع علاقة جدلية وليست ميكانيكة يجب أيضًا التوجّهُ للمعرفة من باب الحاجة الضرورية للعيش وليس من باب الترفيه أو الهروب من الواقع كما لا يجب التعامل مع المعرفة وكأنها بناءٌ جاهز ينتظر فقط أن يجد الأرض المناسبة ليتمّ نصبُه فوقها بل يجب النظر إليها على أنها إعادة بناء لما هو موجود من خلال ما هو متوفرٌ من مواد خام، بأخذ تلك النقطتين في الاعتبار يمكن القول أنّ تناولَ المعرفة والثقافة بتلك الطريقة وبجانب ما توفّره لنا من لحظات سعادة حقيقية يمكن التفكير في نمطٍ جديد من المعيشة اليومية الحالية توفّر فيه المعرفةُ السعادةَ والفرح الإنسانيين وتساعدنا في التواصل مع أنفسنا ومع الآخرين ومع العالم.