الأفروسنتريك والأصول الزنجية للحضارة المصرية
(الأصولُ الزنجية للحضارة المصرية القديمةِ) عنوانُ كتابٍ للفيلسوف والعالم والمؤرّخ السّنغاليّ الشّيخ انتا ديوب، وهو أيضاً عنوانُ رسالتِه الدّكتوراة التي حصلَ عليها في جامعةِ السّوربون في فرنسا؛ ورغمَ رفضِ الجامعةِ الفكرةَ، ظلّ ديوب مدافعاً عنها حتّى قبلتْها الجامعةُ وحصل على الدَّرجة العلميّة.
يدور كتابُ (الأصولُ الزنجية للحضارة المصرية القديمةِ) حول عدّةِ محاورَ ربّما أهمُّها، من منظور ديوب، عمليةُ التَّزويرِ، في التَّاريخ الحديث، لصالحِ الرّجلِ الأبيضِ صاحبِ العقلِ المميَّزِ وبناءِ الحضاراتِ؛ لذلك، شنّ ديوب هجوماً شديداً على هذه الأفكارِ، ورفضَ المركزيّةَ الأوروبيّةَ شكلاً ومضموناً.
ذهبَ ديوب، في كتابِه، إلى أنّ أصحابَ أقدمِ حضارةٍ عرفَها التّاريخُ، وهي الحضارةُ المصريّةُ القديمةُ، هم الزّنوج الذين جاؤوا من الجنوبِ، مميِّزاً بين سماتِ سكّانِ الجنوبِ وسكّانِ الشّمالِ، فيما يُعرَفُ بنظريّة المهدَيْن، والمقصود بها المهدُ الجنوبيّ والمهدُ الشّماليّ. يتميَّز المهدُ الجنوبيُّ بالنِّظامِ الأُموميِّ، حيثُ الرّعايةُ والأمانُ، لذلك كثُرتْ فيه أعمالُ البناءِ؛ في حين أنّ المهدَ الشّماليَّ نظامٌ أبويٌّ تميّزَ بالعنفِ والقتالِ، لذلك كثُرَ اهتمامُهم بصنعِ الأدواتِ القتاليّةِ؛ وتتوسَّط المهدَيْن منطقةٌ تُسمّى منطقةَ الالتقاءِ.
لكنْ، ما الأسبابُ التي جعلت ديوب يقولُ بزنجية الحضارة المصرية القديمةِ؟
في الحقيقةِ، إنّ الأسبابَ التي جعلت ديوب يقول بزنجيّةِ مصرَ القديمةِ، أسبابٌ ظاهرُها ثقافيٌّ وباطنُها سياسيٌّ، وربّما يكون هناك أبعادٌ سيكولوجيّةٌ للموضوعِ.
ما الأدلّةُ التي ساقَها ديوب ليبرهنَ على أطروحتِه؟
اعتمدَ على عنصرِ المقارَنةِ، سواء مقارنتِه بين إفريقيَة وأوروبا، أو مقارنتِه بين مصرَ ودولِ إفريقيَة؛ واعتمدَ أيضاً التّشابهَ الثّقافيَّ بين مصرَ وإفريقيَة في بعضِ العاداتِ، مثلَ: النِّظامِ الأموميِّ، والمُلْكيّةِ، والخِتانِ، والطّوطميّةِ؛ كما اعتمدَ على التّشابهِ بين آلاتِ الموسيقى وأدواتِها، والتّشابه اللغويّ بين اللغةِ المصريّةِ القديمةِ التي انتقلتْ لإفريقيَة مع تغييراتٍ طفيفةٍ. اعتمدَ، أيضاً، على روايةِ الكتابِ المُقدّسِ: أنّ الزّنوجَ هم أبناءُ حام بن نوح الذي سكنَ مصرَ، وأيضاً اعتمدَ على بعضِ آراءِ الرّحّالةِ مثل ديودور الصقلي وهيرودوت، وأخيراً اعتمدَ على تحليلِ جرعةِ الميلانيين بين المصريّينَ والأفارقةِ. وما يهمّ من تلك الأدلّةِ التي ساقَها ديوب أنّ الزّنوجَ هم من بنَوا الحضارةَ المصريّةَ القديمةَ، ومن مصرَ انتقلت إلى إفريقيَة؛ فمصر بالنّسبة إليه هي الجِذْرُ والأساسُ والأصلُ. وفي الحقيقةِ، لم يكن ديوب أوّلَ مَن نادى بزنجيّةِ الحضارةِ المصريّةِ القديمةِ؛ إذ سبقَه عالمُ الأنثروبولوجيا الهايتي انتينور فيرمين، إلّا أنّ آراءَه لم يكن لها صدىً كديوب؛ نظراً للظّروفِ السّياسيّةِ التي عاشها فيرمين ومحاولةِ طمسِ آرائه حول المساواةِ بين الأعراقِ البشريّةِ.
هدفَ ديوب برسالتِه حول الأُممِ الزّنجيّةِ إلى ضربِ المركزيّةِ الأوروبيّةِ التي أسّس لها الفلاسفةُ العنصريّون أمثال كانط وهيجل وهيوم، وكانت آراؤهم بمثابةِ الغطاءِ الشّرعيِّ لاحتلالِ إفريقيَة، نظراً لتميّزِهم العنصريّ لصالحِ الرّجلِ الأبيضِ ضدَّ الأعراقِ الأخرى. كما هدف إلى تأسيسِ مركزيّةٍ إفريقيّةٍ؛ إذ نادى ديوب إلى ضرورةِ قيامِ وحدةٍ أفريقيةٍ مركزُها مصرَ مع ضرورةِ توحيدِ الأساسِ الاقتصاديِّ والثّقافيِّ للقارّة السّمراءِ. وعلى الرّغم من أنّ ديوب لم يصرِّحْ بالمركزيّة الإفريقيّة؛ كانت آراؤه الخطوةَ الأولى ونقطةَ الانطلاقِ للافروسنتريك. أيضاً، هدفَ ديوب إلى ضربِ الأسطورةِ اليونانيّةِ بأسطورةٍ أخرى وهي الأسطورةُ المصريّةُ القديمةُ صاحبةُ السّبْقِ والرّيادةِ في الفكرِ والثّقافةِ والعلومِ والفنونِ، ومن ثَمّ انهيارِ المعجزةِ اليونانيّةِ أمامَ المعجزةِ المصريّةِ القديمةِ التي كانت في نظرِ ديوب معجزةً إفريقيّةً زنجيّةً.
أهمُّ النّتائجِ المترتّبةِ على أفكارِ ديوب، حسْمُ الجدلِ المستمرّ حول بدايةِ الفلسفةِ الإفريقيّةِ، كما أنّه أسّس مدرسةً لدراسةِ المصريّات، وترجعُ أهميّةُ أفكارِ ديوب في الانتشارِ الواسعِ لها سواء في القارّة الإفريقيّة أو خارجَها، كما تبنّى آراءَه كثيرون من الأفارقةِ فى الشتاتَ، ومن أهمّهم موليفي كيتا أسانتي وإيفان فان سيرتيما؛ أيضاً انهيارِ الأسطورةِ السّامية لصالحِ السّود سلف حام بن نوح.
وعلى الرّغم من أنّ دراسةَ ديوب تدخلُ في نطاقِ الفلسفةِ الإثنيّةِ وفي الإطارِ الثّقافيِّ؛ صُنِّف ناشطاً سياسيّاً لنضالِه ضدَّ الاستعمارِ الفرنسيِّ في إفريقيَة ورفضِه الهيمنةَ الأوروبيّةَ بصفةٍ عامّةٍ .
وبخلافِ القيمةِ الفكريّةِ لآراءِ الشّيخ انتا ديوب، إلّا أنّه لم يسلمْ من النّقد؛ فقد قامت عالمةُ الأنثروبولوجيا النّيجيريّةُ إيفي أمادم بتوجيه سهامِ النّقدِ لديوب، نظراً لاعتمادِه المصطلحاتِ الماركسيّةً في كتباتِه رغم أنّه ينتقدُ الفكرَ الأوروبيَّ؛ فكان الأصلُ ألّا يعتمدَ على مصطلحاتِ ومفاهيمَ أوروبيّة، وأن يستبدلَها بمصطلحاتٍ ومفاهيمَ إفريقيّة تتلاءَم مع طبيعةِ الدّراساتِ الإفريقيّة. أيضاً نُقِد ديوب في اعتمادِه، في المقارَنة، على الإمبراطوريّات العظمى، مثل إمبراطوريّة مالي وغانا دون التّطرّق لحياةِ الشُّعوبِ اليوميّةِ أو الأشخاصِ العاديّين.
لكنَّ أخطرَ ما يمكن أن نوجّهَه لنقد ديوب، وقوعُه في فخِّ العنصريّةِ التي طالما حاولَ جاهداً محاربتَها، حيثُ أسّس لمركزيّة إفريقيّة تُعلي من شأنِ العرقِ الأسودِ مقابل الأعراقِ الأخرى. أيضاً، يمكننا توجيهُ سهامِ النّقدِ إلى ديوب نظراً لاعتمادِه على أقوال هيردوت، تلك الأقوالِ التي اعتمدَ عليها هيجل في آرائه حول إفريقيَة، أيضاً اعتمد ديوب على آراءِ الرّحّالةِ، وهو ما فعلَه كانط في تصنيفِه سُلَّمَ الأعراقِ التي ربّما لم تسلمْ آراؤهم من المغالطاتِ أو الذّاتيّةِ، أيضاً اعتمادِه على حُكم الزّنوج لمصرَ؛ فكان ذلك في عصورٍ متقدّمةٍ من التّاريخِ المصريّ، أيْ بعد آلاف السّنين من قيامِ الحضارةِ المصريّةِ القديمةِ. وأخيراً، يمكننا القولُ إنّ الإمبراطوريّةَ المصريّةَ القديمةَ قد بسطتْ نفوذَها على أماكنَ كثيرةٍ في العالمِ القديمِ؛ فليس غريباً أن تجدَ التّشابهَ: في الطّقوسِ، أو اللغةِ أو ملامحِ الحياةِ اليوميّةِ؛ فقد نقلتها مصرُ إلى تلك البلاد، وليس ذلك دليلاً على زنجيّة الحضارةِ المصريّةِ القديمةِ، بل العكس.
إنّ فكرةَ العودةِ إلى الجذورِ (الأفروسنتريك) التي ينادي بها الأفارقةُ ذوي البشرةِ السّمراءِ، ما هي إلّا محاولةٌ لسرقةِ حضارةٍ لا يمتلكونها، نعم! حكمَ شباكا مصرَ ورحّب به المصريّون، ولكنّ ذلك كان في عصورٍ متأخّرةٍ من التّاريخِ المصريّ بعد آلاف السّنين من إنشاءِ الحضارةِ المصريّةِ القديمةِ. من حقّ الأفارقةِ أن يبحثوا عن هُويّتِهم المفقودةِ، ولكن، دونَ الانقضاضِ على حضارةِ شعوبٍ أخرى وثقافتِها؛ هم يشعرونَ بحالةٍ من الاغترابِ، نظراً للظّروفِ الاستعماريّةِ التي مرّ بها والمعاملةِ الدونيّةِ من المستعمِرِ وما قبلَ الاستعمارِ منذ تجارةِ الرّقيق؛ لهم الحقُّ في محاولةِ الخروجِ من حالةِ الشتاتِ وفقدانِ الهُويّة، ولكنْ في حدودِ إفريقيّتهم؛ وعليهم، إذا أرادوا الخروجَ من هذا المأزقِ، أن يتمسّكوا بثقافتِهم الأصليّةِ والمشاركةِ الفعّالةِ في تحقيقِ مستقبلٍ أفضلَ لأوطانِهم، وأن تكونَ لهم الرّيادةُ في حلِّ المشكلاتِ الفلسفيّةِ والعلميّةِ الحديثةِ؛ كي ينالوا احترامَ أنفسِهم، قبل أن ينالوا احترامَ العالمِ. أيضاً، عليهم التّخلّصُ من عُقدةِ السّوادِ والفخرِ، والاعتزازُ بأنفسِهم أيّاً كان لونُهم وانتماؤهم ومعتقداتُهم.