ابن خلدون وفلسفة التاريخ
إن أردنا البحث عن أوّل من وضع حجر الأساس لفلسفة التّاريخ، سنجد أنّ البعض يعتبر الفيلسوف الإيطالي فيكو (1668م-1744م) هو المؤسّس، ويَنسب آخرون الفضل إلى الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو (1689م-1755م)، لكنْ قبل هؤلاء بكثير يبرز فيلسوفٌ ومؤرّخٌ عربيّ اكتشف أن التّاريخ يتطلّب بحثًا ومنهجيّة مثل أيّ علم آخر، وهو ابن خلدون الذّي أعطى للتّاريخ مفهومًا جديدًا فيقول عنه:
وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيق، وعلمٌ بكيفيّات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيلٌ في الحكمة عريق، وجديرٌ بأن يُعدّ في علومها وخليق.
في “مقدّمة ابن خلدون” (1377م) كتب عن فضل التاريخ: “اعلم أن فنّ التاريخ فنٌ عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومُه في أحوال الدّين والدنيا.”
ويقسم التّاريخ إلى ما هو ظاهر وما هو باطن، وبالنسبة له لا يقتصر التاريخ فقط على تسجيل الأحداث، بل يجب أن يُبحث ما وراءها من العلل والأسباب في الأعراف الاجتماعية والسياسية:
“اعلمْ أنّه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحّش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.”
اعتمد منهج ابن خلدون على النّقد والملاحظة والمقارنة والتّمحيص، واستخدم النّقد العلمي لتحليل روايات الأحداث التاريخية ومصادر هذه الروايات والأساليب التي استخدمها المؤرخون، ودراسة ومقارنة مختلف القصص للتخلص من التّزوير والمبالغات، والتّوصُّل لنظرة موضوعية عمّا حدث بالفعل، فقد احتوت العديد من الرّوايات على الأكاذيب لأنّها كُتبت لتملُّق بعض الحكام أو لتعزيز مصالح بعض الطوائف، وصانعو الأخبار ورواة القصص يتعمدون الاحتيال والتزوير لأغراضهم الخاصة، لذلك حثَّ ابن خلدون أن يكون المؤرخ ثاقبًا ودقيقًا في الملاحظة وماهرًا في مقارنة النص بالنص الفرعيّ حتّى يكون قادرًا على النّقد والتّوضيح الفعّال.
على الرغم من أنّ ابن خلدون يؤمن بقوة بالله إلّا أنّه لم يذكر أبدًا أيّ هدف سماويّ للتاريخ، أو أيّ نهاية إلهية يتوقّف عندها التاريخ: “الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء” يبدو الاقتباس كأنّه يوحي أنّ التاريخ البشري ليس له نهاية، بل ذهب ابن خلدون إلى أبعد من ذلك حيث انتقد المؤرخين الآخرين لفرضهم أفكارًا ميتافيزيقيّة غيبيّة على الأحداث التاريخية لجعل الأخيرة تبدو خاضعًة للآلهة أو التّدبير الإلهيّ، وتحويل التاريخ إلى شيء أقرب إلى الفنون والأدب وهو في الأصل علمٌ بحدّ ذاته.
ونتيجًة لذلك استولى بعض المسلمين والغربيين على مفهومه ونظريّته للتّاريخ ممّا أظهر ابن خلدون باعتباره ملحدًا، وهي تهمة كان بريئًا منها، الأمر أنّ وجهة نظره كانت أنّ علم التاريخ ليس خاضعًا للميتافيزيقيا والأمور الغيبيّة ولا يمكن جعله كذلك، ولم يشكّك ابن خلدون في وجود الله، فقد قال عن عمله في مقدمته “ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهامًا”، وهذا يجب أن يكون دليلاً كافيًا على إيمانه بالله.
أما آراؤه حول النُّبوّة فهي واضحةٌ تمامًا على عكس آراء بعض أسلافه من الفلاسفة المسلمين ولا سيما الفارابي (870م-950م) وابن سينا (980م-1037م). فابن خلدون بوصفه فيلسوفًا تجريبيًا كان معنيًا بالتّجارب المقدسة للنبي محمّد (570م-632م) ممّا يعني لا بدّ أنّه يرى نهاية للتّاريخ، فوجود الله يُعتَبر حقيقًة مطلقًة، وأنبياؤه ورسالاتهم لهي دليل على هذه الحقيقة، لذلك فإنّ القول بأنّ الماضي في التّاريخ يشبه المستقبل فذلك مجازًا يعني أنّه سلسلة مستمرّة من الأحداث لا تتوقّف مع أيّ أُمّة، لكنّها مستمرة مع كل عصر كسلسلة من الحكايات.
كان منهج ابن خلدون هو فحص أدقّ الحقائق عند تحليل الأحداث التاريخية؛ لأنّها ليست مجرّد ظواهر بسيطة، بل معقّدة. فقد اعتبر دراسة التاريخ أمرًا غير سطحيّ أو بسيط، لأنّه “علم عميقٌ بكيفيّات الوقائع وأسبابها”. ولأنّ التّفسير الميتافيزيقيّ للنّظريّات لم يكن يستهوي ابن خلدون؛ فقد استورد فكرة السّببيّة من المجال النّظريّ للفلسفة إلى الساحة العمليّة للتاريخ من خلال التركيز على “الأسباب والعلل” الدنيوية للأحداث التاريخية. فطريقته كانت استقرائية مباشرة تعتمد على الحواس والعقل دون الرجوع إلى أي معيار آخر، وكان يرى فراغًا كبيرًا بين ما هو تجريديّ وتجريبيّ، فالأوّل يقوم على المنطق، والثّاني على واقع العالم الماديّ، فليس للمعرفة الإلهية دليل مؤكَّدٌ في هذا العالم، فهي روحٌ غير مرئيّة، لا تخضع للتّجربة ولا يوجد دليلٌ حسيٌّ عليها، وبما أنّ ما هو مادي وما هو عكسه ليسا على وفاق كامل وليست بينهما مصطلحات مشتركة، لذلك فقد أبعد ابن خلدون العالم التجريدي أو الإلهي من قياساته المنطقية. وهذا هو بالضبط النهج الذي اتبعته الفلسفة الوضعية الحديثة وحتى البراغماتية التي سارت على خطى ابن خلدون في مراحلها الأولى.
في تشخيصه لأسباب الكذب في التاريخ، حدّد ابن خلدون عددًا من الأسباب مثل: “التشيعات للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد، وتقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك“. وقد ارتكب العديد من المؤرّخين والمفسّرين والرّواة خطأ قبول روايات غير صحيحة أو تسجيل أحداث لم تحدث؛ لأنّهم اعتمدوا على مجرّد النّقل غثًا أو ثمينًا، دون عناء البحث عن مصادره عن كثبٍ بحثًا عن الحقيقة أو الباطل، أو مقارنته بأيّ شيء آخر، أو حتّى تطبيق منهجيتهم الخاصة عليه، فظهر ضعفهم بوصفهم مؤرّخين. فمثلًا نقل المسعوديّ وكثير من المؤرخين العرب الآخرين في جيوش بني إسرائيل أنّ النبي موسى أحصاهم في التّيه فبلغوا 600000 رجل أو يزيدون، وهؤلاء من العشرين وما فوق، وإذا فحصنا هذه الحكاية بعناية فسيتّضح أنّها خاطئة؛ لأنّه عندما دخل يعقوب وأقاربه مصر كان عددهم سبعين، وأربعة أجيال فقط كانت تفصل بين يعقوب وموسى، فمن أين إذن أتى موسى بهذا العدد الهائل من الشباب والرجال؟ علاوةً على ذلك قال الإسرائيليون أنفسهم أنّ جيش سليمان بلغ 12000 وخيله 1400 وهم بذلك يعدون ملك سليمان هو ذروة قوّة دولتهم وتوسيع حكمهم.
نجح المسعودي أيضًا في تجاهل الواقع الماديّ، فكيف بالضّبط تمّ حشر هذا الجيش الضخم في التيه؟ كيف يمكن لهذه القوّة الهائلة أن تصطف وتتحرّك في مساحة محدودة للغاية من الأرض؟ فقد ذهل المسعودي لمعرفة وتقدير الواقع التّاريخي فلكلّ مملكة من الممالك حصّة من الحامية وفقًا لحجمها، فالمملكة التي لديها ستمائة ألف أو أكثر من المقاتلين كانت لها حدود تتجاوز بكثير حدود مملكة إسرائيل القديمة.
وقد أورد ابن خلدون وصفًا لما يجب أن يكون عليه المؤرخ ليكون مؤهلًا للتّعامل مع الأحداث والقصص التاريخية:
1. فهم واضح لطبائع الناس وقواعد السياسة.
2. معرفة البيئة الطبيعية واختلافها باختلاف الزمان والمكان.
3. التّعرُّف على البيئات الاجتماعية لمختلف الأمم من حيث أسلوب الحياة والأخلاق والريع والمذاهب وما إلى ذلك.
4. فهم العصر الحاضر والقدرة على مقارنته بالعصور السالفة.
5. معرفة أصول ودوافع الدّول والطّوائف ومبادئها المعلنة وقواعدها وأهمّ الأحداث في تاريخها.
وللوصول إلى فهمٍ نقديّ للأحداث التاريخية يجب على المؤرخ إذن أن يدرس الظّروف العامّة للفترة التّي يتعامل معها ويقارن بعدها الأحداث التّي هو بصددها، ويجب عليه بعد ذلك استكشاف أيّة أحداث مماثلة وقعت في فترات أُخرى تتشابه مع الظروف العامّة لهذه الفترات. وعند ذلك، أي “بعدما يكمل هاتين المرحلتين الرئيسيتين” سيكون قادرًا على الحكم على الأحداث إن كانت معقولة وربّما صحيحة، أو غير مقبولة وتكاد تكون خاطئة. لكن هناك أيضًا أحداث معينة تحتاج فقط للدّراسة بشكل منفصل مع الأخذ بالاعتبار الظروف العامة لزمنها؛ لمعرفة ما فيها من حق أو باطل.
يعتقد ابن خلدون في تحليله لـ “العقل” أنّ العقل له حدود لا يمكنه تجاوزها، وأنّ هذه الحدود تمنعه من الوصول إلى فهمٍ كاملٍ لله وصفاته. ذلك منتهاه، ولا يستطيع الإنسان رفعه أو زيادة قدرته، وأصرَّ ابن خلدون على أنّ العقل لا يمكن أن يدرك “حقيقة الرّوح والإله” أو أي شيء آخر موجود في العالم الأعلى؛ لأنّه غير قادر على الوصول إليه أو معرفته أو إثباته. يمكننا أن ندرك فقط ما هو ماديّ، أمّا كل ما هو غير مادي فلا يمكننا إثباته ولا بناء أي دليل عليه.
قدّم ابن خلدون للفكرِ القليل من التّشجيع للتّفكير في الميتافيزيقيا، متبعًا خُطى الغزالي (1059م-1111م)، وتُعدُّ ضربًة نهائيًّة وشبه قاتلةٍ للفكر الفلسفيّ العربيّ الإسلاميّ. ومع ذلك تجدرُ الإشارة إلى أنّ ابن خلدون فتح أمام العقل البشريّ بابًا جديدًا تمامًا وهو: علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
ومنذ القرن الثامن عشر أخذ العالَمُ الغربيّ ابن خلدون على محملِ الجَدِّ، خاصةً لأنّ أفكاره العلميّة كانت تشبه إلى حدٍ كبير تلك الأفكار التّي تطوّرت فيما بعد في تاريخ البشرية. وعلى الرغم من أنّ ترجمات أُطروحاته التّاريخية والاجتماعية ساهمت في نفض الغبار عن فكره، إلّا أنّه لم يأخذْ مكانه اللّائق بوصفهِ مؤسّسًا لفلسفة التّاريخ ورائدًا في علم الاجتماع.
نرشح لك: ابن خلدون مفكر فاق عقله زمانه
المصدر