إنها تقسيم المحافظة!
كانت (تقسيم المحافظة) هي نقطة التحوُّل في حياةِ كلٍّ منَّا، وأصبحت بعدَ حينٍ النموذجَ الذي نَقيس إليه الجمالَ الأنثويَّ، ونحتكم له قبل أن تتَّخذَ بوصلة مشاعرنا القرارَ بشأن أي فتاة!
أكاد أسمع ذلك الصوتَ الذي يصرخ الآن في أعماق ذلك القارئ المُتحذلق: “تقسيم المحافظة مذكَّر… تقسيم المحااااااافظة مذكَّر”. فلا ينبغي -في رأيه- أن نقول حين نتحدَّث عنه: إنها، وكانت، وأصبحت!
في الواقع، (تقسيم المحافظة) هي أبعدُ الكائناتِ طُرًّا عن التذكير. لو فتحتَ مُعجَمًا مصوَّرًا، فلن تجد بجوار كلمة (المرأة) إلا صورة (تقسيم المحافظة)؛ للدلالة على الكيان الجامع المانع الذي اختُزلت فيه كلُّ الصفات الأنثوية من عهد (عشتار) إلى العهد الذي بزغت فيه (تقسيم المحافظة)؛ تلك الفتاة الحسناء التي أنسانا جمالُها اسمَها، فلم نجِد وسيلةً للإشارة إليها غير اسم الحي الذي تقيم فيه… ولهذا سبب، سوف تجده منطقيًّا عندما يحين ذكرُه.
الشرارة الأولى
كنا في المرحلة الإعدادية… في الصفِّ الثاني، على أغلب الظن. فالصفُّ الأوَّلُ كان سجنًا، والصفُّ الثالثُ كان ماخورًا؛ ولا أظن أن وجود هذا الملاك يلائم السجن أو الماخور… إذًا هو الصفُّ الثاني الذي كنت قد اجتزت قبله، في الإجازة الصيفية، اختبار ذكاء، تم اختياري على إثره لأكون طالبًا في (فصل الفائقين) الذي ضمَّ أذكى طلبة المدرسة.
وفي ذلك الوقت (وربما إلى الآن… لا أدري)، كان لزامًا على طلبة (كلية التربية) أن يذهبوا إلى المدارس؛ ليتدرَّبوا عمليًّا على التدريس والتعامل مع الطلاب؛ وكانوا يُدعَون في اصطلاحنا: (التربية العملي).
لم يكن وقعُ ذلك المصطلح جيدًا على الطلبة الفائقين (أو -إذا شئت الدقة- على الطلبة الدحَّاحين أمثالي؛ فقد كان في فصل الفائقين، كغيره من الفصول، مَن كرهوا المدرسة والدراسة والمذاكرة وكل ما يمتُّ للتعليم بصِلَة). كان هذا المصطلح يضايق الطلبة الدحَّاحين؛ لأن دخول مدرس (تربية عملي) بدلًا من المدرس الأساسي معناه أن (الحِصَّة) ضاعت؛ فأداؤه التدريسيُّ -في الغالب- متدنٍّ، وقدرته على إحكام قبضته على الفصل محدودة؛ فما هي إلا لحظاتٌ تمرُّ على دخوله، حتى يتحوَّل الفصل إلى (سويقة)، حتى ولو كان فصلًا للفائقين كهذا الفصل!
لكن دخول (تقسيم المحافظة) كان له وقعٌ آخر!
يُستحسَن في هذا الموضع أن تستدعي إلى ذهنِك صوتَ طبولٍ حماسية، وكذلك الموسيقى المصاحبة للإنترو الذي يسبق أفلام شركة (20th Century Fox)؛ لأن اللحظة التالية لحظة مرجعية في التاريخ الشخصي لكلِّ مَن شهدها. إنها اللحظة التي سيرجع كلٌّ منَّا إليها بذاكرته كلما لمح فتاة؛ ليعرف النسبة المئوية لأنوثتها على مقياس (تقسيم المحافظة)!
في مطلع الحصة الثانية، أو الثالثة―لا أذكر… في الساعة التاسعة أو العاشرة من ذلك اليوم الشتوي الغائم، دخلت مبتسمة، واثقة في نفسها، بعينين تُشِعَّان حماسةً وإخلاصًا وصدقًا ودفئًا، ضمن ما تُشِعَّانه من ألوانٍ لم نعرف لها اسمًا؛ لأننا لم نبصرها من قبل، ولم نتخيَّل أن في الشبكية مخاريطَ قادرةً على التقاط هذه الدرجات من الألوان! سيقولون عيناها خضراوان، ويقولون عيناها زرقاوان؛ لكنني -بعد حينٍ- علمت حقيقة هذا اللون النادر الذي يُحَيِّر كلَّ مبصرٍ له… إنه اللون العسلي الفاتح، الذي اضطررت إلى الانتظار عشرين عامًا لكي أصادفَه مُجَدَّدًا في عينَيْ كاتبةٍ شآميةِ الجذور!
لا أذكر، ولا يذكر أيٌّ منَّا اسمَها. ولا أذكر، ولا يذكر أيٌّ منَّا المادَّةَ التي جاءت لتتدرَّب على تدريسها. لا نذكر إلا شيئين فقط، يومضان في الذاكرة، وما سواهما يحيط به الضباب: الحي الذي كانت تقيم فيه، والكلمة التي نادتنا بها، وبها أسرت القلوب: “يا شباب”.
تقسيم المحافظة… الجنَّة التي كانت!
ربما يتبادر إلى ذهنك، حين أقول: “حيّ (تقسيم المحافظة)”، أنه حيٌّ ضخمٌ على غرار (المهندسين) أو (سموحة) أو (إمبابة) أو (محرم بك)! هو مجرد (تقسيم)، وَفقًا للمُسَمَّى المتداوَل في محافظة (كفر الشيخ)… والتقسيم مجمع سكني، أو منطقة عمرانية تشغل مساحةً جغرافيةً تحدُّها شوارع رئيسية معروفة تفصلها عن سواها، أو… (حي)…
يطيب لي أن أدعوَه حيًّا؛ لأنني أُجِلُّ ذلك المكان منذ طفولتي؛ فهو محلُّ مدرستي الابتدائية (خالد بن الوليد)، ومدرستي الإعدادية (الإعدادية الحديثة)، وكذلك موطن صديق الطفولة الأعز (زيزو)، بالإضافة إلى الهدوء المخيِّم دائمًا على ذلك التقسيم، حتى لا تكاد تبصر في شوارعه إلا القطط، ولا تكاد تسمع إلا صوتَ خطواتِك، كما يليق بمكانٍ راقٍ، شاع بين الناس أنه لا يسكنه إلا أثرياء الطبقة المتوسطة، والذين سلكوا إلى الخليج طريقًا في شبابهم… لكلِّ ذلك، لم أكن أتمثَّله في خيالي إلا (حيًّا). بل إن التجوُّلَ بين شوارعه يَفضُل عندي، حتى الآن، التجوُّلَ بين شوارع (الزمالك)! لا تقارن حاله اليوم بحاله في تلك الأيام السعيدة. أيُّ شيءٍ بقي على حاله بعد أعوام القحط والنحس التي توالت كالصواعق، ونخزت أعصابنا وأعصاب الأماكن كإبرٍ صينيةٍ تلهو بها يدا دجَّال جَهول؟! أنا نفسي لا تجوز مقارنتي بذلك الطفل البريء الذي كنتُه، فكيف تريد أن يهرم البشر ولا تهرم الأماكن؟!
حين قدَّمَت الحسناء ذات البشرة القمحية نفسَها، وذكرت أنها من (تقسيم المحافظة)، اتجهت أبصارنا جميعًا إلى صديقنا (زيزو) الذي نعلم أنه مقيمٌ في نفس المنطقة… بعض النظرات لم يخلُ من حَسَدٍ على (الأَمَلَة) التي هو فيها؛ أن يكون قريبًا من ديار الحسناء، قادرًا على أن يصادفها أثناء سيره، أو أن يتنفَّس الهواء الذي تنفَّسَته، أو أن يمشي على مواضع خطواتها في ذلك (الحي) المقدَّس! لكن أغلب النظرات لم يَعْدُ كونَه ربطًا طبيعيًّا بين شيئين يشتركان في شيء… إن جاز التعبير.
بدأت تتحدَّث، ولم نفقهْ ممَّا قالت شيئًا.
دائمًا ما كنت أسمع ذلك القول: “الجمال له هيبة”، ولم أدرك معناه حتى تلك اللحظة التي تجمَّد فيها عقلي، وعجزت عن فهم اللغة البشرية!
أتذكَّر الآن أساطير الإغريق التي كان (زيوس) يمسخ نفسه فيها طائرًا أو حيوانًا أو إنسانًا ليقضي بعض شئونه (التي لا تخفَى على أحد!)؛ وذلك لأن تجلِّيه بكامل ألوهيَّته، كفيلٌ بأن يصعقَ مَن يبصره، ويُنزل به الهلاكَ وبكلِّ ما حوله، مثلما حدث للحسناء (سيميلي) في القصَّة المشهورة.
في ذلك اليوم، تجلَّت لنا (تقسيم المحافظة) بكامل مشمشها (وَفْقَ قول محمود درويش، الذي لا يناسب -بالقطع- هذا السياق!). تجلَّت بكامل ملائكيتها وعذوبتها ورقَّتها، فصُعِقَت عقولنا جميعًا، وعجزنا عن فهم ما يفهمه من اللغةِ البشرُ!
لا أزعم أننا جميعًا كنا أطفالًا أبرياء، ولكنني سأتحدَّث هنا عن نفسي، وأقول إنني في ذلك الزمان البعيد كنت شديدَ البراءة. تلك البراءة التي تَكفيها كلمةٌ لكي تلطخ بالدماء الوَجنتين، وتنسيك الكلام!
لم أكن أعلم آنذاك ما الذي يعشقه من النساءِ الرجالُ، ولا كانت عيناي تلتمسان في غير ملامح الوجهِ الجمالَ. لكن أصدقائي كانوا يعلمون، ومنهم من كان يعرف بالتفصيل رحلةَ الإنسان في عوالمه ما قبل الجنينيَّة! فبينما كنت مصعوقًا بالوجه الصاعق، كان أحد أصدقائي يقول مبتسمًا في خبث: “دي مَكَنَة”.
و(المَكَنَة)، لمن لا يعلم، لها معنًى اشتقاقي، وهو: الآلة. وأصل الكلمة: الماكينة، ثم استعيرت للدلالة على: الموتوسيكل، ثم أغرب الناس في الاستعارة حتى دلَّت على: المرأة الفاتنة! ولعلَّك تتساءل الآن عن العلاقة بين الموتوسيكل والمرأة الفاتنة! ثمَّة أجوبة كثيرة؛ لكنني سأختار منها أكثرها تحذلقًا، إمعانًا في التأصيل، وانتصارًا لكفاح المرأة الأبدي في وسطٍ معادٍ (كما أن القصة -كما تلاحظ- مكتوبة بأسلوب شديد التهذيب؛ فلا أنوي أن أغضب القرَّاء الذين سيصُبُّ التفوُّهُ بالفحش قواريرَ من حمض الكبريتيك على أغشية حيائهم الرقيقة)!
لا يخفَى على أحدٍ أن المرأة الفاتنة كانت تُشبَّه قديمًا بـ: الظبية، والمهاة، والأفعى، وحديثًا بـ: الكتكوتة، والقطة، والفَرَسَة، واللبؤة، والجمل، والوحش، وهو امتداد لإخراج المرأة من إطار الآدميَّة؛ لأن من السهل انتهاك ما ليس بشريًّا. انزع عن أيِّ إنسانٍ صفة الآدمية، ولن تواجهك معضلة أخلاقية في قتله… كأنك دعست صرصورًا أو صفقت بكفيك على بعوضة. فإذا نزعت عن المرأة صفة الآدمية، سهل عليك انتهاكها بالقول وبالفعل. فما بالك إن زدت على ذلك إخراجها من إطار الحيوانية أيضًا، فحوَّلتها إلى: موتوسيكل… أو إلى قطار… أو إلى صاروخ… أو إلى ترومَّاي (مثلما وصف أحمد فؤاد نجم زوجته في أحد البرامج الحوارية)―تلك الأوصاف التي ألهمتنا بها الثورة الصناعية، ودمَّرت بها وعيَنا، على نفس الوتيرة التي دمَّرت بها النظام البيئي؟ حينها، لن ترى المرأة إلا شيئًا، وعندئذٍ تسقط عنها كل الحقوق، ويجوز أن يُرتكب بشأنها أيُّ جرم!
لكلِّ ذلك، محوت من ذهني كلمة صديقي الخبيث، تنزيهًا لتقسيم المحافظة عن مُشاكَلَة الآلات والبهائم، بل وحتى البشر. تجاهلت تمامًا كلام الغزل الصريح الذي ساقته ألسنة غيره من الزملاء، وتعلَّقتُ بكُلِّيَّتِي بعينَيْ (تقسيم المحافظة) العسليتين.
“يا شباب”… هل كنا شبابًا حقًّا… أم إن الذين كانوا شبابًا سِوانا؟!
لماذا دَعَتنا (تقسيم المحافظة) بـ: الشباب؟!
تعجَّبت من ذلك جدًّا وسط أصحابي، وتعجَّبوا! فبالرغم من زحف زغب الهرمونات أسفل أنوفنا، على هيئة ذلك الشارب القبيح الذي يبدو كالغبار، إلا أننا كنا ندرك أننا لا نزال أطفالًا… ولا أَدَلَّ على هذه الحقيقة من تعلُّقنا جميعًا بمسلسلات الكارتون، وخاصةً مسلسل (سابق ولاحق) الذي كان يُذاع على التليفزيون المصري آنذاك وقت المغرب، والذي اشتعل أحدُنا تحمُّسًا له، حتى أحضر إلى الفصل ذات يوم سيارة (ماجنَم سيبا)، بألوانها الزرقاء والبيضاء والحمراء، وجعلها تمخر الطرقة الفاصلة بين صفَّين من (الدِّكَك) الخشبية، قاصدًا أن يبهرنا!
كنا أطفالًا… كنا نعلم أننا أطفال، ورغم هذا رأتنا (تقسيم المحافظة) شبابًا!
أكاد أجزم أن هذه هي أول مرَّة في حياتي أحسست فيها برجولتي… بل لعلها المرَّة الوحيدة التي أحسست فيها بالرجولة!
أدرك جيدًا الرأي القائل بأن كينونة الإنسان لا تتحدَّد إلا بوجوده وسط الآخرين. انطباعاتهم عنه هي التي تكوِّن شخصيته. ردود أفعالهم تجاهه هي التي تحدِّد نظرته إلى ذاته. تفاعله معهم هو الذي يؤكِّد له أنه حقًّا موجود، وأن العالم الخارجي موجود أيضًا، ويتجاوز قطعًا تلك الأشباح التي تعبر خلايا مخه من حين لآخر. لكنني وقتها لم أدرك ذلك بتفاصيله، وإنما أدركت أمرًا يدور في فلك نفس الرأي… الرجل لا يكون رجلًا إلا في وجود امرأة تُشعره بأنه رجل! ولقد أخرجتني (تقسيم المحافظة) في ذلك اليوم من دائرة الطفولة، بكلمة واحدة، إلى دائرة الشباب.
ولكن -ها نحن نعود إلى نفس السؤال- لماذا دَعَتنا (تقسيم المحافظة) بـ: الشباب؟!
هل أرادت أن تذيب الجليد؟
ربَّما…
كانت جميلة… كانت ساحرة… ولعلَّها كانت تعلم جيدًا مواطن قوتها ووقع ملامحها على قلوب الرجال… ذلك الجمال المُخرِس… تتباطأ الأنفاس، وتجحظ العيون، وتتأخَّر الردود… لكن أولئك الرجال المسحورين كانوا بالتأكيد قادرين على التعافي سريعًا من صدمة الجمال، فلا تمرُّ لحظاتٌ حتى تراهم ينطقون، ويأخذون من الكلام ويعطون. أما الأطفال… أما الأطفال الذين ستكون هي أول نموذج أنثوي يخرجهم من ظلمات الطفولة إلى نور (الشباب)، فكان لا بد لها من أن تذيب الجليد بأن تقول لهم: “يا شباب”. كلمة إطراء… كلمة تعظيم… كلمة ترفعهم بها فوق أقدارهم، وتحثو في وجوه أقدارهم القديمة التراب.
“يا شباب… كل واحد بقى يقوم يقف يقول لنا اسمه، وعايز يشتغل إيه لمَّا يكبر”.
لماذا (تجمَّد) وجهي رغم أنها… (أذابت) الجليد؟!
وجاء دوري…
وليته ما جاء!
كنت جالسًا في الدكَّة قبل الأخيرة من الصف الأوسط؛ وهو مكانٌ ملعون. فالصف الأوسط دائمًا ما يكون في مرمى مدافع المدرسين؛ متى أرادوا أن يسألوا أحدًا ويحرجوه، اختاروا من هذا الصفِّ أضحيَّة، وسقوا دفتر (أعمال السنة) بدمائه! ولم أكن في مقدمته فتُعجَّل إليَّ رصاصة الرحمة وأبرأ من التوتر سريعًا، بل كان عليَّ أن أنتظر وأنتظر وأنتظر، فأموت مراتٍ في خيالي قبلَ الموتةِ الآخِرة!
أخذ قلبي ينبِض خوفًا، وأنا أتأمَّل توالي الواقفين من قبلي، واقتراب اللحظة الحاسمة. أخذت أرتجف، كأن لحظة وقوفي ستكون هي لحظة انتهاء حياتي!
ماذا أقول؟
أغلب الزملاء تعاملوا مع الأمر على أنه مزاح. وجاهد كلٌّ منهم لانتزاع بسمة أو ضحكة من شفاه الحسناء. ولعلَّ هذا هو ما أقلقني، وجعلني أنتفض في مكاني… هل سأتمكَّن من إضحاكها… من إثارة اهتمامها… من حفر ملامحي في شبكيَّتها ولو بضعَ ثوانٍ؟
إذا أضحكتَ المرأة امتلكتَ قلبَها.
حكمة صادقة، لم أدركها إلا بعد حين، وإن بانت آثارُها جليَّةً في ذلك اليوم البعيد… لكنها لم تتبلور إذ ذاك، في عقلي الطفولي المحدود الجاهل، كعبارةٍ حكيمةٍ تصلح لكل زمان… بل ظهر أثرها العملي، ورأيته بعيني، حين أضحكها زميلي القصير المَرِح حافظ القرآن، فأشرقَت.
ثم جاء دوري…
في ذلك الوقت، لم أكن أتمنَّى أن أصبح أيَّ شيءٍ حين أكبَر! بل وَحَدَاني الشططُ في التفكير إلى أن أجعل مثلي الأعلى هو الطفلة كلوديا التي حوَّلها لويس (في فيلم مقابلة مع مصَّاص الدماء) إلى مصَّاصة دماء، فحُكِم عليها أن تظلَّ طفلةً إلى الأبد.
استهواني ذلك النموذج، فحذفت من عقلي أيَّ طموح مستقبلي أو رغبة في أن أصبح أيَّ شيء! لكنني كنت -شأن كل الدحَّاحين- ببَّغاء، وقابلًا لغسيل المخ بسهولة! وقد زرع فيَّ أبي آنذاك أفكارًا كثيرة، لم أكن قادرًا في وقتها على التحقُّق من صحَّتها؛ لشدَّة جهلي. ومن ضمن تلك الأفكار، أن المحاماة هي أعظم مهنة على الإطلاق!
لن تحتاج إلى تفكير طويل لتستنتج أن والدي كان محاميًا! ومَن يشهد للعروسة، على رأي المثل؟!
لم أكن أريد أن أصبح شيئًا محدَّدًا… لكن إذا كان لا بد من الاختيار، فلم لا أختار الأفضل (من وجهة نظر مخي―المغسول جيدًا بالطبع)؟!
قمت… نبضي المتسارع منعني من رسم أي تعبير على وجهي… أخبرتها باسمي الثلاثي، ثم قلت: “محامي”.
وهممت بالجلوس، لكنها استوقفتني، وطلبت مني أن أعيد ما قلته، فقلت مرةً أخرى: “محامي”. فاندهشَت.
كنت أنا الوحيد في الفصل الذي تمنَّى أن يصبح محاميًا!
وحين جلست، امتلأت بالخيلاء! بعضهم مازحَها… بعضهم أضحكَها… لكنني أنا الوحيد الذي أدهشَها!
في أقل من ساعة، تحوَّلت من طفل إلى شاب… ومن مجرد شاب عادي، إلى شاب يدهش الجميلات! ما هذا الجنون؟!
كلوديا كاردينالي أم… مجرَّد فتاة عاديَّة… بائسة!
الثورة تشبه علاقة حب عظيمة. في البداية، تبدو كإلهة… قضية مقدَّسة. لكنَّ لكل علاقة حب عدوًّا رهيبًا… الزمن… يجعلنا نراها على حقيقتها.
هذا ما قاله الثائر المكسيكي (جيسوس رازا) عن الثورة في فيلم (المحترفون The Professionals) [1966]. ولا يعنيني في هذا السياق رأيه في الثورة، بل وصفه الدقيق للحب!
ولا أخفي استعجابي من أن أصادف هذا الوصف، في نفس الفيلم الذي صادفت فيه أخيرًا ما ذكَّرني بما شوَّهه الزمن وأفسده من ملامح (تقسيم المحافظة)… (كلوديا كاردينالي)… الحسناء المذهلة التي اجتاحت سينمات العالم ووجدان الرجال خلال الستينيات والسبعينيات!
اندهشتُ حقًّا حين رأيتها… إنها هي… ملامح (تقسيم المحافظة) التي نَسِيتها، تجسَّدَت بغتةً في وجه كلوديا!
لقد تدخَّلت يدُ الزمن مرَّتين… المرَّة الثانية مَحَتها تمامًا من ذاكرتي، حتى ذكَّرتني بها (كلوديا كاردينالي). أما المرَّة الأولى، فكانت أشدَّ وقعًا، وأدعى للاكتئاب!
مرَّ أسبوعان لم تظهر فيهما (تقسيم المحافظة)، وكنَّا خلال تلك الأيام نستدعيها في أحاديثنا دومًا طواعيةً وقسرًا، وذلك إلى أن أفرغ صديقٌ لي قنِّينة سم في بئر الأحاديث!
“على فكرة هي مش حلوة قوي زي ما انتوا فاكرين… لو قرَّبتوا من وشَّها هتشوفوها على حقيقتها”.
سكتنا كأن على رؤوسنا الطير، وما لبث أحدنا أن قال مازحًا: “ما يهمّش يا عم… هي كدا كدا جامدة”!
تحطَّمت ثوابتي!
أتُراني كنت ألاحق وهمًا؟!
أهي حقًّا مثلما قال صديقي؟!
ولماذا كلما امتدحت جمالها وامتدحوه، أحسست أنني قصدت شيئًا، وقصدوا غيرَه؟! لماذا أستشعر فيما يقولون لمحاتٍ من (قلة الأدب)؟!
كنت حقًّا بريئًا، ولم أكن أعلم سرَّ نظراتهم الشيطانية، وكلماتهم التي أعظمَتْ منها غيرَ ما أعظمتُه!
وعزمت على أن أضعها في المرة القادمة تحت المجهر؛ عسى أن أتحقق من صحَّة ما يدَّعون.
وقد كان…
بعد أسبوعَي الغياب، ظهرت أخيرًا (تقسيم المحافظة). وقد لاحظناها خلال الفسحة، وتابعناها إلى أن اختفت في أحد الفصول التي اعتاد المدرسون أن يجتمعوا فيها؛ وكان في الطابق الأول.
أخذ أصدقائي يتغامزون، ويتحدَّى بعضهم بعضًا أن يكلِّمها… وكان -وقتَها- ثمةَ شيءٌ مُلحٌّ بالفعل يستدعي أن نسأل عنه أحد المدرسين، لكنني لا أذكره.
وبينما كنَّا صاعدين على الدَّرَج، تقدَّمتُهم، واقتربت من الفصل الذي كانت (تقسيم المحافظة) فيه، فألفيتُها خارجةً منه. سألتُها عمَّا لا أذكره، وانتهزتُ الفرصة لأتأمَّل ملامحَها. أجابتني سريعًا بابتسامتها المعتادة، ثم انطلقَت إلى وجهتها.
واستدرت إلى أصدقائي، فوجدتهم مذهولين من شجاعتي، وازددت قدرًا عندهم، ومشيت بينهم صوب الفصل مشية الفاتحين… لكن…
لكنني أحسست أن هناك شيئًا غير صحيح!
اقترب (إيكاروس) من الشمس بجناحيه الشمعيين، فذابا، وسقط!
وأنا…
ذبت وسقطت!
(تقسيم المحافظة) تضع الميكب!
(تقسيم المحافظة) لم تضع من الميكب في ذلك اليوم غير (الأيشادو) الأزرق!
بشرة (تقسيم المحافظة) شاحبة… شديدة الشحوب… فيها آثار من حب الشباب، وبراعم حبوب!
عينا (تقسيم المحافظة) العسليتان فيهما حزن… حزنٌ قديمٌ معتَّق متجذِّر لا يندمل.
(تقسيم المحافظة) إنسانة… إنسانة وليست إلهة!
لم أبح بما رأيته؛ لسببين: أولهما أنها كانت، رغم كل ذلك، لا تزال جميلة… بل أيقونة للجمال والفتنة لا تتكرَّر. والسبب الثاني أنني ارتأيت أن أعظِّم لأصدقائي محاسنَها؛ لأزرع الندم في قلب من اتهمها بالقبح، ولأزداد عندهم مكانة، فأستمتع، ولو لأيام، بشعوري بأنني الأشجع بينهم، والوحيد الذي استطاع أن يكلِّم جميلة الجميلات دون أن ينخلع قلبه!
لكنها، كما ذكرت، لم تكن إلا أيامًا… أيامًا معدودات، ثم جاءني صديقي (زيزو) بالخبر القاتل.
أخو (تقسيم المحافظة) معنا في المدرسة!
أيُعقل هذا؟!
أيكون بيننا فردٌ من (العائلة المالكة) ولا أعلم بذلك؟!
تشوَّقت لرؤيته… بل وحملتني الأحلام إلى محطة أبعد… أن أصادقه، وأوطِّد علاقتي معه؛ لكي أكون قادرًا على الزواج بتقسيم المحافظة بعد ست سنوات (إن انتظرَتني)!
ورأيته…
أشار إليه صديقي في فسحة أحد الأيام التالية، ففغرت فمي اندهاشًا حتى كاد فكي السفلي ينخلع!
كان أخوها هو ذلك الفتى السمين قذر الثياب الذي يركض في الحوش دائمًا بـ (غشومية) وعشوائية مثل التكاتك، ويمازح أصدقاءه بفظاظة، ويبدو كنسخة مصغَّرة من (الشاويش عطية)!
أخذت أبحث في ملامحه عن ملامح تقسيم المحافظة، فلم أجد إلا لون البشرة القمحي والعينين العسليتين! وأخذت أبحث عن رقَّتها فيه، فكنت كمن يبحث عن حلاوة (المانجة الفَصّ) في (فَصّ توم)!
كيف تشكَّل هذا الكائن في رحمٍ تشكَّلت فيه (تقسيم المحافظة)؟!
وهل هذا هو ما تَؤول إليه مقادير عمل (تقسيم المحافظة) إذا أضيف إليها كروموسوم واي؟!
(الشاويش عطية)؟!
وكانت هذه هي النهاية… فلم تظهر (تقسيم المحافظة) مرةً أخرى، ولم يتبقَّ في المدرسة من جيناتها إلا أخوها الغليظ الفظ.
ولا أحسب أن أحدًا منَّا رآها مرةً أخرى إلى اليوم… لعلَّ (زيزو) رآها بعد ذلك بحكم الجيرة… لكن هذا أيضًا يظلُّ أمرًا غير مؤكَّد.
هل لِمَا سبق أي نصيب من الدقَّة؟!
بعد أن أتممت هذا المقال القصصي، حاولت أن أستخبر الذاكرة عن المزيد، فلم تُمِدَّني بشيء… بل زادني البحث عن التفاصيل تخبُّطًا وارتيابًا فيما كتبته! أكنَّا في المرحلة الابتدائية أم الإعدادية؟! وهل (تقسيم المحافظة) هي مَن سألتنا عن مهنتنا المستقبلية أم سِواها من حُور (التربية العملي)؟! إنْ هي إلا أشباح الذاكرة التي تُطِلُّ من بعيد، دونَ دليلٍ على أنها حقًّا وُجِدت سوى هذه الومضات الكهربائية التي هي والأوهام سواء في شرع الخلايا والمسارات العصبية التي تنتظِمُها!
ذكريات… أم أوهام؟ لا أدري… هي -على كل حال- تبهجني… فلأتمسَّك بها إذًا، ولأَعُدَّها، إذ يُعِدُّ الآخرون لدنياهم الثروات والحسان والبنين، ذخيرتي ورأسمالي… زاد المفلس، وعتاد من أصبح صفرَ اليدين!