أهم الاكتشافات الفلكية الحديثة
إن التطور الكبير في علم الفلك الحديث يرجع كُليةً إلى جهود وملاحظات الآلاف من مُراقبي النجوم من جميع أنحاء الأرض خلال تاريخ البشرية. وبرغم ذلك يوجد فقط القليل من اللحظات الفارقة في تاريخ علم الفلك، ومعظم -إن لم تكن كل- هذه الاكتشافات الفلكية الهامة كانت نتيجة لأجيال من العلماء الذين كانوا يعملون لإثبات أو دحض نظرية أو فرضية ما.
هناك بالفعل آلاف الاكتشافات التي تمت نتيجة حب الاستطلاع، وإعادة النظر في العقيدة العلمية، وإعادة تقييم الأفكار والأدلة على مدى الألف عام الماضية. وإدراج كل تلك الاكتشافات هنا ستكون مهمة مستحيلة؛ لذا سندرج في هذا المقال -وبدون ترتيب معين- أهم الاكتشافات الفلكية الحديثة نسبيًا، اكتشافات غيرت الطريقة التي ينظر بها العلم الحديث إلى الكون بالكامل، كما فعلت من قبل العديد من الاكتشافات القديمة.
إشعاع الخلفية الكوني الميكروي (Cosmic Microwave Background Radiation)
يمتلئ الكون بنمط منتظم من الإشعاع يعرف باسم إشعاع الخلفية الكوني الميكروي (Cosmic Microwave Background Radiation)، والذي تم اكتشافه مصادفةً من قبل اثنين من موظفي شركة (Bell Telephone) خلال عملهما على بعض تجارب اتصالات الأقمار الصناعية.
الآثار المترتبة على هذا الاكتشاف مؤثرة ومهمة للغاية، حيث إن تماثل الإشعاع يؤكد لنا أن الكون نشأ من حدث واحد ومنه تدفق كل شيء، كالسرعة والعجلة التي يتحرك بها تمدد الكون. وأيضًا بالنظر على المستوى الماكرسكوبي نجد أن المادة المرئية موزعة في الكون بانتظام وبالتساوي تقريبًا، مما يعطي تأكيدًا إضافيًا إلى حدوث الانفجار العظيم (Big Bang).
الطاقة المظلمة (Dark Energy)
نتيجة لجهلنا بالآلية الدقيقة أو القوى التي تسبب تسارع معدل تمدد الكون، تم اقتراح شكل من أشكال الطاقة في محاولة لتفسير ذلك، وأُطلقَ عليها “الطاقة المظلمة“.
وهذا الاكتشاف ليس مرتبطًا بطبيعة أو حتي وجود هذه الطاقة، بل ارتباطه بحقيقة اكتشافنا أن الكون يتمدد بمعدل متسارع، وكان هو التفسير لهذا التمدد. فطبيعة الطاقة المظلمة لا زالت مجهولة، وهذا سبب جدل كبير في الأوساط المتعلقة بالفلك، لكن من المتصور أنها أحد خصائص الزمكان.
في الوقت الحالي، نعتقد أن الطاقة المظلمة تستأثر بنسبة 74% من جميع صور الطاقة، مما يعني أننا في أفضل الأحوال نستطيع فهم 26% فقط من آلية عمل الكون.
المادة المظلمة (Dark Matter)
المادة المظلمة بمثابة اكتشاف عظيم آخر، حيث يبدو أنها تحدد تأثير الجاذبية داخل المجرات. وسبب افتراضنا لوجود المادة المظلمة هو أن السرعة المرصودة للنجوم أثناء دورانها حول مركز المجرة مختلفٌ بشكل كبير عما يجب أن تكون عليه عند حسابها.
تكمن المشكلة في أنه عند النظر لأي قرص مجرة (وهو المستوى الذي توجد فيه أذرع المجرة ويتوسطه مركز مجرة)، نجد أن معظم القرص يدور حول مركز المجرة بنفس السرعة تقريبًا، وهو أمر مستحيل وفقًا لحسابات تستند إلى قيم معروفة، وأيضًا نظرًا لحقيقة أن النجوم الخارجية أبعد كثيرًا عن القلب، يجب أن تدور حوله ببطء أكثر من النجوم القريبة من القلب.
يبدو أن المجرات مدمجة كليًا في شكل مادة غير معروفة حاليًا، وغير قابلة للاكتشاف، ومن المرجح أن تظل كذلك في المستقبل المنظور. ومع ذلك، فإن وجود هذا الشكل من المادة هو التفسير الوحيد لسلوك النجوم الغريب أثناء دورانها، ما لم تكن هناك بعض خصائص الجاذبية غير المكتشفة والتي لا تزال بعيدة عن العلم.
الكواكب الخارجية (Exoplanets)
كان هناك وقت يعتبر فيه مجرد طرح فكرة وجود كواكب خارج النظام الشمسي يُعتبر بدعة علمية، لكن اكتشاف الدكتور ألكسندر فولسزكان لأول كوكب من هذا النوع (51 Pegasi b) عام 1992 أثر على الطريقة التي ينظر بها الفلكيون إلى الكون، وخاصةً نظرتهم لكيفية تشكل النجوم.
على الرغم من ذلك، فإن معظم الكواكب المكتشفة خارج مجموعتنا الشمسية لديها أضعاف كتلة كوكب المشتري، ولذلك يطلق عليها “Hot Jupiters“، لأن مداراتها غالبًا ما تكون قريبة جدًا من النجمة الأم، لكن التكنولوجيا والتقنيات الحديثة جعلت من الممكن اكتشافنا لكواكب صغيرة، وبعضها تدور حول نجوم شبيهة لشمسنا.
اليوم، يوجد أكثر من 3000 كوكب معروف خارج المجموعة الشمسية، مما يدحض المبدأ العلمي السابق الذي يقول بأن “الكواكب هي الاستثناء وليست القاعدة”.
الثقوب السوداء (Black Holes)
كان من المتوقع وجود الثقوب السوداء منذ فترة طويلة، لكن لم يتم إثباتها إلا من خلال عمل الفيزيائي ستيفن هوكينج، فالثقوب السوداء ما هي إلا بقايا غير مرئية للنجوم الضخمة التي انهارت تحت تأثير جاذبيتها.
فالنجوم تتواجد في الحالة الطبيعية تحت تأثير قوتين متوازنتين، قوة الطرد نتيجة التفاعلات النووية ويكون اتجاهها للخارج، وقوة الجاذبية وتكون للداخل تجاه مركز النجم. وبعد موت النجم ونفاد وقوده اللازم للتفاعلات النووية، تكون قوة الجاذبية هي المسيطرة مما يؤدي إلى انكماشه، وإذا كان النجم ذو كتلة أكبر من عشرين كتلة شمسية فإنه يتحول إلى ثقب أسود، ويكون المجال الجذبوي بالقرب منه هائلًا جدًا لدرجة أنه يمنع فوتونات الضوء المرئي من الهرب، مما يجعله مخفيًا عن الأنظار ويستحيل اكتشافه.
ومن الصفات المميزة للثقب الأسود ما يُطلق عليه نقطة أُفق الحدث “event horizon“، وهي منطقة نظرية حول الثقب الأسود تعتبر بمثابة نقطة اللاعودة، حيث لا يمكن لأي جسم بعد عبوره لهذه المنطقة أن يهرب من الثقب الأسود مجددًا مهما بلغت سرعته، وإذا حدث واقترب نجم من الثقب الأسود بما يكفي يتم تمزيقه عند عبوره لمنطقة أُفق الحدث، مُطلِقًا كمًا هائلًا من الأشعة السينية وأشعة أخرى، وهذا هو السر الذي يمكننا من رصد وجود أو مكان الثقوب السوداء.
وقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن جميع المجرات الحلزونية، ومنها مجرتنا “درب التبانة“، تحتوي في وسطها على ثقب أسود، وبعض هذه الثقوب السوداء تبلغ كتلتها ملايين وربما مليارات كتلة شمسية.
النسبية العامة (General Relativity)
أحد تنبؤات النسبية هو أن الطاقة والكتلة شئ واحد، وبالتالي عند مرور الضوء بالقرب من جسم ضخم فسوف ينحني تحت تأثير جاذبيته، مع اختلاف مفهوم الجاذبية هنا عن مفهوم نيوتن.
فالجاذبية في المفهوم القديم عبارة عن قوة تخرج من الجسم تؤثر على الأجسام المحيطة، لكن جاء آينشتين في نسبيته العامة ليوضح أن الجاذبية تنشأ نتيجة أن الأجسام تؤثر على ما يُسمى”الزمكان“، وهو عبارة عن الأبعاد المكانية الثلاثة والبُعد الزمني، حيث تتسبب الأجسام بانحناء الزمكان مما يؤثر على الأجسام المحيطة، وحتى الضوء الذي يعبر بجانب الجسم، وبالطبع كلما زادت كتلة الجسم زاد ثنيه للزمكان وتأثيره على الأجسام المحيطة.
وقد ثَبُتَ أن هذا هو الحال مع كوكب عطارد، حيث لاحظ المراقبون أنه ليس في المكان الذي يفترض أن يكون موجودًا فيه، وذلك نتيجة انحناء الضوء القادم منه فنراه في مكان مختلف.
الانزياح الأحمر (Red-shifting)
منذ ما يقرب من مائة عام، تم اكتشاف أحد أهم النجوم النابضة وهو المتغير السيفيدي (Cepheid variable)، وقد مكّن ذلك ادوين هابل من إثبات أن درب التبانة ما هي إلا واحدة من مليارات المجرات الموجودة في الكون. وكان لهذه النجوم الفضل في ذلك، لأنها مكنتنا من قياس السرعة التي تقترب أو تبتعد بها المجرات الأخرى.
وتم ذلك عن طريق المقارنة بين الطيف الضوئي الذي استقبلناه من النجم مع الطيف الضوئي لجسم ساكن، حيث نجد أنه بابتعاد النجم أو المجرة عنّا يقل تردد الضوء الخارج منه عن القيمة النظرية، أي أن التردد الخارج ينزاح نحو التردد الأقل، وهو تردد الضوء الأحمر، وكلما زاد انزياح الضوء ناحية الأحمر كلما أشار ذلك إلى زيادة سرعة الجسم أثناء ابتعاده عنّا.
وأيضًا باقتراب جسم منّا ينضغط الضوء الخارج منه فيزادا تردده، أي أن تردده ينزاح ناحية التردد الأعلى وهو تردد الضوء الأزرق، لذلك تُسمي هذه الحالة بـ”الانزياح الأزرق”، وكلما زاد مقدار الانزياح دلّ ذلك على زيادة سرعة الجسم أثناء اقترابه، وهذه هي الطريقة التي عرفنا بها أن المجرة المجاورة “أندروميدا” تقترب منّا بسرعة 250 ألف ميل/الساعة، ومن المتوقع أن تصطدم بمجرتنا بعد 4 مليارات سنة.
انفجار أشعة جاما (Gamma Ray Bursts)
لمدة طويلة كنّا نجهل السر وراء نبضات أشعة جاما التي تصل إلى الأرض من كل مكان في السماء، لكننا اكتشفنا سبب ذلك خلال العقدين الأخيرين، فعندما تنهي النجوم الضخمة حياتها، يحدث ذلك باستعراض عظيم ينفجر فيه النجم مُطلِقًا كمًّا هائلًا من الطاقة قد يغطي على المجرة المستضيفة للنجم لمدة شهور، ويُطلق على هذا الانفجار “Super Nova“، وتصل تلك النبضات إلى الأرض، لكن ذلك يحدث ربما بعد بلايين السنين لبُعد تلك النجوم عنّا.
قد تتكون أيضًا عندما تتحول بقايا النجوم العملاقة بعد انفجارها إلى ثقب أسود أو نجم نيتروني، ولحسن الحظ أن أغلب تلك الأحداث، خاصةً التي ينتج عنها أشعة جاما قوية، تحدث خارج مجرتنا، فإصابة مباشرة للأرض من أشعة جاما قوية قادرةٌ على إبادة جميع أشكال الحياة.
الانفجار العظيم ونظرية التضخم الكوني (Big Bang and Inflationary Theory)
الأصل الذي جاء منه كوننا بشكل ما لا يمكن تعقبه، لكن على الرغم من ذلك فإن نظرية الانفجار العظيم تظل أفضل نموذج مُقترح، ويبدو أن التطورات الحديثة في علم الفضاء وعمل محاكاة بالكمبيوتر تؤكد أن الكون نشأ من نقطة لا نهائية الكتلة والكثافة تُسمى نقطة التفرد “singularity“، يمكننا أن نتتبع الكون رجوعًا حتى نصل إلى تلك النقطة، لكن قوانين الفيزياء التي نعرفها غير صالحة عندها.
يمكننا اعتبار التأكيد المبدئي لنظرية الانفجار العظيم اكتشافًا مميزًا، لكن يظل هناك الكثير من عدم اليقين، ومن شبه المؤكد أنّ أصل الكون لن يُعرف بأي درجة من درجات الدقة أو اليقين.