أنطونيو فيفالدي: الراهب الأحمر
Antonio Vivaldi
مدينة البندقية الإيطالية، هذه المدينة الساحرة المفعمة بالجمال أينما وقعت عيناك، فيها جمال البحر الأدرياتيكي الذي يغمر شوارعها، والتراث الفني والحضاري المتنوع المتاخم لكل جدار فيها، يزين شوارعها ذلك المعمار المتأصل الذي يضاهي نظيره الروماني؛ بدايةً من ميدان سان ماركو وكنيسته ذات الجدران المطلية بالذهب، إلى كنيسة سانتا ماريا – ذات الشكل ثماني الأضلاع، وذلك يعكس جانب التدين لدى سكانها منذ نشأتها.
شهدت البندقية استقرارًا سياسيًا ورخاءً اقتصاديًا خلال عصر النهضة، لم ينل منها لا وباء الطاعون الذي اجتاح أوروبا حينها، ولا حتى سقوط القسطنطينية، ذلك الرخاء الاقتصادي والإطلالة على البحر الأدرياتيكي المميزة بالمناخ اللطيف، خلقت بيئة مثالية -بجانب العراقة والمعمار المتأصل- مما ساهم في ازدهار الحياة الفنية والأدبية والموسيقية.
لذلك ليس من الغريب أن يعتبر سكان البندقية كل تلك العوامل منحة ربانية لجعل البندقية مركزًا دينيًا، حضاريًا وتجاريًا، وهذا ما جعل روح الثناء والشكر تخيّم على مدينة البندقية، ويتضح ذلك جليًا في جوهر الأعمال الفنية، وبالتحديد الأعمال الموسيقية لديهم.
فنرى سيطرة الموسيقى الدينية -الكورال- على الجو الموسيقي العام تحت إشراف جيوفاني جبرييلي وكلاوديو منتيفردي، إلا أن رغبة الأخير في تغيير النكهة الدينية للموسيقى حينئذٍ اتفقت مع النزعة التجارية لدى أشراف البندقية، فقاموا بإنشاء أول دار أوبرا في التاريخ، مما جعل من البندقية العاصمة الأوبرالية لأوروبا.
بعدها تأثرت موسيقى البندقية بمؤلفي الباروك، وأشهرهم كان ليجرنسي الذي أعطى للسوناتا بناءً وشكلًا، ليأتي بعده المُلهم كوريلي، واحد من أمهر عازفي الكمان ومن أفضل قادة الأوركسترا، مما خلق الأفق أمام أنطونيو فيفالدي.
نشأته
أنطونيو لوتشو فيفالدي هو ملحن وعازف كمان إيطالي -بل واستثنائي- من مواليد مدينة البندقية، ذلك الموسيقار وعازف الكمان كانت أول أيام حياته في اليوم الرابع من مارس عام 1678.
تربى فيفالدي في بيت لأب وأم -جيوفاني باتيستا وكاميليا كاليكيو- من عازفي كنيسة سان ماركو، فكانت البيئة المناسبة لبزوغ نجمه، فتعلم الأصول الموسيقية لعزف الكمان من والده المحترف.
ومن هنا بدأت حياته الموسيقية المبكرة، وبطبيعة حال أسرة من عازفي الكنسية؛ لم يكن غريبًا أن تُعِد تلك الأسرة ابنها للرهبنة، ليتدخل الشغف ويحسم هذا التعارض، ليحترف فيفالدي الموسيقى، وإن لعبت التربية دورها في بدايته الموسيقية بالتركيز على الموسيقى الدينية.
بدايته الفنية
في عام 1703 م عُين مشرفًا على الفرقة الموسيقية في مستشفى الرحمة -دار الأيتام التي ألف فيها معظم أعماله على مدار ثلاثة عقود- قائمًا على تعليم الفتيات العزف وأداء الكونشرتو، وقد ألف فيفالدي لهم العديد من النوتات الموسيقية الدينية مما جعل الدار محط أنظار الجميع، بعد تعيينه بعامين بدأ نتاجه الموسيقي من 12 سوناتا معزوفة بكمانين وتيشللو، إلا أنه تم إقصاؤه من دار الأيتام في عام 1709 بإجماع من المديرين لعلاقته المتوترة معهم.
وفي نفس العام كانت المجموعة الثانية من 12 سوناتا بكمان وتشيللو، ومن بعدها بدأ غيث فيفالدي، وأنا لا أبالغ عزيزي القارئ إذا قلت أن غيثه أشد من غيث غابات الأمازون في مايو، ففي مدة الست سنوات ألف عازف الكمان فيفالدي اثنين من أفضل أعماله وهما كونشيرتو الإلهام الموسيقي “L’estro Armonico” وآخر بعنوان الإسراف ” La stravaganza “، ناهيك عن أربعة أوبراليات منها ” أرسيلدا: ملكة بونتو” والتي حققت نجاحًا مدويًا.
تطور بنيته الموسيقية إلى الفصول الأربعة
بعدها انتقل إلى مركز أكثر أهمية حينما تولى قيادة الفرقة الموسيقية للأمير فيليب في مدينة مانتوفا، فعمد ذلك إلى تطوير بنيته الموسيقية حتى وصل ذلك التطور إلى بنيته النهائية بعدما انتقل إلى روما باستدعاء من البابا بندكت الثالث عشر ليعزف له، ليعود من جديد إلى البندقية في عام 1725 ويقدم لنا أربعة أعمال أوبرالية في عام واحد.
في تلك الفترة كتب “الفصول الأربعة” وهي من أكثر أعماله روعةً وشهرة إن لم تكن الأشهر، استخدم أربعة من آلات الكمان لوصف فصول السنة الأربعة وكان من الواضح جليًا تأثره العميق بريف مانتوفا، حيث رسم لنا الريف رسمًا دقيقًا؛ الجداول الجارية، الطيور المغردة وحتى أزيز البعوض، مثّل لنا فيفالدي الطبيعة على الأوتار، وموسيقاه كانت تمثل الإحساس، فنجده ينقل لنا موسيقى تبعث بالدفء في الشتاء، الحركة والانطلاق في موسيقى الصيف، اضطرابات الخريف، صفاء ونقاء الربيع، وكأن الكمان قد حققت ذاتها مع فيفالدي، أعطاها القدرة والإبداع لتعطينا رونق الإحساس.
فسرعان ما تأخذ الموسيقى بجسدك إلى النشوة من سلاسة النغم ونعومة اللحن، وما إن تنتقل إلى حركة جديدة حتى ينتفض قلبك متراقصًا مع كل نغمة من سرعتها ودقتها، ويغرق عقلك في التفكير في مدى عبقرية المؤلف وبراعة العازف وسحر الآلة الموسيقية.
تلت الفصول الأربعة بضعة كونشرتو حتى كان الأخير له عام 1729، عاد مجددًا إلى فرقة ديللا بييتا سنة 1735 ليزاول وظيفته الأصلية، ليستقر لبعض الوقت في البندقية قبل أن يقرر السفر إلى فيينا في عام 1741، إلا أنه توفي بعد وصوله بحوالي شهرٍ واحد في يوم 28 يوليو من عام 1741 وهو في حالة يرثى لها.
نوعية موسيقاه
موسيقى فيفالدي كانت تمتاز بأنها متطورة في ذاتها حيث كان يستعمل الريتورنللو، وهو ما أصبح شائعًا في أداء الحركات السريعة للكونشرتو فيما بعد، والذي نشد به نفي التناقضات -القائمة عندئذ- بين العزف المنفرد والأفكار والألحان الجديدة، فكان هناك مقطع يتم عزفه بطريقة تكرارية من قبل كامل أعضاء الأوركسترا عند بلوغ مفاتيح معينة في المقطوعة.
ويتضح هذا في الفصول الأربعة حيث كانت أول أربعة كونشرتو نُشرت في المجموعة المندرجة تحت اسم الصراع ما بين العزف المنفرد والابتكار، ولهذا كانت مقاطع فيفالدي الموسيقية يغلب عليها أداء العازف المنفرد والابتعاد عن الشكل الكلاسيكي للكونشرتو الذي وضع قواعده كوريلي التي كانت موسيقاه أشبه بقطع الفسيفساء التي يُنظر جمالها عندما تجتمع مع بعضها، وهذا لاعتماده على الكثير من النغمات التصاعدية ليشكل مشهده الموسيقي.
كما تميزت مقطوعات فيفالدي بالبهجة والحماسة وربما السرد القصصي كما في كونشيرتو ” L’Imperatore “.
الراهب الأحمر
وجدير بالذكر أن فيفالدي أول من أدخل على الكونشرتو أسلوب الحركات، سريع ثم بطيء ثم سريع مجددًا، ويعد يوهان سبستيان باخ من أكثر المتأثرين به وخاصةً في استخدام الريتورنللو، إلا أنه أقحم البيانو في المزيد من القطع الموسيقية جاعلًا الحركة البطيئة مسيطرة على المشهد مما يضفي عليها مزيدًا من الراحة ويحيك المزيد من نسيج الإحساس.
في الأخير إنه فيفالدي، ذلك الراهب الأحمر-مثلما لُقب- الذي غادر الدنيا تاركًا الكثيرين يتأملون أعماله التي أصابتهم بالذهول وكأنه قد وقّع عقدًا مع الشيطان؛ فتشعر وكأن أعماله سحرٌ أسود يجلب السعادة والصفاء، يستأثر بنفوس السامعين ويسوقهم إلى إلهام لطالما نشدوه.