أقدام باردة
هو لا يعرف شيئا عن الحبّ، ولكنّه يعرف تمامًا كيف يعيش وما يجب عليه فعله، هو شاب أسمر، نحيف، عظام فكّيه بارزة وكأنّ ثمّة من اجتثّ منهم العضل، ليترك تجويفًا خفيفًا يوحي بسحنة مرهقة، هو وسيم علی كلّ حال لو أخذنا بعين الاعتبار رأي غالبية نساء القرية.
يستيقظ إدريس كلّ صباح، وغالبًا ما يكون الجوّ باردًا وقتها في تلك الجبال، حيث تجتمع قرابة عشرة منازل لتشكّل قرية، مع ذلك يعتقد المتساكنون أنّ المكان صار مكتظًا! قبل عقود مضت، لم يكن في القرية غير منزلين، أمّا المنازل الأخری المتناثرة هنا وهناك علی مسافات متباعدة لدرجة أنّ أصحابها خرجوا عن صفة الجيرة، ولا تُذكر الأسماء الأولی لأصحابها، بل يذكرون ويُنادی عليهم بلقب العائلة، وهذا الفِعل إقرار بأنّهم غرباء ولو بالمسافة فقط وكلّما كانت منازلهم أبعد، كانوا أكثر غربة، ووجبت الحيطة في التعامل معهم…
الآن، وبعد عدد لا بأس به من الزّيجات المختلطة بين هذه العائلات ذوات المنازل البعيدة، أو قُل المنازل ذوات العائلات البعيدة، اجتمعت هذه المنازل والعائلات في مكان واحد، وأصبحت قرية ممتدّة، بعثت في الجبال روحًا، ملأت وحشة المكان بضوضائها، وصار المتساكنون باجتماعهم أكثر دفئًا من ذي قبل، لكنهم مازالوا مع ذلك يعتقدون في غربة تلك المنازل البعيدة عنهم، ولأنّ لا صوت ولا حركة تصلهم منها ظنّوا أنّ تلك المنازل جامدة، لا روح فيها، وأنّ أصحابها لا يمرحون ولا يبعثون الحياة في هذه الربوع، إنّهم مملّون تعساء ..
إدريس وحده كان يعرف أنّ هذا غير حقيقي، وأنّ تلك المنازل التّي توحي أنّها غارقة في الصمت، مليئة بالصّخب وأنّك كلّما اقتربت منها ازددت يقينًا أنّ لها سعادتها الخاصّة، التّي لا تشي بها غير عين وأذن راعٍ مثله هائم آناء النهار مع قطيعه.
وكما قلنا أنّ إدريس يستيقظ كل صباح، يغسل وجهه بماء شديد البرودة، واختيار درجة برودة المياه ليس عبثًا، فالرجال الأشدّاء يغسلون وجوههم وأطرافهم بالماء البارد شتاء، هذا دليل علی شدّة بأسهم، وعلی قدرتهم علی تحمل مشاقّ الحياة، أمّا تسخين المياه فهو صنيع النّساء والأطفال والشيوخ لا يليق برجل مثله!
يكره هذا الإثبات الرّخيص للرجولة، لذلك كان كلّما همّ إلی الوادي أثناء رعيه للقطيع، لا يتردّد لحظة في الكشف عن ساقيه حتّی الركبة، وإغراقهما في مياه الوادي، وقد لا تعرفون أنّ مياه الوادي العميقة شتاء، تكون دافئة جدًّا رغم الجوّ البارد.
كان إدريس فخورًا بنفسه كلّما فعل هذا، إنّه يتمرّد إنّه يتملّص من القواعد .. إنّه يسخر منهم، وكانت هذه النشوة بإنصاف ذاته، وبالانتعاش ببعض المياه الدافئة من أعظم ما يفخر به في أعماقه، ومن أعظم ما يخجل به خارجها…
لطالما كان يتساءل: كيف يكون الدفء خطيئة رجل؟!
يظلّ مع أفكاره هذه ساهمًا طوال النهار مراقبًا قطيعه، والحقّ أنّه ليس قطيعه وحده بل هي مجموعات صغيرة من الخِراف لمُلاّك متعدّدين، يقوم بالرعي عنهم ويحصل علی أجره مقابل ذلك، فإذا قام بتجميع هذه المجموعات الصغيرة صارت قطيعًا كبيرًا، وكان له عشرة خِراف من مجموع القطيع، جمعها من الأشخاص الذّين لا يستطيعون دفع أجرته نقدًا، فيُجازونه بخروف كل عام مقابل ذلك، وحتّی من لا يقدر علی هذا فيرضی منهم بكِسرة خبز ساخنة وحبّات زيتون يأخذها معه كل صباح، مع الوقت ولأنّ طبيعة المكان والعمل لا تمكّنه من الاختلاط بالنّاس وتكوين علاقات اجتماعية، من ثمّ خلق مشاعر إنسانية فيما بينهم، صرف إدريس حاجته هذه إلی قطيعه، فصار مع الوقت يكنّ للخِراف مشاعر مختلفة، ورغم تشابهها بالنّسبة للجميع فإنّ إدريس كان يری أنّ لكل خروف، ميزة مختلفة وروح تختلف عن خروف آخر! لاحظوا أنّني لا أريد أنّ أقول “شخصية مختلفة” حتّی لا نعتقد في أنسنة هذه الدّواب، ولكن لنقل شخصية علی سبيل الاستعارة، وإدريس لا يفعل هذا لكسر الملل، بل يتماهی مع هذا المجتمع الصغير الذي أحاط به نفسه، فبات يكنّ الحب لخرفان ويضجر من خرفان أخری، بعضها يجدها مرحة والأخری مملّة ورغم أنّ جميع الخِراف كانت علی علی مسافة متساوية منه إلّا أنّه كانت له مشاعر أكثر حميمية مع خِرافه الخاصّة التّي يمتلكها، بل كان أشدّ حرصًا عليها.. البقيّة خِراف غريبة عليه.. ربّما المسافة مع الآخرين نحن من نصنعها بأنفسنا، فليس كلّ بعيد بعيد ولا كلّ قريب قريب.. المسافة الشعورية من الآخرين تنطلق من الجغرافيا التّي تتشكّل داخلنا..
ولكنّ الشعور المشترك الذّي كان يضمره للقطيع كلّه علی حد سواء هو الحسد. كان يحسد الخِراف علی الصّوف الذي يكسي جلدها فلا تضطرّ للاغتسال بالماء البارد! كان يحسدها أيضًا لأنّها قادرة علی الالتصاق ببعضها فتخلق دفئًا مشتركًا في أكثر أيام الشتاء بردًا، ما لا تستطيع فعله تلك المنازل المتناثرة التّي تخشی الاجتماع، وتحتفي بوحدتها التّي تجعلها متّهمة بالبرودة والتعاسة والبؤس من قِبل تلك المنازل التّي تجاورت مع الوقت…
ولكنّه سعيد.. سعيد لأنّه استطاع أن يكون علی مسافة من الجميع، ما جعله يری الصّورة مكتملة في إطارها.
استطاع دون غيره أن يكون محايدًا في الحكم علی الأمور وعلی الأشخاص، فلم تكن الفكرة التّي كونها عنهم هي نفسها فكرتهم عن بعضهم، وهذا أمر يُحسب له بعد سنوات من الرعي ومن التأمّل في البراري. والحقّ أنّ التأمّل لم يكن مقصودًا بل هو فرض لا بدّ منه.. لا يمكن أن يكون راعيًا ولا يتفاعل مع ما يخترق حواسه، و لكنّ ألذّ تلك اللحظات التّي يمتنّ فيها لعمله هذا هي تلك الفترات التّي تتزاوج فيها الخراف. كان يستمتع بمراقبتها، فلا الخِراف كانت تخجل بالمجاهرة وهذا طبعها، ولا إدريس كان يخجل من التلصّص عليها وهذا طبعه أيضًا..
وما أشدّ تلك اللحظات التّي كانت تجتاحه فيها رغبة جامحة في أن يأتي ما تأتيه الخراف أثناء تزاوجها، ربّما لم يكن يحتاج الحب، وهو لا يعرف شيئًا عن الحبّ.. ولكنه يعرف كيف يعيش، أو ربّما كيف يكون علی قيد الحياة. أما فنّ العيش هذا فمازال كنف الغموض، لكنّ هذا الغموض تحوّل إلی هوس مع الأيام، إذ لم يعد يری تزاوج الكائنات الحيّة فقط .. إنّما تترائی له الأشياء كلّها وكأنّها تتزاوج أيضّا! كلّ جسمين ملتصقين بالنّسبة له يمارسان الجنس، حتی لو كانا صخرتين!
ذات يوم قرّر أمرًا.. ولعلّها المرّة الأولی التّي يقرّر فيها شأنًا من شؤون حياته المصيرية، قرّر الزواج..
و كان له ذلك.. تزوّج إدريس فتاة من من تلك العائلات أصحاب البيوت المتناثرة، متواضعة الجمال، لا تخبر ملامحها بشيء، كأنما هي وعاء للتعبئة و للاحتواء، لا تفعل ولا تنفعل، ولا تردّ الفعل عن خير يكتنفها أو شرّ يحلّ بها، ولكنّها طيبة.. طيّبة حدّ السذاجة، ولعلّ طبعها هذا ساعد إدريس علی المحافظة علی صمته وهدوئه وهو ما اكتسبه من سنوات وحدته بعيدًا عن الاجتماعات البشرية ولم يكن شعوره نحوها واضحًا له ولا يختلف زواجهما كثيرًا عن زواج مختلط بين زوجين من جنسيتين مختلفتين، حتی أنّه كان من الضروري أن يسأل العروس في أول أيام زواجهما عن عادات عائلتها وعن طريقة طبخهم، حتی يجسّ قدرة الفتاة علی الاندماج في العائلة الجديدة!
حتی الآن لم يكن إدريس يشعر بأي مشاعر تجاه الفتاة.. حتی أنّه لم يكن يكنّ لها نصف المشاعر التّي يكنها لقطيعه…
هو أبدًا لا يشعر بأيّ احتقار لها ولا حتّی يقصد في داخله أن يفضّل الخِراف علی زوجته.. ولكن ربما لأنّه لم يكن يجد الوقت لقضائه مع زوجته… ولا حتّی كان له معها خلوة كافية تجعله يتأملّها فتخترق حواسه.. مازالت غريبة عنه تمامًا.. ورغم عدد مرّات لا بأس بها من ممارسة الجنس معًا.. لم تكن المسافة بينهما قد تذلّلت.. كان يكنّ لها شبه المشاعر التّي يكنها أصحاب القرية لتلك المنازل المتناثرة والبعيدة..
ولكنّ الأمور كانت تسير علی ما يرام، هو يفعل ما يفعله الجميع، علی الأقلّ تزوج وحصل علی غرفة منفردة له ولزوجته داخل بيت العائلة، بعد فترة سيكون له طفل كالجميع، وهو علی الأقلّ توقّف عن مراقبة الخراف بشراهة أثناء تزاوجها، بل صار الأمر عاديًا بالنسبة له ولا يستحق كل ذلك الهوس الذّي اجتاحه سابقًا..
لولا تلك الحادثة التّي أفسدت عليه عيشه، وهدمت فكرة إستقراره، وجعلته يندم ألف مرة علی زواجه..
حلّ فصل الشتاء.. هو أوّل شتاء يمرّ عليه بعد الزواج..
ذات ليلة، و بعد العشاء وعندما همّ الزوجان بالاستعداد للنوم علی سريرهما، لمست الزوجة بقدميها الباردتين جسد إدريس..
وفي لحظة فاصلة أيقظت فيه كلّ ذلك الكره المَرَضي للبرد، ولتلك الصفعة التّي يلتقي فيها هواء جبلي بارد بوجه ساخن، في هذه اللحظة كره زوجته أيضًا، كره لمسها وكره قدميها الباردتين، كره هذا الجسم الذّي يضطجع قربه، وقرّر للمرّة الثانية قرارًا مصيريا، غدًا سيطلّق هذه المرأة، غدًا سيطلب من أمّه إعادة هذه المرأة إلی بيت أهلها دون رجعة…
ولسوء الحظ، عارضت أمّه الأمر، خاصّة أنّه لم يخبرها السبب الحقيقي، واكتفی بالقول أنّه لا يريدها، ولا يرغب بالعيش معها، وأمام معارضة أمه قام إدريس بهجر زوجته، حتی ترجع أمه عن معارضتها وترضخ لرغبته…
لم يزد الهجر عن شهر حتّی فارقت الزوجة الحياة بعد أن أجهضت جنينها الأوّل ولم تكن تعلم بحملها، مما تسبّب لها في نزيف حاد فارقت علی إثره الحياة..
ورغم أنّ إدريس أظهر أمام النّاس بعض الحزن، وخاصة أنه فقد معها جنينًا كان من المفترض أن يكون ابنه المنتظر، إلا أنه كان سعيدًا في داخله، أخيرًا تخلّص منها بلا ذنب.. تخلّص منها وهو بريء، لقد كانت قدماها الباردتان منذ البداية دليلًا علی أنّ جسدها ينذر نفسه للموت قريبًا، وأيّ جسم يكتنز ذلك البرود غير الجثث!
ولأنّ العائلة أشفقت علی خسارته، لم تتأخّر كثيرًا في إيجاد زوجة أخری لإبنها تنسيه مصابه، وكان له ذلك..
ولم يختلف شعور إدريس تجاه الزوجة الجديدة عن زوجته الأولی كثيرًا، غير أن هذه الزوجة الثانية كانت ثرثارة جدًا سليطة اللّسان، لا تخجل من قول شيء، حتّی أنّها كانت تعبّر عن إعجابها بممارسة الجنس، ما يعتبره الرجال في تلك القرية وقاحة من المرأة ودليلًا علی سوء التربية! ولكنّ إدريس لم يكن يهوّل الأمر كثيرًا، وخاصّة أنّها كانت تكسر وجومه، وتملأ صمت البراري الذي يسكنه منذ سنوات من الرعي في الخلاء…
وكانا ينامان معًا ذات ليلة من ليالي الشتاء الأولی، حتی قفزت الزوجة فجأة من مكانها صارخة: قدماك باردتان!
لم يستوعب إدريس ما قالته زوجته أوّل مرّة، وظل لدقيقة صامتًا مصدومًا، حتّی كرّرت له الزوجة علی مسامعه، قدماك باردتان، ألم تسمع؟ عليك تدفئتها، أو اجعلهما بعيدتين عنّي..
كانت تصرخ بسلاطة لسانها المعهودة و كان إدريس يجترّ الحادثة ذاتها مع زوجته المتوفيّة، تذكّر كيف كره تلك المسكينة وهجرها لهذا السبب تمامًا، لهذه الحقيقة التي كشفتها له هذه الزوجة، قدماه باردتان، هو الذّي يكره البرد، تُری هل اكتشفت زوجته السابقة أنّ قدميه باردتان هي أيضًا؟ و لكن لماذا لم تخبره بذلك؟ لماذا رضيت أن تكون الضحيّة في الوقت الذي كان بإمكانها الدفاع عن نفسها فتواجهه بحقيقته هو الآخر..
للحظة شعر أنّه ليس إلّا بيتًا بعيدًا غريبًا عن دفء قرية مكتظة، بيتًا يعتقد الناظر إليه أنّه بارد لا روح فيه مليء بالتعاسة والملل..
وهو بعد سنوات من الرعي ومن اكتشافه لحقيقة تلك المنازل التّي بها حياة جميلة كأيّ منزل آخر لم يستطع أن يقترب من زوجته الأولی.. لم يستطع أن يكسر الغربة والبعد الذي كان بينهما، فلعلّه إن فعل لَاكتشف فيها دفئًا وألفة تُنسيانه برودة قدميها، ليُصبح جسدها مجرد حُكم مسبق يسقط بالحبّ وبالتدقيق في أعماقها…
بعد سنوات من إغراق قدميه في قعر الوادي شتاء حيث المياه الدافئة التّي لا يفصح عنها السطح، لم يستطع أن يغوص في عمق زوجته، فظلّ زوجًا سطحيًا لا يجيد غير التذمّر..
في الغد استيقظ إدريس، ولكنّه لم يغسل وجهه بالماء البارد هذه المرّة .. بل سخّن الماء كما لم يفعل منذ سنوات، و منذ أن كان طفلًا.. لن يكون عليه منذ الآن إخفاء كرهه للماء البارد.. ولبرودة كل شيء.. لن يكون باردًا.. أو يُشعر الآخرين أنّه كذلك.. سيذهب للمراعي مليئًا بالدفء والثقة.. وسيعود ليحتضن زوجته للمرّة الأولی…