الوصفات الكلاسيكية في المطبخ الاقتصادي: المدرسة الكلاسيكية في الاقتصاد

علم الاقتصاد لديه تأثير كبير على مختلفِ مناحي الحياة، فهو أحد المحرِّكات الرئيسية لحياةِ الشعوب، وأولئك الذين قاموا بتطوير الفكر الاقتصادي على مدار التاريخ لا تزال أفكارهم مؤثِّرة حتى بعد قرون من وفاة بعضهم.

إذا ما تحدَّثنا عن تاريخ الفكر الاقتصادي، فإنَّه لا يوجد مدرسة من مدارس الإقتصاد رفضت هذا العلم بآراء ونظريات ومفكِّرين عظام كـ المدرسة الكلاسيكية تلك المدرسة التي أسَّست بحق هذا العلم، ورسمت ملامحه التي هو عليها الآن.

ولكي تتضِّح لنا الإسهامات التي قدمها لنا رواد ومفكرين هذه المدرسة، دعونا نتعرف معا على أبرز علمائها وأكثرهم شهرة في الأوساط الإقتصادية:

● آدم سميث (Adam Smith) 1723-1790

“في بداية الخلق كان آدم، و عند الكثيرين فإنَّ الاقتصاد في شكله الحديث قد بدأ مع آدم سميث.” |د. حازم الببلاوي|

لم أجد أبلغ من هذه المقولة حتى أبدأ بها حديثي عن هذا الفيلسوف والاقتصادي الأسكتلندي الأصل؛ الذي أعطانا أفضل كتاب في علم الإقتصاد على الإطلاق (ثروة الأمم أو بحث في طبيعة و أسباب ثروة الأمم).

إنَّ هذا الطرح الاقتصادي العظيم الذي خَطّته أنامل هذا الفيلسوف، قدّم لنا تركيبة متكاملة عن الاقتصاد، ووضع الأساس أو الدعائم التي بُني عليها علم الاقتصاد بشكله الحديث.

إعلان

وعلى الرغم من أنَّ آدم سميث أثناء كتابته لهذا الكتاب لم يذكر أي إشارات أو دلائل تنص على أنّ أفكاره الإقتصادية الواردة هنا ليست حصرية أو مبتكرة؛ بل إنَّها نتاج لأفكار غيره من الفلاسفة القدماء الذين سبقوه في الحضارات القديمة، إلا أنَّ ذلك واضحٌ وضوح الشمس، فأغلبية الأفكار التي نص عليها كتاب ثروة الأمم قد وُجِدت من قبل في كتابات العديد من المفكرين لعل أبرزهم المفكر الشهير ومؤسِّس علم الاجتماع “إبن خلدون”، فمن يقرأ كتاب المقدِّمة لإبن خلدون الذي كتبه منذ قرون عدة يكتشف حجم التشابه الكبير بين أفكاره وأفكار آدم سميث، وهو ما يؤكد لنا أن ما جاء به سميث هو مجرَّد تطوير و نقل لأفكار هذا المفكِّر الإسلامي وغيره من الفلاسفة والمفكِّرين السابقين.

ولكننا لا ننكر بالطبع الأهمية الكبيرة لآدم سميث في علم الاقتصاد، حتى أنّ الأغلبية تعتبره الأب الروحي للاقتصاد السياسي، و من المفارقات الغريبة عن سميث أنه وبرغم اهتمامه الكبير بالمشكلات الاقتصادية، إلَّا أنَّه وبعد دراسته الجامعية وامتهانه لمهنة التدريس أصبح أستاذًا للمنطق والفلسفة الأخلاقية، ولم يمتهن أبدًا تدريس علم الاقتصاد كمنهج مستقل كما أنه في الأساس لم يدرسه بشكلٍ منفصل عن الفلسفة، و بغرض التعرُّف وبشكل أكبر على إسهامات هذا الفيلسوف في علم الاقتصاد دعونا وبطرؤقةٍ مختصر نشرح أهم الأفكار التي وجدت في كتابه ثروة الأمم على شكل نقاط.

● نظريات آدم سميث وأفكاره الاقتصادية:

تقسيم العمل عند آدم سميث:

استطاع سميث ومن خلال مثاله الشهير عن مصنع الدبابيس؛ الإثبات بأنَّ تقسيم العمل وتخصُّص كل عامل بشيء معيَّن من شأنه أن يضاعف الإنتاجية بنسبة كبيرة جدًا .

كما أنَّ نظرية تقسيم العمل الخاصة بسميث لا تقتصر فقط على العمال أو داخل المدن فحسب، بل إنها تمتد إلى تقسيم العمل بين البلدان، ووفقًا لذلك فإنَّ التجارة الحرة بين البلدان وتخصُّص كل مدينة في إنتاج شيء معين من شأنه أن يعمل على اتساع الأسواق؛ وبالتالي تزايد ثروات الأمم وتحقيق الرخاء والازدهار .

وفي خضم مسألة التجارة الدولية وتقسيم العمل بين البلدان؛ جاء آدم سميث بنظرية أطلق عليها نظرية الميزة المطلقة، والتي تنص على أنَّ الدول يجب أن تستورد فقط المنتجات التي تمتلك فيها الدول الأخرى الميزة المطلقة في إنتاجها، بمعنى أنَّ من المفترض على الدولة قيامها بشراء البضائع من الدول التي تنتج هذه البضائع بتكلفة أقل، وبكميات أكبر من إنتاجها في الدولة المستوردة.

وهذه النظرية لم تكن موفقة إلى حد ما، فهناك اقتصادي آخر أثبت عدم صوابها وهو ديفيد ريكاردو والذي أعطى نظرية أخرى مناهضة لها سنتحدَّث عنها بشكل مفصل عندما نتطرَّق لإسهامات ريكاردو.

أيضًا، عند قراءة كتاب |ثروة الأمم| نجد فيه مصطلح اليد الخفية، وهو مصطلح تم إثارة الكثير من الجدل حوله، حيث أنَّ البعض خمَّن أن آدم سميث كان يقصد بأن اليد الخفية هي يد الله في الاقتصاد أي أنَّها ذات مغزى ديني، ولكن هذا الكلام لا يعبِّر عن الحقيقة بشكل دقيق فما قاله سميث عن هذه اليد يوحي بأنَّ لها معنىً آخر أكثر عمقًا وأقرب إلى الواقع منه إلى الخيال، وإليكم النص الذي ذكر فيه سميث يده الخفية هذه:

عندما يوظِّف كل فرد مقدارًا من المال ويعمل بجهد فإنَّه لا يفعل ذلك للمنفعة الجماعية، ولا يدري مدى تطويره للجماعة عند القيام بذلك ولكنَّه يتصرَّف تبعًا ليد خفية لم تكن جزءًا من نواياه، وبعد اتبَّاع مصلحته الشخصية فهو يُنمي ويطوِّر مصلحة المجتمع.

كما وقال: “عندما نحصل على طعام العشاء من الجزار أو الخباز لا ينبع ذلك من الخير الموجود بداخلهم ولكنه ينبع من اهتمامهم بمصلحتهم الشخصية، فنحن لا نتعامل مع إنسانيتهم ولكن مع حبهم لذاتهم.”

إنَّ الكلام أعلاه إذا ما دلَّ على شيء فإنه يدل على شيء واحد فقط؛ وهو أنَّ اليد الخفية لآدم سميث قصد بها الآلية التي تعمل بها الأسواق أي أن السوق لديها القدرة الكاملة على حماية نفسها بنفسها من الأزمات، ولها القدرة على إعادة حالة التوازن بين العرض والطلب مع مرور الوقت.

فالأفراد الذين يتعاملون في هذه الأسواق، سواء من خلال البيع أو الشراء لديهم دوافع شخصية ومصالح مشتركة تربطهم ببعض؛ وبالتالي فإنهم أثناء سعيهم لتحقيق مصلحتهم الشخصية فإنهم يحقُّقون مصلحة مجتمعهم بطريقة أو بأخرى، وهو بدوره ما سينعكس على الأسواق و يُحدِث نوعًا من التوازن فيها.

أيضًا هناك مبدأ آخر من المبادئ التي آمن بها سميث وهو مبدأ الحرية الاقتصادية، هذا المبدأ الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي والذي يعد سميث مؤسِّسه وبانيه، وإليكم هذا الاقتباس الذي يشرح لنا هذه الفكرة بالتفصيل:

“إن الحريَّة الاقتصادية توفر لنا أفضل العوامل الممكنة عن طريق عمل اليد الخفية، أما محاولة التدخل في هذه الحرية بفرض القيود و السماح للاحتكار بالتدَّخل فسيؤدي ذلك إلى أن نصبح أكثر فقرًا مما يجب، أما الحكومات وبحسن نية فسينتهي بها الأمر إلى زيادة الحالة سوءًا ولكن هذا لا يعني إمكانية الاستغناء عن وجود حكومات ولكن يعني تحديد دور لها بطريقة صحيحة.”

نستنتج مما سبق أن آدم سميث يرى بأن تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي يكون ضارًا في أغلب الأوقات، وأنه من المفترض أن يقتصر دورها على تحقيق المصالح العامه لأفراد المجتمع كتوفير القضاء العادل وتحقيق الأمن وإقامة المشروعات التي قد يصعب على الأفراد العاديين القيام بها.

وصحيح أنَّ آدم سميث ناضل من أجل إعطاء الحرية للأفراد في ممارسة نشاطهم التجاري بدون أي عوائق أو حواجز من قبل الدولة، ولكنَّه أيضًا قد هاجم بعض التجار و أصحاب المهن الذين قد يفرضوا بعض القيود التي من شأنها أن تعيق الحرية الإقتصادية، فالقيود على النشاط الاقتصادي قد تأتي من قبل الدولة وقد تكون من جانب أطراف أخرى كالهيئات والمنظمات التجارية. باختصار أراد سميث التخلُّص من العوائق والقيود من كل الجوانب والاتجاهات.

ولغرضِ عرض النسبة الأكبر من الأفكار الاقتصادية لآدم سميث سيكون من المفيد أن نعرف النظرة التي كان ينظر بها إلى الثروة، وهي نظرةٌ مغايرة تمامًا لنظرة وأفكار الفلاسفة والمدارس التي سبقته.

فبينما كان يعتقد هؤلاء بأن ثروة البلد تُقاس بما لديها من ذهب وفضة، ويميلون إلى فكرة أن تكون الدولة مصدِّرة أكثر من كونها مستوردة حتى تحصل على المزيد والمزيد من المعادن النفيسة، فإن آدم سميث كان يرى بأنَّ الثروة الحقيقية ينبغي أن تقاس بمعايير مستوى معيشة المواطنين وليس استنادًا إلى حجم العملات والمعادن النفيسة، فليس من الضروري أن تترجم حقائب الذهب إلى حقائب من طعام.

كما وقال بأنَّ الثروات يجب أن تقاس من وجهة نظر المستهلكين في الدولة، وأدرك بأن الحافز الفردي والاختراع والابتكار كلها عوامل تعمل على إيجاد اقتصاد أكثر رخاءً وإزدهارًا، أي أنَّ على الدول القيام بتقييم ثرواتها من خلال مستويات الإنتاج والتجارة وليس بناءً على قيمة ودائعها من الذهب والفضة، وبهذا يكون قد أعطى فكرة جديدة للاقتصاد وهي مفهوم أو مبدأ “الناتج المحلي الإجمالي.”

وبالإضافة إلى كتاب (ثروة الأمم)، هناك أيضًا كتاب آخر قام سميث بتأليفه وهو كتاب “نظرية المشاعر الأخلاقية”، حيث إن هذا الكتاب كان قد سبق كتاب ثروة الأمم وتناول سميث فيه مدى اعتماد التواصل البشري على العاطفة والمشاعر.

ومن هذه الأفكار التي خطّها آدم سميث في كتبه؛ انطلق الفكر الاقتصادي الحديث أو ما يعرف بالتحديد “بالإقتصاد الكلاسيكي.”

لقد خلق سميث إرثًا كبيرًا للاقتصاديين الذين أتوا من بعده، كما وأنهم اقتبسوا نظرياتهم و أفكارهم من وحي أفكاره، فالاقتصادي الذي سأتحدَّث عنه لاحقًا قام بتطوير و تعديل بعض نظريات سميث و أنتج نظريات لا مثيل لها و لا تقل أهمية عن نظريات سميث نفسه.

• ديفيد ريكاردو (1832-1772) David Ricardo

يتميَّز ريكاردو عن غيره من الاقتصاديين بأنه استطاع أن يؤسس ثروة ضخمة، ويصبح من الأثرياء، ويحصل على لقب أغنى خبير اقتصادي في العالم.

و على الرغم من أنه لم يتلقَّ تعليمًا جامعيًا إلا أنه كان شخصًا ذكيًا للغاية وذكاؤه هذا أهَّله لأن يصبح من الأغنياء، حيث إنَّه عمل منذ كان في سن الرابعة عشر من عمره في الشركة التابعة لأسرته والتي كانت تعمل بالأوراق المالية (البورصة).

وحتى عندما طرده والده من الشركة وحرمه من الميراث لأنه تزوج من فتاة من غير ملّته، وترك معتنقة الدين اليهودي، استطاع أن يؤسِّس عملًا خاصًا به في مجال سمسرة البورصة وحقق نجاحًا باهرًا في عمله هذا، وعندما أصبحت لديه ثروة لا بأس بها دخل المعترك السياسي وحجز لنفسه مقعدا في البرلمان، وأصبح من ألمع خبراء الاقتصاد بل وحتى أنَّ خبرته فاقت غيره من العلماء الذين درسوا الإقتصاد وتخصَّصوا بتدريسه.

• إسهامات ريكاردو في التجارة والاقتصاد:

طوَّر ريكاردو نظرية الميزة المطلقة لآدم سميث، وذلك عن طريق وضع نظرية كاملة عن التجارة الدولية أطلق عليها اسم “الميزة أو المزايا النسبية” حيث أضافت هذه النظرية الكثير للتجارة الدولية وساهمت في إيجاد تقييمًا متفائلًا للأرباح المتوقعة من التبادل التجاري.

إنَّ جوهر الاختلاف بين نظرية الميزة المطلقة لآدم سميث ونظرية الميزة النسبية لريكاردو يكمن في أن آدم سميث عندما وضع نظريته الخاصة بالتجارة الخارجية لم يفرّق بينها وبين التجارة الداخلية، فتخصص الدولة بإنتاج سلعة معينة يتوقَّف على النفقات المطلقة أي أنَّ على الدولة أن تقوم باستيراد السلع من دولة أخرى إذا كانت تلك الدولة لديها ميزة مطلقة في إنتاجِ هذه السلع وتقوم بإنتاجها بتكاليف أقل من إنتاجها في الدولة المستوردة، فبحسب سميث ما الجدوى من أن تنتج الدولة سلعة في حال أنَّ استيرادها أرخص من إنتاجها داخليًا!.

أما ريكاردو فإنَّ له وجه نظر عكس ذلك فهو يرى وجود مصلحة من قيام التجارة بين البلدين دون الحاجة لأنَّ يكون هناك اختلاف في النفقات المطلقة، ويكفي أن يكون هناك اختلاف نسبي فقط بين التكاليف في البلدين حتى تحقق التجارة نفعًا لكُلًا منهما، فمثلًا قد تكون بعض البلدان لديها ميزة مطلقة وقدرة على إنتاج أكثر من سلعة و لكنها تحقق فائدة من دخولها في التجارة مع دولة أخرى أقل منها كفاءة في إنتاج السلع.

 

إعلان

مصدر كتاب أفكار جديدة من اقتصاديين راحلين كتاب دعوة غداء كتاب دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي
فريق الإعداد

إعداد: رندا الحمادي

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي